۞ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنـزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها.
فقال بعضهم بما:
554- حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لَما ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، الآيات الثلاث - قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال، فأنـزل الله: " إن الله لا يستحي أنْ يضرب مثَلا ما بعوضةً" إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
وقال آخرون بما:
555- حدثني به أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا قُرَاد، عن أبي جعفر الرازي, عن الرّبيع بن أنس, في قوله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها ". قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا, إن البعوضة تحيا ما جاعتْ, فإذا سمنت ماتتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلأوا من الدنيا رِيًّا أخذَهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [سورة الأنعام: 44] (29) .
556- حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس بنحوه - إلا أنه قال: فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم (30) ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [سورة الأنعام: 44].
وقال آخرون بما:
557- حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد عن سعيد, عن قتادة، قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "، أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قل منه أو كثر (31) . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنـزل الله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ".
558- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب, قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنـزل الله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " (32) .
وقد ذهب كلّ قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية، وفي المعنى الذي نـزلت فيه، مذهبًا؛ غير أنّ أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس.
وذلك أنّ الله جلّ ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها، عَقِيب أمثالٍ قد تقدمت في هذه السورة، ضربها للمنافقين، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول - أعني قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " - جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة، أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور.
فإن قال قائل: إنما أوْجبَ أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرَب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثالٌ موافقة المعنى لما أخبر عنه: أنه لا يستحي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت، وبعضها تشبيهًا لها في الضّعف والمهانة بالذباب. وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوزَ أنْ يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا (33) .
فإن ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنّ قول الله جلّ ثناؤه: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "، إنما هو خبرٌ منه جلّ ذكره أنه لا يستحي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرِها وكبيرِها، ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به, إضلالا منه به لقوم، وهدايةً منه به لآخرين.
559- كما حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " مثلا ما بعوضة "، يعني الأمثال صغيرَها وكبيرَها, يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها ويُضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
560- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله.
561- حدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج عن مجاهد، مثله (34) .
قال أبو جعفر:- لا أنه جلّ ذكره قصَد الخبرَ عن عين البعوضة أنه لا يستحي من ضرْب المثل بها, ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -
562- كما حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة, قال: البعوضة أضعفُ ما خلق الله.
563- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، بنحوه (35) .
- (36) خصها الله بالذكر في القِلة, فأخبر أنه لا يستحي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحق وأحقرَها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع، جوابًا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرَب لهم من المثل بمُوقِد النار والصيِّب من السماء، على ما نَعَتهما به من نَعْتهما.
فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الأمثالَ التي وصفتَ، الذي هذا الخبر جوابه, فنعلم أنّ القول في ذلك ما قلت؟
قيل: الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره (37) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا . وإن القوم الذين ضرَب لهم الأمثال في الآيتين المقدَّمتين - اللتين مثَّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما (38) ، بمُوقِد النار وبالصيِّب من السماء (39) ، على ما وصف من ذلك قبل قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " - قد أنكروا المثل وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قِيلهم ذلك, وقبّح لهم ما نطقوا به، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه, وأنه ضلال وفسوق, وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه.
وأما تأويل قوله: " إن الله لا يستحيي"، فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى " إن الله لا يستحيي": إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهدُ على ذلك من قوله بقول الله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [سورة الأحزاب: 37]، ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناسَ والله أحقُّ أن تستحيه - فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية, والخشية بمعنى الاستحياء (40) .
وأما معنى قوله: " أن يضرب مثلا "، فهو أن يبيِّن ويصف, كما قال جل ثناؤه: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [سورة الروم: 28]، بمعنى وصف لكم, وكما قال الكُمَيْت:
وَذَلِــكَ ضَــرْبُ أَخْمَـاسٍ أُرِيـدَتْ
لأَسْــدَاسٍ, عَسَــى أَنْ لا تَكُونَــا (41)
بمعنى: وصف أخماس.
