الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)

[ بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة وما توفيقي إلا بالله ] تفسير سورة الأنعام [ وهي مكية ] قال العوفي وعكرمة وعطاء ، عن ابن عباس : أنزلت سورة الأنعام بمكة سبب نزولها . وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة ، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح
وقال سفيان الثوري ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت سورة الأنعام على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة [ واحدة ] وأنا آخذة بزمام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة
وقال شريك ، عن ليث ، عن شهر ، عن أسماء قالت : نزلت سورة الأنعام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا ما بين السماء والأرض
وقال السدي ، عن مرة ، عن عبد الله قال : نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة .
وروي نحوه من وجه آخر ، عن ابن مسعود .
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل قالا حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي ، أخبرنا جعفر بن عون ، حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي ، حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق " . ثم قال : صحيح على شرط مسلم
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا إبراهيم بن درستويه الفارسي ، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عمر بن طلحة الرقاشي ، عن نافع بن مالك أبي سهيل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة ، سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والأرض بهم ترتج " ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " سبحان الله العظيم ، سبحان الله العظيم "
ثم روى ابن مردويه ، عن الطبراني ، عن إبراهيم بن نائلة ، عن إسماعيل بن عمرو ، عن يوسف بن عطية ، عن ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله : " نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة ، وشيعها سبعون ألفا من الملائكة ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد "
يقول الله تعالى مادحا نفسه الكريمة ، وحامدا لها على خلقه السموات والأرض قرارا لعباده وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم ، فجمع لفظ " الظلمات " ووحد لفظ " النور " ; لكونه أشرف ، كما قال ( عن اليمين والشمائل ) [ النحل : 48 ] ، وكما قال في آخر هذه السورة ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) [ الأنعام : 153 ] .
وقوله : ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) أي : ومع هذا كله كفر به بعض عباده ، وجعلوا معه شريكا وعدلا واتخذوا له صاحبة وولدا ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)

هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال، ونعوت العظمة والجلال عموما، وعلى هذه المذكورات خصوصا. فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض، الدالة على كمال قدرته، وسعة علمه ورحمته، وعموم حكمته، وانفراده بالخلق والتدبير، وعلى جعله الظلمات والنور، وذلك شامل للحسي من ذلك، كالليل والنهار، والشمس والقمر. والمعنوي، كظلمات الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور العلم والإيمان، واليقين، والطاعة، وهذا كله، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى، هو المستحق للعبادة، وإخلاص الدين له، ومع هذا الدليل ووضوح البرهان { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يعدلون به سواه، يسوونهم به في العبادة والتعظيم، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)

القول في تأويل قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : " الحمد لله " ، الحمدُ الكامل لله وحده لا شريك له دون جميع الأندادِ والآلهة, ودون ما سواه مما تعبده كَفَرةُ خلْقه من الأوثان والأصنام .
وهذا كلام مخرجه مَخرج الخبر يُنْحَى به نحو الأمر. يقول: أخلصوا الحمد والشكر للذي خَلَقَكم، أيها الناس، وخلق السماوات والأرض, ولا تشركوا معه في ذلك أحدًا أو شيئًا, (1) فإنه المستوجب عليكم الحمدَ بأياديه عندكم ونعمة عليكم, لا من تعبدونه من دونه، وتجعلونه له شريكًا من خَلْقه .
* * *
وقد بينا الفصل بين معنى " الحمد والشكر " بشواهده فيما مضى قبل . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض, وأظلم الليلَ ، وأنارَ النَّهار، كما:-
13040 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " وجعل الظلمات والنور " ، قال: الظلمات ظلمة الليل, والنور نورُ النهار .
13041 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أمّا قوله: " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور " ، فإنه خلق السَّماوات قبل الأرض, والظلمةَ قبل النور, والجنّة قَبل النار .
* * *
فإن قال قائل: فما معنى قوله إذًا: " جعل ".
