إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)

قوله تعالى : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة أي قال الملك الذي تكلم عن أوريا إن هذا أخي أي : على ديني ، وأشار إلى المدعى عليه . وقيل : أخي أي : صاحبي . له تسع وتسعون نعجة وقرأ الحسن : " تسع وتسعون نعجة " بفتح التاء فيهما ، وهي لغة شاذة ، وهي الصحيحة من قراءة الحسن ، قال النحاس . والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة ، لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب . وقد يكنى عنها بالبقرة والحجرة والناقة ; لأن الكل مركوب . قال ابن عون :
أنا أبوهن ثلاث هنه رابعة في البيت صغراهنه
ونعجتي خمسا توفيهنه ألا فتى سمح يغذيهنه
طي النقا في الجوع يطويهنه ويل الرغيف ويله منهنه
وقال عنترة :
يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت علي وليتها لم تحرم
فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي فتجسسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غرة والشاة ممكنة لمن هو مرتم
فكأنما التفتت بجيد جداية رشأ من الغزلان حر أرثم
وقال آخر :
فرميت غفلة عينه عن شاته فأصبت حبة قلبها وطحالها
وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء . قال الحسين بن الفضل : هذا من الملكين تعريض وتنبيه ، كقولهم : ضرب زيد عمرا ، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق ، كأنه قال : نحن خصمان هذه حالنا . قال أبو جعفر النحاس : وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى : يقول : خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة ، كما تقول : رجل يقول لامرأته كذا ، ما يجب عليه ؟ .
قلت : وقد تأول المزني صاحب الشافعي هذه الآية ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن شهاب الذي خرجه الموطأ وغيره : هو لك يا عبد بن زمعة على نحو هذا ، قال المزني : يحتمل هذا الحديث عندي - والله أعلم - أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى ، لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد ، ولا على زمعة قول ابنه : إنه ولد زنى ، لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره . وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره . وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مثل ذلك في قصة داود والملائكة ، إذ دخلوا عليه ففزع منهم ، قالوا : لا تخف خصمان ولم يكونوا خصمين ، ولا كان لواحد منهم تسع وتسعون نعجة ، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعريفه . فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم في هذه القصة على المسألة ، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث ، فإنه عندي صحيح . والله أعلم .
قال النحاس : وفي قراءة ابن مسعود " إن هذا أخي كان له تسع وتسعون نعجة أنثى " و " كان " هنا مثل قوله - عز وجل - : وكان الله غفورا رحيما فأما قوله : " أنثى " فهو تأكيد ، كما يقال : هو رجل ذكر وهو تأكيد . وقيل : لما كان يقال هذه مائة نعجة ، وإن كان فيها من الذكور شيء يسير ، جاز أن يقال : أنثى ليعلم أنه لا ذكر فيها . وفي التفسير : له تسع وتسعون امرأة . قال ابن العربي : إن كان جميعهن أحرارا فذلك شرعه ، وإن كن إماء فذلك شرعنا . والظاهر أن شرع من تقدم قبلنا لم يكن محصورا بعدد ، وإنما الحصر في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لضعف الأبدان وقلة الأعمار . وقال القشيري : ويجوز أن يقال : لم يكن له هذا العدد بعينه ، ولكن المقصود ضرب مثل ، كما تقول : لو جئتني مائة مرة لم أقض حاجتك ، أي : مرارا كثيرة . قال ابن العربي : قال بعض المفسرين : لم يكن لداود مائة امرأة ، وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلا ، المعنى : هذا غني عن الزوجة وأنا مفتقر إليها . وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أن العدول عن الظاهر بغير دليل ، لا معنى له ، ولا دليل يدل على أن شرع من قبلنا كان مقصورا من النساء على ما في شرعنا . الثاني : أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال : لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل أمرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ، ونسي أن يقول إن شاء الله وهذا نص
قوله تعالى : ولي نعجة واحدة أي امرأة واحدة
فقال أكفلنيها أي انزل لي عنها حتى أكفلها . وقال ابن عباس : أعطنيها . وعنه : تحول لي عنها . وقال ابن مسعود . وقال أبو العالية : ضمها إلي حتى أكفلها . وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي ونصيبي .
