تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

والتدمير : الهلاك . وكذلك الدمار . وقرئ ( يدمر كل شيء ) من دمر دمارا . يقال : دمره تدميرا ودمارا ودمر عليه بمعنى . ودمر يدمر دمورا دخل بغير إذن . وفي الحديث : [ من سبق طرفه استئذانه فقد دمر ] مخفف الميم . وتدمر : بلد بالشام . ويربوع تدمري إذا كان صغيرا قصيرا . بأمر ربها بإذن ربها . وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم . قالت : وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه . قالت : يا رسول الله ، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال : [ يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا ] خرجه مسلم والترمذي ، وقال فيه : حديث حسن . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ] . وذكر الماوردي أن القائل هذا عارض ممطرنا من قوم عاد : بكر بن معاوية ، ولما رأى السحاب قال : إني لأرى سحابا مرمدا ، لا تدع من عاد أحدا . فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم . قال ابن إسحاق : واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ، ما يصيبه ومن معه منها إلا ما يلين أعلى ثيابهم . وتلتذ الأنفس به ، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا . وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك :
فدعا هود عليهم دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم تركت عادا خمودا
سخرت سبع ليال لم تدع في الأرض عودا
وعمر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة .
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم قرأ عاصم وحمزة لا يرى إلا مساكنهم بالياء غير مسمي الفاعل . وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إلا أنه قرأ ( ترى ) بالتاء . وقد روي ذلك عن أبي بكر عن عاصم . الباقون ( ترى ) بتاء مفتوحة . ( مساكنهم ) بالنصب ، أي : لا ترى يا محمد إلا مساكنهم . قال المهدوي : ومن قرأ بالتاء غير مسمي الفاعل فعلى لفظ الظاهر الذي هو المساكن المؤنثة ، وهو قليل لا يستعمل إلا في الشعر . وقال أبو حاتم : لا يستقيم هذا في اللغة إلا أن يكون فيها إضمار ، كما تقول في الكلام ألا ترى النساء إلا زينب . ولا يجوز لا ترى إلا زينب . وقال سيبويه : معناه لا ترى أشخاصهم إلا مساكنهم . واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة عاصم وحمزة . قال الكسائي : معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم ، فهو محمول على المعنى ، كما تقول : ما قام إلا هند ، والمعنى ما قام أحد إلا هند . وقال الفراء : لا يرى الناس لأنهم كانوا تحت الرمل ، وإنما ترى مساكنهم لأنها قائمة . كذلك نجزي القوم المجرمين أي مثل هذه العقوبة نعاقب بها المشركين .
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

( تدمر كل شيء ) مرت به من رجال عاد وأموالها ، [ ( بأمر ربها ) ] فأول ما عرفوا أنها عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فقلعت أبوابهم وصرعتهم ، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام ، لهم أنين ، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني ، أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ ، أخبرنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث ، أخبرنا النضر . حدثه عن سليمان بن يسار ، عن عائشة أنها قالت : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه بياض لهواته ، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه ، فقلت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا ، رجاء أن يكون فيه المطر ، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ، فقال : " يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : " هذا عارض ممطرنا " ، الآية .
( فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) قرأ عاصم ، وحمزة ، ويعقوب : " يرى " بضم الياء " مساكنهم " برفع النون يعني : لا يرى شيء إلا مساكنهم ، وقرأ الآخرون بالتاء وفتحها ، " مساكنهم " نصب؛ يعني لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم لأن السكان والأنعام بادت بالريح ، فلم يبق إلا هود ومن آمن معه . ( كذلك نجزي القوم المجرمين ) .
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } تمر عليه من شدتها ونحسها.
فسلطها الله عليهم { سبع ليالي وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } [ { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي: بإذنه ومشيئته]. { فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } قد تلفت مواشيهم وأموالهم وأنفسهم. { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } بسبب جرمهم وظلمهم.
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