قيل: إن العرب تجعلها ظرفًا للخبرِ والفِعْل فتقول: " جعلت أفعل كذا ", و " جعلت أقوم وأقعد ", تدل بقولها " جعلت " على اتصال الفعل, كما تقول " علقت أفعل كذا " = لا أنها في نفسها فِعْلٌ. يدلُّ على ذلك قول القائل: " جعلت أقوم ", وأنه لا جَعْلَ هناك سوى القيام, وإنما دَلَّ بقوله: " جعلت " على اتّصال الفعل ودوامه، (3)
ومن ذلك قول الشاعر: (4)
وَزَعَمْـتَ أنَّـكَ سَـوْفَ تَسْـلُكُ فَارِدًا
وَالمَــوْتُ مُكْــتَنِعٌ طَـرِيقَيْ قَـادِرِ
فَــاجْعَلْ تَحَـلَّلْ مِـنْ يَمِينِـكَ إنَّمَـا
حِـنْثٌ اليَمِيـنِ عَـلَى الأثِيـمِ الفَـاجِرِ (5)
يقول: " فاجعل تحلّل "، بمعنى: تحلل شيئًا بعد شيء = لا أن هناك جَعْلا من غير التحليل . فكذلك كل " جَعْلٍ" في الكلام، إنما هو دليل على فعلٍ له اتصال, لا أن له حظًّا في معنى الفعْل.
* * *
فقوله: " وجعل الظلمات والنور " ، إنما هو: أظلم ليلَهما، وأنارَ نَهارَهُما.
* * *
القول في تأويل قوله : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، معجِّبًا خلقَه المؤمنين من كفَرة عباده، ومحتجًّا على الكافرين: إنّ الإله الذي يجبُ عليكم، أيها الناس، حمدُه، هو الذي خلَق السماوات والأرض, الذي جعل منهما معايشَكم وأقواتكم، وأقواتَ أنعامكم التي بها حياتكم. فمن السماوات ينـزل عليكم الغيثُ، وفيها تجري الشمس والقمر باعتِقابٍ واختلاف لمصالحكم. ومن الأرض ينبُتُ الحب الذي به غذاؤكم، والثمارُ التي فيها ملاذُّكم, مع غير ذلك من الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم بها = والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم، أيها الناس =" بربهم "، الذي فعل ذلك وأحدثه =" يعدلون " ، يجعلون له شريكًا في عبادتهم إياه, فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثانَ, وليس منها شيء شرِكه في خلق شيءٍ من ذلك، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم, بل هو المنفرد بذلك كله, وهم يشركون في عبادتهم إيّاه غيره . فسبحان الله ما أبلغها من حجة، وأوجزها من عظة, لمن فكَّر فيها بعقل، وتدبرها بفهم !
* * *
ولقد قيل: إنها فاتحة التوراة .
* ذكر من قال ذلك:
13042 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب قال: فاتحة التوراة فاتحة " الأنعام ": " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجَعَل الظلمات والنور ثم الذين كَفَروا بربِّهم يعدلون " . (6)
13043 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب, عن جعفر بن سليمان, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب, مثله = وزاد فيه: وخاتمة التوراة خاتمة " هود " .
* * *
يقالُ من مساواة الشيء بالشيء: " عدلتُ هذا بهذا ", إذا ساويته به،" عَدْلا " . وأما في الحكم إذا أنصفت فيه, فإنك تقول: " عَدَلت فيه أعدلُ عَدْلا " . (7)
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: " يعدلون " ، قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
13044 - حدثني ابن محمد عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " يعدلون " ، قال: يشركون .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بذلك:
فقال بعضهم: عُني به أهل الكتاب .
* ذكر من قال ذلك:
13045 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن ابن أبزى قال: جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية: " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربِّهم يعدِلون " ، قال له: أليس الذين كفروا بربِّهم يعدلون؟ قال: بلى ! قال: وانصرف عنه الرجل, فقال له رجل من القوم: يا ابن أبزى, إن هذا قد أراد تفسيرَ هذه غير هذا! إنه رجلٌ من الخوارج ! فقال: ردّوه عليّ . فلما جاءه قال: هل تدري فيمن نـزلت هذه الآية؟ قال: لا! قال: إنها نـزلت في أهل الكتاب, اذهبْ، ولا تضعها على غير حدِّها . (8)
وقال آخرون: بل عُنى بها المشركون من عبدةِ الأوثان .
* ذكر من قال ذلك:
13046 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " ، قال: [هؤلاء: أهل صراحيه] . (9)
13047- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " ، قال: هم المشركون .
13048 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون "، قال: الآلهة التي عبَدوها، عدلوها بالله . قال: وليس لله عِدْلٌ ولا نِدٌ, وليس معه آلهة, ولا اتخذ صاحبةً ولا ولدًا .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أخبر أنّ الذين كفروا بربهم يعدلون, فعمّ بذلك جميع الكفّار, ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. فجميعهم داخلون في ذلك: يهودهم, ونصاراهم, ومجوسهم, وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر .
