وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)

وقوله : ( وفديناه بذبح عظيم ) قال سفيان الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن أبي الطفيل ، عن علي ، رضي الله عنه : ( وفديناه بذبح عظيم ) قال : بكبش أبيض أعين أقرن ، قد ربط بسمرة - قال أبو الطفيل وجدوه مربوطا بسمرة في ثبير
وقال الثوري أيضا ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار ، حدثنا داود العطار ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء ابنه ، هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء ، فذبحه ، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه ، فكان مخزونا حتى فدي به إسحاق .
وروي أيضا عن سعيد بن جبير أنه قال : كان الكبش يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير ، وكان عليه عهن أحمر .
وعن الحسن البصري : أنه كان اسم كبش إبراهيم : جرير .
وقال ابن جريج : قال عبيد بن عمير : ذبحه بالمقام . وقال مجاهد : ذبحه بمنى عند المنحر . وقال هشيم ، عن سيار ، عن عكرمة ; أن ابن عباس كان أفتى الذي جعل عليه نذرا أن ينحر نفسه ، فأمره بمائة من الإبل . ثم قال بعد ذلك : لو كنت أفتيته بكبش لأجزأه أن يذبح كبشا ، فإن الله تعالى قال في كتابه : ( وفديناه بذبح عظيم ) والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فدي بكبش . وقال الثوري ، عن رجل ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : ( وفديناه بذبح عظيم ) قال : وعل .
وقال محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن أنه كان يقول : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى ، أهبط عليه من ثبير .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا منصور ، عن خاله مسافع ، عن صفية بنت شيبة قالت : أخبرتني امرأة من بني سليم - ولدت عامة أهل دارنا - أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عثمان بن طلحة - وقال مرة : إنها سألت عثمان : لم دعاك النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : قال : " إني كنت رأيت قرني الكبش ، حين دخلت البيت ، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما ، فخمرهما ، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي " . قال سفيان : لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت ، فاحترقا .
وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل - عليه السلام - فإن قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل ، إلى أن بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فصل في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو ؟ :
ذكر من قال : هو إسحاق [ عليه السلام ] :
قال حمزة الزيات ، عن أبي ميسرة ، رحمه الله ، قال : قال يوسف - عليه السلام - للملك في وجهه : ترغب أن تأكل معي ، وأنا - والله - يوسف بن يعقوب نبي الله ، ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله .
وقال الثوري ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل : إن يوسف - عليه السلام - قال للملك كذلك أيضا .
وقال سفيان الثوري ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن أبيه قال : " قال موسى : يا رب ، يقولون : يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فبم قالوا ذلك ؟ قال : إن إبراهيم لم يعدل بي شيء قط إلا اختارني عليه . وإن إسحاق جاد لي بالذبح ، وهو بغير ذلك أجود . وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن " .
وقال شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص قال : افتخر رجل عند ابن مسعود فقال : أنا فلان بن فلان ، ابن الأشياخ الكرام . فقال عبد الله : ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله [ صلوات الله وسلامه عليهم ] .
وهذا صحيح إلى ابن مسعود ، وكذا روى عكرمة ، عن ابن عباس أنه إسحاق . وعن أبيه العباس ، وعلي بن أبي طالب مثل ذلك . وكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، وعبيد بن عمير ، وأبو ميسرة ، وزيد بن أسلم ، وعبد الله بن شقيق ، والزهري ، والقاسم بن أبي بزة ، ومكحول ، وعثمان بن حاضر ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ، وأبو الهذيل ، وابن سابط . وهو اختيار ابن جرير . وتقدم روايته عن كعب الأحبار أنه إسحاق .
وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر ، عن الزهري ، عن أبي سفيان بن العلاء ، بن جارية ، عن أبي هريرة ، عن كعب الأحبار ، أنه قال : هو إسحاق .
وهذه الأقوال - والله أعلم - كلها مأخوذة عن كعب الأحبار ، فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر ، رضي الله عنه عن كتبه ، فربما استمع له عمر - رضي الله عنه - فترخص الناس في استماع ما عنده ، ونقلوا عنه غثها وسمينها ، وليس لهذه الأمة - والله أعلم - حاجة إلى حرف واحد مما عنده . وقد حكى البغوي هذا القول بأنه إسحاق عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، والعباس ، ومن التابعين عن كعب الأحبار ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، ومقاتل ، وعطاء ، والزهري ، والسدي - قال : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس . وقد ورد في ذلك حديث - لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين ، ولكن لم يصح سنده - قال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن حباب ، عن الحسن بن دينار ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذكره قال : هو إسحاق .
