ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

قوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون
قوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون وقرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق " إنك مائت وإنهم مائتون " وهي قراءة حسنة وبها قرأ عبد الله بن الزبير . النحاس : ومثل هذه الألف تحذف في الشواذ و " مائت " في المستقبل كثير في كلام العرب ، ومثله : ما كان مريضا وإنه لمارض من هذا الطعام . وقال الحسن والفراء والكسائي : الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت ، والميت بالتخفيف من فارقته الروح ، فلذلك لم تخفف هنا . قال قتادة : نعيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه ، ونعيت إليكم أنفسكم . وقال ثابت البناني : نعى رجل إلى صلة بن أشيم أخا له فوافقه يأكل ، فقال : ادن فكل فقد نعي إلي أخي منذ حين ، قال : وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر . قال إن الله تعالى نعاه إلي فقال : إنك ميت وإنهم ميتون . وهو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره بموته وموتهم ، فاحتمل خمسة أوجه :
[ أحدها ] أن يكون ذلك تحذيرا من الآخرة . [ الثاني ] أن يذكره حثا على العمل . [ الثالث ] أن يذكره توطئة للموت . [ الرابع ] لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره ، حتى إن عمر - رضي الله عنه - لما أنكر موته احتج أبو بكر - رضي الله عنه - بهذه الآية فأمسك . [ الخامس ] ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره ، لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة .
ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون يعني تخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم ، قال ابن عباس وغيره . وفي خبر فيه طول : إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد . وقال الزبير : لما نزلت هذه الآية قلنا : يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال : نعم ، ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه . فقال الزبير : والله إن الأمر لشديد . وقال ابن عمر : لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين : ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون فقلنا : وكيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد ، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف ، فعرفت أنها فينا نزلت . وقال أبو سعيد الخدري : ( كنا نقول : ربنا واحد ، وديننا واحد ، ونبينا واحد ، فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : نعم هو هذا ) . وقال إبراهيم النخعي : لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : ما خصومتنا بيننا ؟ فلما قتل عثمان - رضي الله عنه - قالوا : هذه خصومتنا بيننا . وقيل : تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى ، فيستوفي من حسنات الظالم بقدر مظلمته ، ويردها في حسنات من وجبت له . وهذا عام في جميع المظالم كما في حديث أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار خرجه مسلم . وقد مضى المعنى مجودا في [ آل عمران ] وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه . وفي الحديث المسند : أول ما تقع الخصومات في الدنيا وقد ذكرنا هذا الباب كله في التذكرة مستوفى .
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو ، عن ابن حاطب - يعني يحيى بن عبد الرحمن - عن ابن الزبير ، عن الزبير قال : لما نزلت : ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) قال الزبير : يا رسول الله ، أتكرر علينا الخصومة ؟ قال : " نعم " . قال : إن الأمر إذا لشديد .
وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان ، وعنده زيادة : ولما نزلت : ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) [ التكاثر : 8 ] قال الزبير : أي رسول الله ، أي نعيم نسأل عنه ؟ وإنما - يعني : هما الأسودان : التمر والماء - قال : " أما إن ذلك سيكون " .
وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن ماجه ، من حديث سفيان ، به . وقال الترمذي : حسن .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا ابن نمير حدثنا محمد - يعني ابن عمرو - عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير بن العوام قال : لما نزلت هذه السورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) قال الزبير : أي رسول الله ، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال : " نعم ليكررن عليكم ، حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه " . قال الزبير : والله إن الأمر لشديد .
ورواه الترمذي من حديث محمد بن عمرو به وقال : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي عشانة ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أول الخصمين يوم القيامة جاران " . تفرد به أحمد .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده ، إنه ليختصم ، حتى الشاتان فيما انتطحتا " تفرد به أحمد .
وفي المسند عن أبي ذر ، رضي الله عنه [ أنه ] قال : رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاتين ينتطحان ، فقال : " أتدري فيم ينتطحان يا أبا ذر ؟ " قلت : لا . قال : " لكن الله يدري وسيحكم بينهما " .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا سهل بن بحر ، حدثنا حيان بن أغلب ، حدثنا أبي ، حدثنا ثابت عن أنس [ رضي الله عنه ] ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يجاء بالإمام الخائن يوم القيامة ، فتخاصمه الرعية فيفلجون عليه ، فيقال له : سد ركنا من أركان جهنم " .