-------------------
الهوامش :
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أحدا شيئًا" ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) انظر تفسير"الحمد" فيما سلف 1 : 135 - 141.
(3) انظر ما كتبته على الأثر رقم: 8317 ، ج 7: 547 ، تعليق: 6/ ثم الأثر: 12834 ، ج: 11: 128 ، تعليق: 1 ، في قوله: "فذهب ينزل" وقوله: "تذهب فتختلط" ، وقد سميتها هناك ألفاظ الاستعانة. وقد أجاد أبو جعفر العبارة عن هذا المعنى ، فقيده وحفظه.
(4) لم أعرف قائله.
(5) لم أجد البيتين فيما بين يدي من الكتب ، وإن كنت أذكر أني قرأتهما قبل ، ثم لا أدري أين؟ وكان البيت الأول في المطبوعة:
وَزَعَمْـتَ أَنَّـكَ سَـوفَ تَسْـلُك قادِرًا
وَالمــوتُ مُتَّسِــعٌ طَـرِيقي قـادِرِ
وهو كلام صفر من المعنى. وكان في المخطوطة هكذا.
وزعمـتَ أنـك سـوف تسلك مال را
المــوت ملســع طــريقي قـادرِ
ورجحت قراءته كما أثبته ، وكما أتوهم أني أذكر من معنى الشعر ، وأظنه من كلام شاعر يقوله لأخيه أو صاحبه ، أراد أن ينفرد في طريقه وحلف ليفعلن ذلك ، فسخر منه ، وقال له ما قال. وقوله: "فارد" ، أي منفردًا منقطعًا عن رفيقك وصاحبك. وقوله: "والموت مكتنع" ، أي: دان قد أشرف عليك. يقال"كنع الموت واكتنع" دنا وقرب ، قال: الراجز:
وَاكْـــتَنَعَتْ أُمُّ اللُّهَيْـــمِ وَاكْــتَنَعْ
و"أم اللهيم" ، كنية الموت ، لأنه يلتهم كل شيء.
هذا اجتهادي في تصحيح الشعر ، حتى يوجد في مكان غيره.
(6) الأثر: 13042 -"عبد العزيز بن عبد الصمد العمي" ، "أبو عبد الصمد" ، ثقة حافظ ، من شيوخ أحمد ، روى له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب.
و"أبو عمران الجوني" هو"عبد الملك بن حبيب الأزدي" ، ثقة ، مضى برقم: 80.
و"عبد الله بن رباح الأنصاري" ، ثقة ، مضى برقم: 4810.
و"كعب" ، هو كعب الأحبار المشهور بأخباره الإسرائيلية.
(7) انظر تفسير"العدل فيما سلف 2: 35/11 : 43 ، 44.
(8) الأثر: 13045 -"يعقوب القمي" ، هو"يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي" ، ثقة ، مضى برقم: 617 ، 7269 ، 8158.
و"جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي" ، ثقة ، مضى برقم: 87 ، 617 ، 4347 ، 7269.
و"ابن أبزى" هو: "سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي" ، ثقة ، مضى برقم: 9656 ، 9657 ، 9672.
وأراد السائل من الخوارج بسؤاله ، الاستدلال بالآية على تكفير أهل القبلة ، في أمر تحكيم علي بن أبي طالب. وذلك هو رأي الخوارج.