ففي إسناده ضعيفان ، وهما الحسن بن دينار البصري ، متروك . وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحديث . وقد رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، به مرفوعا . . ثم قال : قد رواه مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن الأحنف ، عن العباس قوله ، وهذا أشبه وأصح .
[ ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل - عليه السلام - وهو الصحيح المقطوع به ] .
قد تقدمت الرواية عن ابن عباس أنه إسحاق . قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي ، ويوسف بن مهران ، ومجاهد ، وعطاء ، وغير واحد ، عن ابن عباس ، هو إسماعيل - عليه السلام - .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال : المفدى إسماعيل - عليه السلام - وزعمت اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود .
وقال إسرائيل ، عن ثور ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : الذبيح إسماعيل .
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هو إسماعيل . وكذا قال يوسف بن مهران .
وقال الشعبي : هو إسماعيل - عليه السلام - وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، وعمرو بن عبيد ، عن الحسن البصري : أنه كان لا يشك في ذلك : أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل .
قال ابن إسحاق : وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول : إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل . وإنا لنجد ذلك في كتاب الله ، وذلك أن الله حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ) . يقول الله تعالى : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، يقول بابن وابن ابن ، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من [ الله ] الموعد بما وعده ، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل .
وقال ابن إسحاق ، عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي ، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم ; أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام ، فقال له عمر : إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت . ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام ، كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يرى أنه من علمائهم ، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك - قال محمد بن كعب : وأنا عند عمر بن عبد العزيز - فقال له عمر : أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير المؤمنين ، وإن يهود لتعلم بذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ، على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه ، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به ، فهم يجحدون ذلك ، ويزعمون أنه إسحاق ، بكون إسحاق أبوهم ، والله أعلم أيهما كان ، وكل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لله - عز وجل - .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : سألت أبي عن الذبيح ، من هو ؟ إسماعيل أو إسحاق ؟ فقال : إسماعيل . ذكره في كتاب الزهد .
وقال ابن أبي حاتم : وسمعت أبي يقول : الصحيح أن الذبيح إسماعيل - عليه السلام - . قال : وروي عن علي ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وأبي الطفيل ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وأبي صالح أنهم قالوا : الذبيح إسماعيل .
وقال البغوي في تفسيره : وإليه ذهب عبد الله بن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والسدي ، والحسن البصري ، ومجاهد ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، وهو رواية عن ابن عباس ، وحكاه أيضا عن أبي عمرو بن العلاء .
وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا فقال : حدثني محمد بن عمار الرازي ، حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة ، حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي ، عن عبيد الله بن محمد العتبي - من ولد عتبة بن أبي سفيان - عن أبيه : حدثني عبد الله بن سعيد ، عن الصنابحي قال : كنا عند معاوية بن أبي سفيان ، فذكروا الذبيح : إسماعيل أو إسحاق ؟ فقال على الخبير سقطتم ، كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل فقال : يا رسول الله ، عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين . فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له : يا أمير المؤمنين ، وما الذبيحان ؟ فقال : إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله أمرها عليه ، ليذبحن أحد ولده ، قال : فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا : افد ابنك بمائة من الإبل . ففداه بمائة من الإبل ، وإسماعيل الثاني .
وهذا حديث غريب جدا . وقد رواه الأموي في مغازيه : حدثنا بعض أصحابنا ، أخبرنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة ، حدثنا عمر بن عبد الرحمن القرشي ، حدثنا عبيد الله بن محمد العتبي - من ولد عتبة بن أبي سفيان - حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا الصنابحي قال : حضرنا مجلس معاوية ، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق ، وذكره . كذا كتبته من نسخة مغلوطة .
وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى : ( فبشرناه بغلام حليم ) ، فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله : ( وبشروه بغلام عليم ) [ الذاريات : 28 ] . وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه قد كان بلغ معه السعي ، أي العمل . ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضا . قال : وأما القرنان اللذان كانا معلقين بالكعبة فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام . قال : وقد تقدم أن من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق هناك . هذا ما اعتمد عليه في تفسيره ، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم ، بل هو بعيد جدا ، والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى ، والله أعلم .
