۞ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)

يقول تعالى مخبرا عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) قال غير واحد ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والسدي : يضحكون ، أي : أعجبوا بذلك .
وقال قتادة : يجزعون ويضحكون . وقال إبراهيم النخعي : يعرضون .
وكان السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث قال : وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فيما بلغني - يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) الآيات [ الأنبياء : 98 ] . ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبل عبد الله بن الزبعرى التميمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد ، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال عبد الله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته ، سلوا محمدا : أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ، فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد المسيح [ عيسى ] ابن مريم ؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " كل من أحب أن يعبد من دون الله ، فهو مع من عبده ، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته " فأنزل الله عز وجل : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) [ الأنبياء : 101 ] أي : عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله ، عز وجل ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله . ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ) الآيات [ الأنبياء : 26 ] ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله . وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) أي : يصدون عن أمرك بذلك من قوله . ثم ذكر عيسى فقال : ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة ) أي : ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام ، فكفى به دليلا على علم الساعة ، يقول : ( فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ) .
وذكر ابن جرير من رواية العوفي ، عن ابن عباس قوله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) قال : يعني قريشا ، لما قيل لهم : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) [ الأنبياء : 98 ] إلى آخر الآيات ، فقالت له قريش : فما ابن مريم ؟ قال : " ذاك عبد الله ورسوله " . فقالوا : والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربا ، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا ، فقال الله تعالى ( ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ) .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا شيبان ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي رزين ، عن أبي يحيى - مولى ابن عقيل الأنصاري - قال : قال ابن عباس : لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها رجل قط ، فما أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها ، أم لم يفطنوا لها فيسألوا عنها . قال : ثم طفق يحدثنا ، فلما قام تلاومنا ألا نكون سألناه عنها . فقلت : أنا لها إذا راح غدا . فلما راح الغد قلت : يا ابن عباس ، ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجل قط ، فلا تدري أعلمها الناس أم لم يفطنوا لها ؟ فقلت : أخبرني عنها وعن اللاتي قرأت قبلها . قال : نعم ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش : " يا معشر قريش ، إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير " ، وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم ، وما تقول في محمد ، فقالوا : يا محمد ، ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا ، فإن كنت صادقا ، كان آلهتهم كما تقولون ؟ ! قال : فأنزل الله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) . قلت : ما يصدون ؟ قال : يضحكون ، ( وإنه لعلم للساعة ) قال : هو خروج عيسى ابن مريم قبل القيامة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يعقوب الدمشقي ، حدثنا آدم ، حدثنا شيبان ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي أحمد مولى الأنصار ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر قريش ، إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير " . فقالوا له : ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا ، فقد كان يعبد من دون الله ؟ فأنزل الله عز وجل : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) .
وقال مجاهد في قوله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) : قالت قريش : إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى . ونحو هذا قال قتادة .
۞ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)

قوله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون .
لما قال تعالى : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا : ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم إلها ، قال قتادة . ونحوه عن مجاهد قال : إن قريشا قالت : إن محمدا يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى ، فأنزل الله هذه الآية . وقال ابن عباس : أراد به مناظرة عبد الله بن الزبعرى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن عيسى ، وأن الضارب لهذا المثل هو عبد الله بن الزبعرى السهمي حالة كفره لما قالت له قريش إن محمدا يتلو : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم الآية ، فقال : لو حضرته لرددت عليه ، قالوا : وما كنت تقول له ؟ قال : كنت أقول له هذا المسيح تعبده النصارى ، واليهود تعبد عزيرا ، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم ، وذلك معنى قوله : يصدون فأنزل الله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون . ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها ; لأنه قال : وما تعبدون ولم يقل ومن تعبدون وإنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل ، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإن كانوا معبودين . وقد مضى هذا في آخر سورة ( الأنبياء ) وروى ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش : يا معشر قريش لا خير في أحد يعبد من دون الله . قالوا : أليس تزعم أن عيسى كان عبدا نبيا وعبدا صالحا ، فإن كان كما تزعم فقد كان يعبد من دون الله! . فأنزل الله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون أي : يضجون كضجيج الإبل عند حمل الأثقال . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ( يصدون ) ( بضم الصاد ) ومعناه يعرضون ، قاله النخعي ، وكسر الباقون . قال الكسائي : هما لغتان ، مثل يعرشون ويعرشون وينمون وينمون ، ومعناه يضجون . قال الجوهري : وصد يصد صديدا ، أي : ضج . وقيل : إنه بالضم من الصدود وهو الإعراض ، وبالكسر من الضجيج ، قاله قطرب . قال أبو عبيد : لو كانت من الصدود عن الحق لكانت : إذا قومك عنه يصدون . الفراء : هما سواء ، منه وعنه . ابن المسيب : يصدون يضجون . الضحاك يعجون . ابن عباس : يضحكون . أبو عبيدة : من ضم فمعناه يعدلون ، فيكون المعنى : من أجل الميل يعدلون . ولا يعدى ( يصدون ) بمن ، ومن كسر فمعناه يضجون ، ف ( من ) متصلة ب ( يصدون ) والمعنى يضجون منه .
۞ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)

يقول تعالى: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } أي: نهي عن عبادته، وجعلت عبادته بمنزلة عبادة الأصنام والأنداد. { إِذَا قَوْمُكَ } المكذبون لك { مِنْهُ } أي: من أجل هذا المثل المضروب، { يَصِدُّونَ } أي: يستلجون في خصومتهم لك، ويصيحون، ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم، وأفلجوا.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features