وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

قوله تعالى : وجاءت سكرة الموت بالحق أي : غمرته وشدته ; فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقوال وأفعال ليحاسب عليها ، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده . وقيل : الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلى دار الحق ; فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت ، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما ; لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين . وقيل : يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى ; أي : جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت . وقيل : الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت ; ذكره المهدوي . وقد زعم من طعن على القرآن فقال : أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ : وجاءت سكرة الحق بالموت . فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان : إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل ، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها ، أو الغلط من بعض من نقل الحديث . قال أبو بكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبد الله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال : لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما دخلت عليه قالت : هذا كما قال الشاعر :
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر : هلا قلت كما قال الله : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد وذكر الحديث . والسكرة واحدة السكرات . وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أو علبة - فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء ، فيمسح بهما وجهه ويقول : لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول : في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده . خرجه البخاري . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول : السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة . وقال عيسى ابن مريم : " يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة " يعني سكرات الموت . وروي : ( إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ) .
ذلك ما كنت منه تحيد أي : يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه . يقال : حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل . وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت ; لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق . وتقول في الإخبار عن نفسك : حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه قال طرفة : أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

أي { وَجَاءَتْ } هذا الغافل المكذب بآيات الله { سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } الذي لا مرد له ولا مناص، { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي: تتأخر وتنكص عنه.
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وفي قوله ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) وجهان من التأويل, أحدهما: وجاءت سكرة الموت وهي شدّته وغلبته على فهم الإنسان, كالسكرة من النوم أو الشراب بالحقّ من أمر الآخرة, فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه. والثاني: وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت.
وقد ذُكر عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه كان يقرأ ( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الحَقّ بالمَوْتِ ).
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا محمد بن المثنى, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن واصل, عن أبي وائل, قال: لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي, قالت عائشة رضي الله عنها هذا, كما قال الشاعر:
إذَا حَشْرَجَتْ يَوْما وَضَاقَ بِها الصَّدْرُ (4)
فقال أبو بكر رضي الله عنه : لا تقولي ذلك, ولكنه كما قال الله عزّ وجلّ : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (5) . وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود. ولقراءة من قرأ ذلك كذلك من التأويل وجهان:
أحدهما: وجاءت سكرة الله بالموت, فيكون الحقّ هو الله تعالى ذكره. والثاني: أن تكون السكرة هي الموت أُضيفت إلى نفسها, كما قيل : إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ . ويكون تأويل الكلام: وجاءت السكرةُ الحق بالموت.
وقوله ( ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) يقول: هذه السكرة التي جاءتك أيها الإنسان بالحقّ هو الشيء الذي كنت تهرب منه, وعنه تروغ.
--------------------------
الهوامش :
(4) هذا عجز بيت، وصدره كما في ( اللسان : حشرج ) * لعمـرك ما يغني الثراء ولا الغنى *
قال : الحشرجة : تردد صوت النفس وهو الغرغرة في الصدور . وفي حديث عائشة ودخلت على أبيها - رضي الله عنهما - عند موته ، فأنشدت : " لعمرك ... البيت " فقال : ليس كذلك ، ولكن : " وجاء سكرة الحق بالموت ". وهي قراءة منسوبة إليه وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 309 ) عند قوله تعالى : " وجاءت سكرة الموت بالحق " : وفي قراءة عبد الله ( ابن مسعود ) وإن شئت جعلت السكرة هي الموت ، أضفتها إلى نفسها كأنك قلت : جاءت سكرة الحق بالموت أ هـ . قلت : ض وهذا البيت لحاتم الطائي ، وروايته في ديوانه ( لندن سنة 1872 ص 39 ) :
أمـاوِيَّ مـا يُغْنِـي الـثَّرَاءُ عنِ الفَتَى
إذا حَشْـرَجَتْ يوْما وَضَاقَ بها الصَّدْرُ
(5) لعله سكرة الحق بالموت فإنها قراءة الصديق رضي الله عنه إلا أن تكون القراءة الأخرى رويت عنه أيضًا .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features