(9) في المطبوعة: "هؤلاء أهل صراحة" ، وهو كلام لا معنى له ، وفي المخطوطة ما أثبته بين القوسين ، لم أستطع أن أحل رموزه ، فلعله يوجد بعد في كتاب غير الكتب التي في أيدينا ، فتبين صحته.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)

سورة الأنعام
وهي مكية في قول الأكثرين قال ابن عباس وقتادة : هي مكية كلها إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة ، قوله تعالى : وما قدروا الله حق قدره نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين والأخرى قوله : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، وقال ابن جريج : نزلت في معاذ بن جبل ، وقال الماوردي . وقال الثعلبي سورة " الأنعام " مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وما قدروا الله حق قدره إلى آخر ثلاث آيات و قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية : وهي الآيات المحكمات وذكر ابن العربي : أن قوله تعالى : قل لا أجد نزل بمكة يوم عرفة وسيأتي القول في جميع ذلك إن شاء الله وفي الخبر أنها نزلت جملة واحدة غير الست الآيات وشيعها سبعون ألف ملك مع آية واحدة منها اثنا عشر ألف ملك وهي وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو نزلوا بها ليلا لهم زجل بالتسبيح والتحميد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم وأسند أبو جعفر النحاس قال : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة ، قال حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص ، عن نافع أبي سهل بن مالك ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والأرض لهم ترتج ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : سبحان ربي العظيم ثلاث مرات وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : الأنعام من نجائب القرآن . وفيه عن كعب ، قال : فاتحة " التوراة " فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة " هود " . وقاله وهب بن منبه أيضا وذكر المهدوي قال المفسرون إن " التوراة " افتتحت بقوله : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض الآية . وختمت بقوله الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك إلى آخر الآية . وذكر الثعلبي عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من قرأ ثلاث آيات من أول سورة " الأنعام " إلى قوله : ويعلم ما تكسبون وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد ، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له أو يوحي في قلبه شيئا ضربه ضربة فيكون بينه وبينه سبعون حجابا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى : امش في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي وأنا ربك . وفي البخاري عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة " الأنعام " قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم إلى قوله : وما كانوا مهتدين
تنبيه : قال العلماء : هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين لأن فيها آيات بينات ترد على القدرية دون السور التي تذكر والمذكورات ، وسنزيد ذلك بيانا إن شاء الله بحول الله تعالى .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : الحمد لله بدأ سبحانه فاتحتها بالحمد على نفسه ، وإثبات الألوهية ، أي : إن الحمد كله له فلا شريك له ، فإن قيل : فقد افتتح غيرها بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره ، فيقال : لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة ، وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون ، وقد تقدم معنى الحمد في الفاتحة .
الثانية : قوله تعالى : الذي خلق السماوات والأرض أخبر عن قدرته وعلمه وإرادته فقال : الذي خلق ، أي : اخترع وأوجد وأنشأ وابتدع والخلق يكون بمعنى الاختراع ويكون بمعنى التقدير ، وقد تقدم وكلاهما مراد هنا وذلك دليل على حدوثهما فرفع السماء بغير عمد وجعلها مستوية من غير أود ، وجعل فيها الشمس والقمر آيتين وزينها بالنجوم وأودعها السحاب والغيوم علامتين ، وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات ، وبث فيها من كل دابة آيات جعل فيها الجبال أوتادا ، وسبلا فجاجا ، وأجرى فيها الأنهار والبحار ، وفجر فيها العيون من الأحجار ، دلالات على وحدانيته ، وعظيم قدرته وأنه هو الله الواحد القهار ، وبين بخلقه السماوات والأرض أنه خالق كل شيء .
الثالثة : خرج مسلم قال : حدثني سريج بن يونس ، وهارون بن عبد الله ، قالا : حدثنا حجاج بن محمد ، قال : قال ابن جريج : أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل .
قلت : أدخل العلماء هذا الحديث تفسيرا لفاتحة هذه السورة ; قال البيهقي : وزعم أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفة ما عليه أهل التفسير وأهل التواريخ . وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن أيوب بن خالد ، وإبراهيم غير محتج به ، وذكر محمد بن يحيى ، قال : سألت علي بن المديني عن حديث أبى هريرة خلق الله التربة يوم السبت . فقال علي : هذا حديث مدني رواه هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن أبي رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي . قال علي : وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى ، فقال لي : شبك بيدي أيوب بن خالد ، وقال لي شبك بيدي عبد الله بن رافع ، وقال لي : شبك بيدي أبو هريرة ، وقال لي : شبك بيدي أبو القاسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : خلق الله الأرض يوم السبت فذكر الحديث بنحوه . قال علي بن المديني : وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا الأمر إلا من إبراهيم بن أبي يحيى ، قال البيهقي : وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي ، عن أيوب بن خالد إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف . وروي عن بكر بن الشرود ، عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن صفوان بن سليم ، عن أيوب بن خالد ، وإسناده ضعيف ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه قال : فقال عبد الله بن سلام : إن الله عز وجل ابتدأ الخلق فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين ، وخلق السماوات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، وخلق الأقوات وما في الأرض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر ، وما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس خلق آدم . خرجه البيهقي .
قلت : وفيه أن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد لا يوم السبت . وكذلك تقدم في البقرة عن ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم فيها الاختلاف أيما خلق أولا الأرض أو السماء مستوفى والحمد لله .