والمثَل: الشبه, يقال: هذا مَثَل هذا ومِثْله, كما يقال: شبَهُه وشِبْهه, ومنه قول كعب بن زهير:
كَـانَتْ مَوَاعِيـدُ عُرْقُـوبٍ لَهَـا مَثَلا
وَمَـــا مَوَاعِيدُهَــا إِلا الأَبَــاطِيلُ (42)
يعني شَبَهًا، فمعنى قوله إذًا: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " : إن الله لا يخشى أن يصف شبهًا لما شبّه به (43) .
وأما " ما " التي مع " مثل "، فإنها بمعنى " الذي", لأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةً في الصغر والقِلة فما فوقها - مثلا.
فإن قال لنا قائل: فإن كان القول في ذلك ما قلت (44) ، فما وجه نصب البعوضة, وقد علمتَ أنّ تأويل الكلام على ما تأولت (45) : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة؛ فالبعوضةُ على قولك في محل الرفع؟ فأنى أتاها النصب؟
قيل: أتاها النصب من وجهين: أحدُهما، أن " ما " لما كانت في محل نصْب بقوله " يضرب "، وكانت البعوضة لها صلة، عُرِّبت بتعريبها (46) فألزمت إعرابها، كما قال حسان بن ثابت:
وَكَـفَى بِنَـا فَضْـلا عَـلَى مَنْ غَيْرِنَا
حُـــبُّ النَّبِــيِّ مُحَــمَّدٍ إِيَّانَــا (47)
فعُرِّبت " غيرُ" بإعراب " من ". والعرب تفعل ذلك خاصة في" من " و " ما " (48) ، تعرب صِلاتهما بإعرابهما، لأنهما يكونان معرفة أحيانًا، ونكرة أحيانًا.
وأما الوجه الآخر, فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحْيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها, ثم حذف ذكر " بين " و " إلى ", إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في" ما " الثانية، دلالة عليهما, كما قالت العرب: " مُطِرنا ما زُبالة فالثَعْلَبِيَّة " و " له عشرون ما ناقة فجملا "، و " هي أحسنُ الناس ما قرنًا فقدمًا "، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها (49) . وكذلك يقولون في كل ما حسُن فيه من الكلام دخول: " ما بين كذا إلى كذا ", ينصبون الأول والثاني، ليدلّ النصبُ فيهما على المحذوف من الكلام (50) . فكذلك ذلك في قوله: " ما بعوضة فما فوقها " (51) .
وقد زعم بعضُ أهل العربية أنّ " ما " التي مع المثَل صلةٌ في الكلام بمعنى التطوُّل (52) وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضربَ بعوضةً مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل، يجب أن تكون " بعوضةً" منصوبةً بـ " يضرب ", وأن تكون " ما " الثانية التي في" فما فوقها " معطوفة على البعوضة لا على " ما ".
وأما تأويل قوله " فما فوقها ": فما هو أعظم منها (53) -عندي- لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج: أن البعوضة أضعف خلق الله, فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى ص[ 1-406 ]-على ما قالاه- فما فوقها في العظم والكبر, إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة.
وقيل في تأويل قوله " فما فوقها "، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكرُه الذاكرُ فيصفه باللؤم والشحّ, فيقول السامع: " نعم, وفوقَ ذاك ", يعني فوقَ الذي وصف في الشحّ واللؤم (54) ، وهذا قولٌ خلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن.
فقد تبين إذًا، بما وصفنا، أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبَهًا لما شبَّه به الذي هو ما بين بعوضةٍ إلى ما فوق البعوضة.
فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة، فغير جائز في" ما "، إلا ما قلنا من أن تكون اسما، لا صلة بمعنى التطول (55) .
القول في تأويل قوله : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فأما الذين آمنوا "، فأما الذين صدّقوا الله ورسوله. وقوله: " فيعلمون أنه الحق من ربهم ". يعني: فيعرفون أن المثَل الذي ضرَبه الله، لِما ضرَبه له، مثَل.