القول في تأويل قوله تعالى : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
وقوله ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) : يقول تعالى ذكره: تخرّب كل شيء, وترمي بعضه على بعض فتهلكه, كما قال جرير
وكــانَ لَكُــمْ كَبَكْــرِ ثَمُـود لَمَّـا
رَغــا ظُهْــرًا فَدَمَّــرَهُمْ دَمـارًا (4)
يعني بقوله: دمرهم: ألقى بعضهم على بعض صَرْعى هَلكَى.
وإنما عنى بقوله ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) مما أرسلت بهلاكه, لأنها لم تدمر هودا ومن كان آمن به.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا طلق, عن زائدة, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: ما أرسل الله على عادٍ من الريح إلا قدر خاتمي هذا, فنـزع خاتمه.
وقوله ( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) يقول: فأصبح قوم هود وقد هلكوا وفنوا, فلا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة ( لا تَرَى إلا مَساكِنَهُمْ) بالتاء نصبا, بمعنى: فأصبحوا لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ( لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) بالياء في (يُرى) , ورفع المساكن, بمعنى: ما وصفت قبل أنه لا يرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم.
وروى الحسن البصري ( لا تُرَى) بالتاء, وبأيّ القراءتين اللتين ذكرت من قراءة أهل المدينة والكوفة قرأ ذلك القارئ فمصيب وهو القراءة برفع المساكن إذا قُرئ قوله (يُرى) بالياء وضمها وبنصب المساكن إذا قرئ قوله: " ترى " بالتاء وفتحها, وأما التي حُكيت عن الحسن, فهي قبيحة في العربية وإن كانت جائزة, وإنما قبحت لأن العرب تذكِّر الأفعال التي قبل إلا وإن كانت الأسماء التي بعدها أسماء إناث, فتقول: ما قام إلا أختك, ما جاءني إلا جاريتك, ولا يكادون يقولون: ما جاءتني إلا جاريتك, وذلك أن المحذوف قبل إلا أحد, أو شيء واحد, وشيء يذكر فعلهما العرب, وإن عنى بهما المؤنث, فتقول: إن جاءك منهنّ أحد فأكرمه, ولا يقولون: إن جاءتك, وكان الفرّاء يجيزها على الاستكراه, ويذكر أن المفضل أنشده:
وَنارُنــا لَــمْ تُــرَ نـارًا مِثْلُهـا
قَــدْ عَلِمَــتْ ذاكَ مَعَــدّ أكْرَمَـا (5)
فأنث فعل مثل لأنه للنار, قال: وأجود الكلام أن تقول: ما رئي مثلها.
وقوله ( كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) يقول تعالى ذكره: كما جزينا عادا بكفرهم بالله من العقاب في عاجل الدنيا, فأهلكناهم بعذابنا, كذلك نجزي القوم الكافرين بالله من خلقنا, إذ تمادوا في غيهم وطَغَوا على ربهم.
------------------------
الهوامش:
(3) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبعه القاهرة 57 ) وفي روايته : " أرقبه " في موضع " أرمقه " ، وهما بمعنى أنظر إليه . واليت شاهد على أن معنى العارض السحاب المعترض في السماء . قال في ( اللسان : عرض ) والعارض : السحاب الذي يعترض في أفق السماء . وفي التنزيل في قصة قوم عاد : " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا " أي قالوا : هذا الذي وعدنا به سحاب فيه الغيث . أ هـ . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن : ( الورقة 222 ) والعارض من السحاب : الذي يرى في قطر من أقطار السماء من العشى ، ثم يصبح وقد حبا حتى استوى .
(4) البيت ليس لجرير كما ورد في الأصل ، وإنما هو للفرذدق ، من قصيدة في ديوانه يرد بها على جرير ويناقضه وهي في ديوانه ( طبعة الصاوي 442 ) ، وأول القصيدة :
جَــرَّ المُخْزِيــات عَـــلَى كُـلَيْبٍ
جــرير ثــم مــا منـع الذمـارًا
وكــانَ لَهُــمْ كَبَكْــرِ ثَمُـودَ لَمَّـا
رَغــا ظُهْــرا فَدَمَّــرَهُمْ دَمــارًا
أي جلب على قومه الدمار والخراب
(5) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 301 ) استشهد به عند قوله تعالى : " فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم " فقال إنها قرئت بالتاء أو بالياء مضمومة ( مع بناء الفعل للمجهول ) . ووصف القراءة بالتاء المضمومة بأن فيها قبحًا ؛ قال : لأن العرب إذا جعلت فعل المؤنث قبل إلا ذكروه ، فقالوا : لم يقم إلا جاريتك ، وما قام إلا جاريتك ، ولا يكادون يقولون : ما قامت إلا جاريتك ، وذلك أن المتروك ( المستثنى منه ) أحد أو شيء ، فأحد إذا كانت لمؤنث أو مذكر فعلها مذكر ؛ ألا ترى أنك تقول : إن قام أحد منهن فاضربه ، ولا تقول : إن قامت إلا مستكرها ، وهو على ذلك جائز ؛ قال : أنشدني المفضل : " ونارنا ... البيت " . فأنت فعل مؤنث ، لأنه للنار ؛ وأجود الكلام أن تقول : ما رؤى مثلها . قلت : وقوله " أكرما " نعت لنارا .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features