وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)

وتفقد الطير ذكر شيئا آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدم . والتفقد تطلب ما غاب عنك من شيء . والطير اسم جامع والواحد طائر ، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها . وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها . واختلف الناس في معنى تفقده للطير ; فقالت فرقة : ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك ، والتهمم بكل جزء منها ; وهذا ظاهر الآية . وقالت فرقة : بل تفقد الطير لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب ; فكان ذلك سبب تفقد الطير ; ليتبين من أين دخلت الشمس . وقال عبد الله بن سلام : إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض ; لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء ، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها ; فكان يخبر سليمان بموضع الماء ، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة ; تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة ; قاله ابن عباس فيما روي عن ابن سلام .
قال أبو مجلز قال ابن عباس لعبد الله بن سلام : أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل . قال : أتسألني وأنت تقرأ القرآن ؟ قال : نعم ثلاث مرات . قال : لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير ؟ قال : احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه - أو قال : مسافته - وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده . وقال في كتاب النقاش : كان الهدهد مهندسا . وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له : قف يا وقاف كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه ؟ ! فقال له ابن عباس : إذا جاء القدر عمي البصر . وقال مجاهد : قيل لابن عباس كيف تفقد الهدهد من الطير ؟ فقال : نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد مهتديا إليه ، فأراد أن يسأله . قال مجاهد : فقلت كيف يهتدي والصبي يضع له الحبالة فيصيده ؟ قال : إذا جاء القدر عمي البصر . قال ابن العربي : ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن .
قلت : هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدم . وأنشدوا :
إذا أراد الله أمرا بامرئ وكان ذا عقل ورأي ونظر وحيلة يعملها في دفع ما
يأتي به مكروه أسباب القدر غطى عليه سمعه وعقله
وسله من ذهنه سل الشعر حتى إذا أنفذ فيه حكمه
رد عليه عقله ليعتبر
قال الكلبي : لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد . والله أعلم .
في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته ; والمحافظة عليهم . فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله ، فكيف بعظام الملك . ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته ; قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر . فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان . وفي الصحيح عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد : أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام . الحديث ; قال علماؤنا : كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط . كان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه ، فقد دل القرآن والسنة وبينا ما يجب على الإمام من تفقد أحوال رعيته ، ومباشرة ذلك بنفسه ، والسفر إلى ذلك وإن طال . ورحم الله ابن المبارك حيث يقول :
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
قوله تعالى : ما لي لا أرى الهدهد أي ما للهدهد لا أراه ; فهو من القلب الذي لا يعرف معناه . وهو كقولك : ما لي أراك كئيبا . أي ما لك . والهدهد طير معروف وهدهدته صوته . قال ابن عطية : إنما مقصد الكلام : الهدهد غاب . لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف على اللازم وهذا ضرب من الإيجاز . والاستفهام الذي في قوله : ما لي ناب مناب الألف التي تحتاجها " أم " . وقيل : إنما قال : ما لي لا أرى الهدهد ; لأنه اعتبر حال نفسه ، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم ، وسخر له الخلق ، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل ، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر ، فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه ; فقال : ما لي . قال ابن العربي : وهذا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا ما لهم ، تفقدوا أعمالهم ; هذا في الآداب ، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض ؟ وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب : ما لي بفتح الياء وكذلك في ( يس ) وما لي لا أعبد الذي فطرني . وأسكنها حمزة ويعقوب . وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو : بفتح التي في ( يس ) وإسكان هذه . قال أبو عمرو : لأن هذه التي في ( النمل ) استفهام ، والأخرى انتفاء . واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان فقال ما لي . وقال أبو جعفر النحاس : زعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ ، وبين ما كان معطوفا على ما قبله ، وهذا ليس بشيء ; وإنما هي ياء النفس ، من العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها ، فقرءوا باللغتين ; واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة ; لأنها اسم وهي على حرف واحد ، وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف الاسم . أم كان من الغائبين بمعنى " بل " .
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)