564- كما حدثني به المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم "، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم، وأنه كلامُ الله ومن عنده (56) .
565- وكما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة, قوله " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم "، أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن، وأنه الحق من الله (57) .
" وأما الذين كفروا فيقولونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا ".
قال أبو جعفر: وقوله " وأما الذين كفرُوا "، يعني الذين جحدوا آيات الله، وأنكرُوا ما عرفوا، وستروا ما علموا أنه حق، وذلك صفةُ المنافقين, وإياهم عَنَى الله جلّ وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية, فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي:-
566- حدثنا به محمد عن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " فأما الذين آمنوا فيعلمونَ أنه الحقّ من ربهم " الآية, قال: يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها، ويَضلّ بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به (58) .
وتأويل قوله: " ماذا أراد الله بهذا مثلا "، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا." فذا "، الذي مع " ما "، في معنى " الذي"، وأراد صلته, وهذا إشارةٌ إلى المثل (59) .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز: " يضلّ به كثيرًا "، يضلّ الله به كثيرًا من خلقه. والهاء في" به " من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدَأٌ, ومعنى الكلام: أن الله يُضلّ بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر:-
567- كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " يضلّ به كثيرًا " يعني المنافقين," ويهدي به كثيرًا "، يعني المؤمنين (60) .
- فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضرَبه له، وأنه لما ضرَبه له موافق. فذلك إضْلال الله إياهم به. و " يهدي به "، يعني بالمثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق, فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضرَبه الله له مثلا وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به.
وقد زعم بعضهم أنّ ذلك خبرٌ عن المنافقين, كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله، فقال الله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ . وفيما في سورة المدثر - من قول الله: وليقولَ الذينَ في قلوبهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا. كذلك يُضلّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك، مبتدأٌ - أعني قوله: " يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا ".
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26)
وتأويل ذلك ما:-
568- حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " وما يُضلّ به إلا الفاسقين "، هم المنافقون (61) .
569- وحدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " وما يُضِلّ به إلا الفاسقين "، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم (62) .
570- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " وما يضل به إلا الفاسقين "، هم أهل النفاق (63) .
قال أبو جعفر: وأصلُ الفسق في كلام العرب: الخروجُ عن الشيء. يقال منه: فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة, لخروجها عن جُحرها (64) ، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف: 50]، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره.
571- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة, قال: حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحُصين, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن ابن عباس في قوله: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة: 59]، أي بما بعُدوا عن أمري (65) . فمعنى قوله: " وما يُضلّ به إلا الفاسقين "، وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق، إلا الخارجين عن طاعته، والتاركين اتباعَ أمره، من أهل الكفر به من أهل الكتاب، وأهل الضّلال من أهل النفاق.
--------------------
الهوامش :
(29) الأثر 555-"قراد" بضم القاف وفتح الراء مخففة : لقب له ، واسمه"عبد الرحمن بن غزوان بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي ، الخزاعي" ، وهو ثقة ، وقال أحمد : "كان عاقلا من الرجال" . وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/2/274 .
(30) في المطبوعة : "خلى آجالهم" ، وفي المخطوطة"خلا" ، والصواب ما أثبته . وخلا العمر يخلو خلوا : مضى وانقضى .
(31) في المخطوطة : "شيئًا قل منه أو كثر" بحذف"ما" ، وفي ابن كثير"مما قل أو كثر" وكلها متقاربة .
(32) الآثار : 554 - 558 أكثرها في ابن كثير 1 : 117 ، وبعضها في الدر المنثور 1 : 41 ، والشوكاني 1 : 45 .
(33) في المطبوعة : "أن يضرب مثلا ما" ، وليست بشيء .
(34) الآثار : 559 - 561 ، وهي واحد كلها ، في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وسيأتي برقم : 566 .
(35) الأثر : 562 في الدر المنثور 1 : 41 .
(36) قوله : "خصها . . " جواب قوله آنفًا : " . . لما كانت أضعف الخلق" .