ثم قال : الأغلب بن تميم ليس بالحافظ .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) يقول : يخاصم الصادق الكاذب ، والمظلوم الظالم ، والمهدي الضال ، والضعيف المستكبر . .
وقد روى ابن منده في كتاب " الروح " ، عن ابن عباس أنه قال : يختصم الناس يوم القيامة ، حتى تختصم الروح مع الجسد ، فتقول الروح للجسد : أنت فعلت . ويقول الجسد للروح : أنت أمرت ، وأنت سولت . فيبعث الله ملكا يفصل بينهما ، فيقول [ لهما ] إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والآخر ضرير ، دخلا بستانا ، فقال المقعد للضرير : إني أرى هاهنا ثمارا ، ولكن لا أصل إليها . فقال له الضرير : اركبني فتناولها ، فركبه فتناولها ، فأيهما المعتدي ؟ فيقولان : كلاهما . فيقول لهما الملك . فإنكما قد حكمتما على أنفسكما . يعني : أن الجسد للروح كالمطية ، وهو راكبه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن أحمد بن عوسجة ، حدثنا ضرار ، حدثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة ، حدثنا القمي - يعني يعقوب بن عبد الله - عن جعفر بن المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ] قال : نزلت هذه الآية ، وما نعلم في أي شيء نزلت : ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) [ قال ] قلنا : من نخاصم ؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة ، فمن نخاصم ؟ حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر : هذا الذي وعدنا ربنا - عز وجل - نختصم فيه .
ورواه النسائي عن محمد بن عامر ، عن منصور بن سلمة ، به .
وقال أبو العالية [ في قوله ] ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) قال : يعني أهل القبلة .
وقال ابن زيد : يعني أهل الإسلام وأهل الكفر .
وقد قدمنا أن الصحيح العموم ، والله أعلم .
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) يقول: ثم إن جميعكم المؤمنين والكافرين يوم القيامة عند ربكم تختصمون فيأخذ للمظلوم منكم من الظالم, ويفصل بين جميعكم بالحقّ.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: عنى به اختصام المؤمنين والكافرين, واختصام المظلوم والظالم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) يقول: يخاصم الصادق الكاذب, والمظلوم الظالم, والمهتدي الضال, والضعيف المستكبر.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال: أهل الإسلام وأهل الكفر.
حدثني ابن البرقي, قال: ثنا ابن أبي مريم, قال: ثنا ابن الدراوردي , قال: ثني محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن الزبير, قال: لما نـزلت هذه الآية: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال الزبير: يا رسول الله, أينكر علينا ما كان بيننا فى الدنيا مع خواصّ الذنوب ؟ فقال النبي: صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم " نَعَمْ حتى يُؤَدَّى إلى كُلِّ ذي حَقٍّ حَقُّهُ.
وقال آخرون: بل عني بذلك اختصام أهل الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, عن ابن عمر, قال: نـزلت علينا هذه الآية وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة, فقلنا: هذا الذي وعدنا ربُّنا أن نختصم في ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ).
حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن علية, قال: ثنا ابن عون, عن إبراهيم , قال: لما نـزلت: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ ) ... الآية, قالوا: ما خصومتنا بيننا ونحن إخوان, قال: فلما قُتل عثمان بن عفان, قالوا: هذه خصومتنا بيننا.
حُدثت عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, في قوله ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال: هم أهل القبلة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: عني بذلك: إنك يا محمد ستموت , وإنكم أيها الناس ستموتون, ثم إن جميعكم أيها الناس تختصمون عند ربكم, مؤمنكم وكافركم, ومحقوكم ومبطلوكم, وظالموكم ومظلوموكم, حتى يؤخذ لكلّ منكم ممن لصاحبه قبله حق حقُّه.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب لأن الله عم بقوله: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) خطاب جميع عباده, فلم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض, فذلك على عمومه على ما عمه الله به ، وقد تنـزل الآية في معنى, ثم يكون داخلا في حكمها كلّ ما كان في معنى ما نـزلت به.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features