وعزني في الخطاب أي غلبني . قال الضحاك : إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني . يقال : عزه يعزه بضم العين في المستقبل عزا غلبه . وفي المثل : من عز بز ، أي : من غلب سلب . والاسم العزة وهي القوة والغلبة . قال الشاعر :
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح
وقرأ عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير : " وعازني في الخطاب " أي : غالبني ، من المعازة وهي المغالبة ، عازه أي : غالبه . قال ابن العربي : واختلف في سبب الغلبة ، فقيل : معناه غلبني ببيانه . وقيل : غلبني بسلطانه ; لأنه لما سأله لم يستطع خلافه . كان ببلادنا أمير يقال له : سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة ، فقال لي : أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها . فقلت : أما إذا كان عدلا فلا . فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته ، كما عجب من جوابي له واستغربه .
إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)

فقال أحدهما : ( إن هذا أخي ) أي : على ديني وطريقتي ، ( له تسع وتسعون نعجة ) يعني امرأة ( ولي نعجة واحدة ) أي امرأة واحدة ، والعرب تكني بالنعجة عن المرأة . قال الحسين بن الفضل : هذا تعريض للتنبيه والتفهيم ؛ لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي فهو كقولهم : ضرب زيد عمرا ، أو اشترى بكر دارا ، ولا ضرب هنالك ولا شراء .
( فقال أكفلنيها ) قال ابن عباس : أعطنيها . قال مجاهد : انزل لي عنها . وحقيقته : ضمها إلي فاجعلني كافلها ، وهو الذي يعولها وينفق عليها ، والمعنى : طلقها لأتزوجها .
) ( وعزني ) وغلبني ( في الخطاب ) أي : في القول . وقيل : قهرني لقوة ملكه . قال الضحاك : يقول إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني .
وحقيقة المعنى : أن الغلبة كانت له لضعفي في يده ، وإن كان الحق معي وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها إلى نسائه .
إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
وهذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه له, وذلك أن داود كانت له فيما قيل: تسع وتسعون امرأة, وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قُتل امرأة واحدة; فلما قتل نكح فيما ذكر داود امرأته, فقال له أحدهما: ( إِنَّ هَذَا أَخِي ) يقول: أخي على ديني.
كما حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه: ( إِنَّ هَذَا أَخِي ) : أي على ديني ( لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ).
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: " إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى " وذلك على سبيل توكيد العرب الكلمة, كقولهم: هذا رجل ذكر, ولا يكادون أن يفعلوا ذلك إلا في المؤنث والمذكر الذي تذكيره وتأنيثه في نفسه كالمرأة والرجل والناقة, ولا يكادون أن يقولوا هذه دار أنثى, وملحفة أنثى, لأن تأنيثها في اسمها لا في معناها. وقيل: عنى بقوله: أنثى: أنها حسنة.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن المحاربي, عن جُوَيبر, عن الضحاك " إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى " يعني بتأنيثها. حسنها.
وقوله ( فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ) يقول: فقال لي: انـزل عنها لي وضمها إليّ.
كما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( أَكْفِلْنِيهَا ) قال: أعطنيها, طلِّقها لي, أنكحها, وخلّ سبيلها.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه, فقال: ( أَكْفِلْنِيهَا ) أي احملني عليها.
وقوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) يقول: وصار أعز مني في مخاطبته إياي, لأنه إن تكلم فهو أبين مني, وإن بطش كان أشدّ مني فقهرني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: قال عبد الله في قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: ما زاد داود على أن قال: انـزل لي عنها.
حدثنا ابن وكيع, قال: ثني أبي, عن المسعودي, عن المنهال, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس قال: ما زاد على أن قال: انـزل لي عنها.
وحدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق, قال: قال عبد الله: ما زاد داود على أن قال: ( أكفلنيها ).
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: إن دعوت ودعا كان أكثر, وإن بطشت وبطش كان أشدّ مني, فذلك قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ).
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) ; أي ظلمني وقهرني.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: قهرني, وذلك العزّ; قال: والخطاب: الكلام.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) : أي قهرني في الخطاب, وكان أقوى مني, فحاز نعجتي إلى نعاجه, وتركني لا شيء لي.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال: إن تكلم كان أبين مني, وإن بطش كان أشدّ مني, وإن دعا كان أكثر مني.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features