(37) في المطبوعة : "الدلالة على ذلك بينها جل ذكره في قوله" .
(38) قوله : "فيهما" متعلق بقوله"مثل" ، أي : اللتين مثل فيهما -ما عليه المنافقون مقيمون- بموقد النار . .
(39) في المطبوعة : "وبالصيب من السماء" .
(40) لم أعرف قائل هذا القول من المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب ، ولكني رأيت أبا حيان يقول في تفسيره 1 : 121 ، يزعم أن هذا المعنى هو الذي رجحه الطبري ، ومن البين أنه أخطأ فيما توهمه ، فإن لفظ الطبري دال على أنه لم يحقق معناه ، ولم يرضه ، ولم ينصره . هذا على أني أظن أن مجاز اللفظ يجيز مثل هذا الذي قاله المنسوب إلى المعرفة بلغة العرب ، وإن كنت أكره أن أحمل هذه الآية على هذا المعنى .
(41) هذا بيت استرقه الكميت استراقًا ، على أنه مثل اجتلبه . وأصله : أن شيخًا كان في إبله ، ومعه أولاده رحالا يرعونها ، قد طالت غربتهم عن أهلهم . فقال لهم ذات يوم : "ارعوا إبلكم ربعا" (بكسر فسكون : وهو أن تحبس عن الماء ثلاثًا ، وترد في اليوم الرابع) ، فرعوا ربعًا نحو طريق أهلهم . فقالوا : لو رعيناها خمسًا! (بكسر فسكون : أن تحبس أربعًا وترد في الخامس) فزادوا يومًا قبل أهلهم . فقالوا : لو رعيناها سدسًا! (أن تحبس خمسًا وترد في السادس) . ففطن الشيخ لما يريدون ، فقال : ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس ، ما همتكم رعيها ، إنما همتكم أهلكم! وأنشأ يقول :
وَذَلِـــكَ ضَــرْبُ أَخْمَــاسٍ أُرَاهُ,
لأَسْــدَاسٍ, عَسَــى أَنْ لا تَكُونَــا
فصار قولهم : "ضرب أخماس لأسداس" مثلا مضروبًا للذي يراوغ ويظهر أمرًا وهو يريد غيره .
وحقيقة قوله"ضرب : بمعنى وصف" ، أنه من ضرب البعير أو الدابة ليصرف وجهها إلى الوجه الذي يريد ، يسوقها إليه لتسلكه . فقولهم : ضرب له مثلا ، أي ساقه إليه ، وهو يشعر بمعنى الإبانة بالمثل المسوق . وهذا بين .
(42) ديوانه : 8 ، وفي المخطوطة : "وما مواعيده" ، وعرقوب -فيما يزعمون- : هو عرقوب ابن نصر ، رجل من العمالقة ، نزل المدينة قبل أن تنزلها يهود بعد عيسى ابن مريم عليه السلام . وكان يحتال في إخلاف المواعيد بالمماطلة ، كما هو معروف في قصته .
(43) هذا بقية تفسير الكلمة على مذهب من قال إن الاستحياء بمعنى الخشية ، لا ما أخذ به الطبري ، وتفسير الطبري صريح بين في آخر تفسير الآية .
(44) في المطبوعة : "كما قلت" .
(45) في المطبوعة : "على ما تأولت" ، وليست بجيدة .
(46) في المطبوعة"أعربت بتعريبها" . وقوله"عربت" : أي أجريت مجراها في الإعراب ، وهذا هو معنى"التعريب" في اصطلاح قدماء النحاة ، وستمر بك كثيرًا فاحفظها ، وهي أوجز مما اصطلح عليه المحدثون منهم .