الرابعة : قوله تعالى : وجعل الظلمات والنور ذكر بعد خلق الجواهر خلق الأعراض لكون الجوهر لا يستغني عنه وما لا يستغني عن الحوادث فهو حادث . والجوهر في اصطلاح المتكلمين هو الجزء الذي لا يتجزأ الحامل للعرض ، وقد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى في اسمه " الواحد " ، وسمي العرض عرضا ، لأنه يعرض في الجسم والجوهر فيتغير به من حال إلى حال ، والجسم هو المجتمع ، وأقل ما يقع عليه اسم الجسم جوهران مجتمعان ، وهذه الاصطلاحات وإن لم تكن موجودة في الصدر الأول فقد دل عليها معنى الكتاب والسنة ، فلا معنى لإنكارها ، وقد استعملها العلماء واصطلحوا عليها وبنوا عليها كلامهم ، وقتلوا بها خصومهم ، كما تقدم في البقرة . واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور ، فقال السدي وقتادة وجمهور المفسرين : المراد سواد الليل وضياء النهار ، وقال الحسن : الكفر والإيمان ، قال ابن عطية : وهذا خروج عن الظاهر .
قلت : اللفظ يعمه ، وفي التنزيل : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ، والأرض هنا اسم للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها ، وكذلك والنور ومثله ثم يخرجكم طفلا وقال الشاعر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
وقد تقدم وجعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قاله ابن عطية .
قلت : وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق ، فيكون الجمع معطوفا على الجمع ، والمفرد معطوفا على المفرد ، فيتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة ، والله أعلم ، وقيل : جمع الظلمات ووحد النور لأن الظلمات لا تتعدى والنور يتعدى ، وحكى الثعلبي أن بعض أهل المعاني قال : جعل هنا زائدة والعرب تزيد " جعل " في الكلام كقول الشاعر :
وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبر
قال النحاس : جعل بمعنى خلق وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد . وقد تقدم هذا المعنى ، ومحامل ( جعل ) في " البقرة " مستوفى .
الخامسة : قوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ابتداء وخبر ، والمعنى : ثم الذين كفروا يجعلون لله عدلا وشريكا ، وهو الذي خلق هذه الأشياء وحده ، قالابن عطية : ف ( ثم ) دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى : أن خلقه السماوات والأرض قد تقرر وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم ، فهذا كما تقول : يا فلان ، أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ، ولو وقع العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم ، والله أعلم .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)

مكية ، وهي مائة وخمس وستون آية ، نزلت بمكة [ جملة ] ليلا معها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخر ساجدا " .
وروي مرفوعا : " من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره " .
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت سورة الأنعام بمكة ، إلا قوله : " وما قدروا الله حق قدره " ، إلى آخر ثلاث آيات ، وقوله تعالى : " قل تعالوا أتل " ، إلى قوله : " لعلكم تتقون " ، فهذه الست آيات مدنيات .
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) قال كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة ، وآخر آية في التوراة قوله : " الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا " الآية ( الإسراء - 111 ) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : افتتح الله الخلق بالحمد ، فقال : ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) ، وختمه بالحمد فقال : ( وقضي بينهم بالحق ) ، أي : بين الخلائق ، ( وقيل الحمد لله رب العالمين ) [ الزمر - 75 ] .
قوله : " الحمد لله " حمد الله نفسه تعليما لعباده ، أي : احمدوا الله الذي خلق السموات والأرض ، خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع للعباد ، ( وجعل الظلمات والنور ) والجعل بمعنى الخلق ، قال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان ، إلا في هذه الآية فإنه يريد بهما الليل والنهار .
وقال الحسن : وجعل الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان ، وقيل : أراد بالظلمات الجهل وبالنور العلم .
وقال قتادة : يعني الجنة والنار .
وقيل : معناه خلق الله السموات والأرض ، وقد جعل الظلمات والنور ، لأنه خلق الظلمة والنور قبل السموات والأرض .
قال قتادة : خلق الله السموات قبل الأرض ، والظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى خلق الخلق فى ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " .
( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) أي : ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون ، أي : يشركون ، وأصله من مساواة الشيء بالشيء ، ومنه العدل ، أي : يعدلون بالله غير الله تعالى ، يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته ، وبه قال النضر بن شميل ، الباء بمعنى عن ، أي : عن ربهم يعدلون ، أي يميلون وينحرفون من العدول ، قال الله تعالى ( عينا يشرب بها عباد الله ) أي : منها .
وقيل : تحت قوله " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " معنى لطيف ، وهو مثل قول القائل : أنعمت عليكم بكذا وتفضلت عليكم بكذا ، ثم تكفرون بنعمتي .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features