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)

( وفديناه بذبح عظيم ) فنظر إبراهيم فإذا هو بجبريل ومعه كبش أملح أقرن ، فقال : هذا فداء لابنك فاذبحه دونه ، فكبر جبريل ، وكبر الكبش ، وكبر ابنه ، فأخذ إبراهيم الكبش فأتى به المنحر من منى فذبحه .
قال أكثر المفسرين : كان ذلك الكبش رعى في الجنة أربعين خريفا .
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قربه ابن آدم هابيل .
قال سعيد بن جبير : حق له أن يكون عظيما . قال مجاهد : سماه عظيما ؛ لأنه متقبل . وقال الحسين بن الفضل : لأنه كان من عند الله . وقيل : عظيم في الشخص . وقيل : في الثواب .
وقال الحسن : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير .
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)

قوله تعالى : وفديناه بذبح عظيم الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح ، كالطحن اسم المطحون . والذبح بالفتح المصدر . " عظيم " أي : عظيم القدر ، ولم يرد عظيم الجثة . وإنما عظم قدره لأنه فدي به الذبيح ، أو لأنه متقبل . قال النحاس : عظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف . وأهل التفسير على أنه هاهنا للشريف ، أو المتقبل . وقال ابن عباس : هو الكبش الذي تقرب به هابيل ، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل . وعنه أيضا : أنه كبش أرسله الله من الجنة كان قد رعى في الجنة أربعين خريفا . وقال الحسن : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير ، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه ، وهذا قول علي - رضي الله عنه - . فلما رآه إبراهيم أخذه فذبحه وأعتق ابنه . وقال : يا بني اليوم وهبت لي . وقال أبو إسحاق الزجاج : قد قيل إنه فدي بوعل ، والوعل : التيس الجبلي . وأهل التفسير على أنه فدي بكبش .
في هذه الآية دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر . وهذا مذهب مالك وأصحابه . قالوا : أفضل الضحايا الفحول من الضأن ، وإناث الضأن أفضل من فحل المعز ، وفحول المعز خير من إناثها ، وإناث المعز خير من الإبل والبقر . وحجتهم قوله سبحانه وتعالى : وفديناه بذبح عظيم أي : ضخم الجثة سمين ، وذلك كبش لا جمل ولا بقرة . وروى مجاهد وغيره عن ابن عباس أنه سأله رجل : إني نذرت أن أنحر ابني ؟ فقال : يجزيك كبش سمين ، ثم قرأ : وفديناه بذبح عظيم . وقال بعضهم : لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق . وضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين . وأكثر ما ضحى به الكباش . وذكر ابن أبي شيبة عن ابن علية عن الليث عن مجاهد قال : الذبح العظيم : الشاة .
واختلفوا أيهما أفضل : الأضحية أو الصدقة بثمنها . فقال مالك وأصحابه : الضحية أفضل إلا بمنى ; لأنه ليس موضع الأضحية ، حكاه أبو عمر . وقال ابن المنذر : روينا عن بلال أنه قال : ما أبالي ألا أضحي إلا بديك ، ولأن أضعه في يتيم قد ترب فيه - هكذا قال المحدث - أحب إلي من أن أضحي به . وهذا قول الشعبي : إن الصدقة أفضل . وبه قال مالك وأبو ثور . وفيه قول ثان : إن الضحية أفضل ، هذا قول ربيعة وأبي الزناد . وبه قال أصحاب الرأي . زاد أبو عمر : وأحمد بن حنبل . قالوا : الضحية أفضل من الصدقة ; لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد . ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل . وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله . قال أبو عمر : وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان ، فمنها ما رواه سعيد بن داود بن أبي زنبر عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من نفقة بعد صلة الرحم أفضل عند الله من إهراق الدم قال أبو عمر : وهو حديث غريب من حديث مالك . وعن عائشة قالت : يا أيها الناس ضحوا وطيبوا أنفسا ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة ، فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة ذكره أبو عمر في كتاب التمهيد . وخرج الترمذي أيضا عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم ، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض ، فطيبوا بها نفسا قال : وفي الباب عن عمران بن حصين وزيد بن أرقم . وهذا حديث حسن .