قوله - عز وجل - : ) ( وتفقد الطير ) أي : طلبها وبحث عنها ، والتفقد : طلب ما فقد ، ومعنى الآية : طلب ما فقد من الطير ( فقال ما لي لا أرى الهدهد ) أي : ما للهدهد لا أراه ؟ . تقول العرب : ما لي أراك كئيبا ؟ أي : مالك ؟ والهدهد : طائر معروف . وكان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ، قيل : إخلاله بالنوبة ، وذلك أن سليمان كان إذا نزل منزلا يظله وجنده الطير من الشمس ، فأصابته الشمس من موضع الهدهد ، فنظر فرآه خاليا .
وروي عن ابن عباس : أن الهدهد كان دليل سليمان على الماء وكان يعرف موضع الماء ويرى الماء تحت الأرض ، كما يرى في الزجاجة ، ويعرف قربه وبعده فينقر الأرض ، ثم تجيء الشياطين فيسلخونه ويستخرجون الماء . قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : يا وصاف انظر ما تقول ، إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب ، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه ، فقال له ابن عباس : ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر . وفي رواية : إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر . فنزل سليمان منزلا فاحتاج إلى الماء فطلبوا فلم يجدوا ، فتفقد الهدهد ليدل على الماء ، فقال : ما لي لا أرى الهدهد ، على تقرير أنه مع جنوده ، وهو لا يراه ، ثم أدركه الشك في غيبته ، فقال : ( أم كان من الغائبين ) يعني أكان من الغائبين ؟ والميم صلة ، وقيل : " أم " بمعنى " بل " ،
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)

يقول تعالى ذكره: ( وَتَفَقَّدَ ) سليمان (الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ). وكان سبب تفقده الطير وسؤاله عن الهدهد خاصة من بين الطير, ما حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا المعتمر بن سليمان, قال: سمعت عمران عن أبي مجلز, قال: جلس ابن عباس إلى عبد الله بن سلام, فسأله عن الهدهد: لم تفقَّده سليمان من بين الطير فقال عبد الله بن سلام: إن سليمان نـزل منـزلة في مسير له, فلم يدر ما بُعْد الماء, فقال: من يعلم بُعْد الماء؟ قالوا: الهدهد, فذاك حين تفقده.
حدثنا محمد, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا عمران بن حدير, عن أبي مجلز, عن ابن عباس وعبد الله بن سلام بنحوه.
حدثني أبو السائب, قال: ثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كان سليمان بن داود يوضع له ستّ مائة كرسي, ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه, ثم تجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس قال: ثم يدعو الطير فتظلهم, ثم يدعو الريح فتحملهم, قال: فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر, قال: فبينا هو في مسيره إذ احتاج إلى الماء وهو في فلاة من الأرض, قال: فدعا الهدهد, فجاءه فنقر الأرض, فيصيب موضع الماء, قال: ثم تجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب, قال: ثم يستخرجون الماء. فقال له نافع بن الأزرق: قف يا وقاق، أرأيت قولك الهدهد يجيء فينقر الأرض, فيصيب الماء, كيف يبصر هذا, ولا يبصر الفخّ يجيء حتى يقع في عنقه؟ قال: فقال له ابن عباس: ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه, قال: كان سليمان بن داود إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير, وقام له الجنّ والإنس حتى يجلس على سريره, حتى إذا كان ذات غداة في بعض زمانه غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه, فتفقد الطير. وكان فيما يزعمون يأتيه نوبا من كل صنف من الطير طائر, فنظر فرأى من أصناف الطير كلها قد حضره إلا الهدهد, فقال: ما لي لا أرى الهدهد.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: أوّل ما فقد سليمان الهدهد نـزل بواد فسأل الإنس عن ماءه, فقالوا: ما نعلم له ماء, فإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالجنّ فدعا الجنّ فسألهم, فقالوا: ما نعلم له ماء وإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالطير, فدعا الطير فسألهم, فقالوا: ما نعلم له ماء, وإن يكن أحد من جنودك يعلمه فالهدهد, فلم يجده, قال: فذاك أوّل ما فقد الهدهد.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) قال: تفقد الهدهد من أجل أنه كان يدله على الماء إذا ركب, وإن سليمان ركب ذات يوم فقال: أين الهدهُد ليدلنا على الماء؟ فلم يجده؛ فمن أجل ذلك تفقده، فقال ابن عباس: إن الهدهد كان ينفعه الحذر ما لم يبلغه الأجل؛ فلما بلغ الأجل لم ينفعه الحذر, وحال القدر دون البصر، فقد اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله ووهب بن منبه, فقال عبد الله: كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ليستخبره عن بُعد الماء في الوادي الذي نـزل به في مسيره، وقال وهب بن منبه: كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها، والله أعلم بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأيّ ذلك كان تنـزيل, ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح.
فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير, إما للنوبة التي كانت عليها وأخلت بها, وإما لحاجة كانت إليها عن بُعد الماء.
وقوله: (فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) يعني بقوله (مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ) أخطأه بصري فلا أراه وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق فلم يحضر؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه: (مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) أخطأه بصري في الطير, أم غاب فلم يحضر؟.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features