(47) ليس في ديوانه ، ويأتي في الطبري 4 : 99 غير منسوب ، وفي الخزانة : 2 : 545 - 546 أنه لكعب بن مالك ، ونسب إلى حسان بن ثابت ولم يوجد في شعره . ونسب لبشير بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، ونسب أيضًا لعبد الله بن رواحة . وذكره السيوطي في شرح شواهد المغني : 116 ، 252 ، وأثبت بيتا قبله :
نَصَــرُوا نَبِيَّهُــمُ بِنَصْــرِ وَلِيِّـهِ
فاللــه, عَــزَّ, بِنَصْــرِهِ سَــمَّانَا
قال : يعني أن الله عز وجل سماهم"الأنصار" ، لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن والاه . والباء في"بنصر وليه" ، بمعنى"مع" .
(48) في المطبوعة : "فالعرب تفعل . . . " .
(49) في المخطوطة : "يعنون بذلك من قرنها . . " .
(50) في المخطوطة : "ليدل النصب في الأسماء على المحذوف . . . " ، وهما سواء
(51) أكثر هذا من كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 21 - 22 ، وذكر الوجهين السالفين جميعًا ، وكلامه أبسط من كلام الطبري وأبين .
(52) قد مضى قديمًا شرح معنى التطول (انظر : 18 ، 224 وما يأتي ص : 406 ، 154 من بولاق) ، وهو الزيادة في الكلام . وهذا الذي قال عنه : "زعم بعض أهل العربية" ، هو الفراء نفسه ، فقد ذكر هذا أول وجه من ثلاثة وجوه في الآية في معاني القرآن 1 : 21 ، وقال : "أولها : أن توقع الضرب على البعوضة ، وتجعل ما صلة ، كقوله : "عما قليل ليصبحن نادمين" ، يريد : عن قليل . المعنى -والله أعلم- : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا" .
والذي يسميه الطبري البغدادي المذهب في النحو"تطولا" ، يسميه الفراء الكوفي المذهب في النحو"صلة" ، وهي الزيادة في الكلام .
(53) في المخطوطة : "فهو ما قد عظم منها" ، وهو خطأ بلا معنى .
(54) في المطبوعة : "فوق الذي وصف" . وهذا التأويل الذي ذكره الطبري ، قد اقترحه الفراء في معاني القرآن 1 : 20 - 21 وأبان عنه ، وقال : "ولو جعلت في مثله من الكلام"فما فوقها" ، تريد أصغر منها ، لجاز ذلك . ولست أستحبه" ، يعني : أنه لا يستحبه في هذا الموضع من تفسير كتاب الله .
(55) قد شرحنا معنى"صلة" و"تطول" فيما مضى ص : 405 .
(56) الأثر : 564- هو عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، كما مر كثيرًا ، وكذلك جاء في الدر المنثور 1 : 43 .
(57) الأثر 565- في ابن كثير 1 : 118 .
(58) الأثر 566- قد مضى برقم : 559 .
(59) في المطبوعة : "فذا مع ما في معنى . . "
(60) الخبر : 567- في ابن كثير 1 : 119 ، والدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وهو فيها تام متصل ، وتمامه الأثر الذي يليه : 568 . ولكن ابن كثير أخطأ ، فوصل هذا الخير بكلام الطبري الذي يليه ، كأنه كله من تفسير ابن عباس وابن مسعود ، وهو خطأ محض . فقول الطبري بعد"فيزيد هؤلاء ضلالا . . " هو من تمام قوله قبل هذا"أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر" .
(61) الخبر 568- تمام الأثر السالف ، وقد ذكرنا موضعه .
(62) الأثر : 569- في ابن كثير 1 : 119 ، وفي الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وفيهما مكان"على فسقهم" ، "بفسقهم" .
(63) الأثر : 570- في ابن كثير 1 : 119 .
(64) انظر الطبري 15 : 170 (بولاق) . وقوله : "يحكى عن العرب سماعًا : فسقت الرطبة من قشرها ، إذا خرجت . وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها" ، وسائر ما قال هناك .
(65) الخبر : 571- لم أجده في مكانه من تفسير آية البقرة ، ولا في أية آية ذكر فيها هذا الحرف . ولم يخرجه أحد ممن اعتمدنا ذكره . وفي المخطوطة : "من أمري" .