الضحية ليست بواجبة ولكنها سنة ومعروف . وقال عكرمة : كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحما ، ويقول : من لقيت فقل : هذه أضحية ابن عباس . قال أبو عمر : ومجمل هذا وما روي عن أبي بكر وعمر أنهما لا يضحيان عند أهل العلم ، لئلا يعتقد في المواظبة عليها أنها واجبة فرض ، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم ; لأنهم الواسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أمته ، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم . وقد حكى الطحاوي في مختصره : وقال أبو حنيفة : الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار ، ولا تجب على المسافر . قال : ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثل الذي يجب عليه من نفسه . وخالفه أبو يوسف ومحمد فقالا : ليست بواجبة ولكنها سنة غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها . قال : وبه نأخذ . قال أبو عمر : وهذا قول مالك ، قال : لا ينبغي لأحد تركها مسافرا كان أو مقيما ، فإن تركها فبئس ما صنع إلا أن يكون له عذر إلا الحاج بمنى . وقال الإمام الشافعي : هي سنة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى وليست بواجبة . وقد احتج من أوجبها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بردة بن نيار أن يعيد ضحية أخرى ; لأن ما لم يكن فرضا لا يؤمر فيه بالإعادة . احتج آخرون بحديث أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي قالوا : فلو كان ذلك واجبا لم يجعل ذلك إلى إرادة المضحي . وهو قول أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وبلال .
والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية : وهي الضأن والمعز والإبل والبقر . قال ابن المنذر : وقد حكي عن الحسن بن صالح أنه قال : يضحى ببقرة الوحش عن سبعة ، وبالظبي عن رجل . وقال الإمام الشافعي : لو نزا ثور وحشي على بقرة إنسية ، أو ثور إنسي على بقرة وحشية لا يجوز شيء من هذا أضحية . وقال أصحاب الرأي : جائز ; لأن ولدها بمنزلة أمه . وقال أبو ثور : يجوز إذا كان منسوبا إلى الأنعام .
قد مضى في سورة [ الحج ] الكلام في وقت الذبح والأكل من الأضحية مستوفى . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، ووضع رجله على صفاحهما في رواية قال : ويقول : بسم الله والله أكبر وقد مضى في آخر [ الأنعام ] حديث عمران بن حصين ، ومضى في [ المائدة ] القول في التذكية وبيانها وما يذكى به ، وأن ذكاة الجنين ذكاة أمه مستوفى . وفي صحيح مسلم عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به فقال لها : يا عائشة ، هلمي المدية ، ثم قال : اشحذيها بحجر ، ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ، ثم قال : بسم الله ، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ، ثم ضحى به . وقد اختلف العلماء في هذا فكان الحسن البصري يقول في الأضحية : بسم الله والله أكبر ، هذا منك ولك ، تقبل من فلان . وقال مالك : إن فعل ذلك فحسن ، وإن لم يفعل وسمى الله أجزأه . وقال الشافعي : والتسمية على الذبيحة بسم الله ، فإن زاد بعد ذلك شيئا من ذكر الله ، أو صلى على محمد - عليه السلام - لم أكرهه ، أو قال : اللهم تقبل مني ، أو قال : تقبل من فلان ، فلا بأس . وقال النعمان : يكره أن يذكر مع اسم الله غيره ، يكره أن يقول : اللهم تقبل من فلان عند الذبح . وقال : لا بأس إذا كان قبل التسمية وقبل أن يضجع للذبح . وحديث عائشة يرد هذا القول . وقد تقدم أن إبراهيم - عليه السلام - قال لما أراد ذبح ابنه : الله أكبر والحمد لله . فبقي سنة .
روى البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل : ماذا يتقى من الضحايا ؟ فأشار بيده وقال : أربعا - وكان البراء يشير بيده ويقول : يدي أقصر من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - العرجاء البين ظلعها ، والعوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى لفظ مالك ولا خلاف فيه . واختلف في اليسير من ذلك . وفي الترمذي عن علي - رضي الله عنه - قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن ، وألا نضحي بمقابلة ، ولا مدابرة ، ولا شرقاء ، ولا خرقاء . قال : والمقابلة ما قطع طرف أذنها ، والمدابرة ما قطع من جانب الأذن ، والشرقاء المشقوقة ، والخرقاء المثقوبة ، قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي الموطأ عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن التي لم تسنن ، والتي نقص من خلقها . قال مالك : وهذا أحب ما سمعت إلي . قال القتبي : لم تسنن أي : لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانا . وهذا كما يقال : فلان لم يلبن أي : لم يعط لبنا ، ولم يسمن أي : لم يعط سمنا ، ولم يعسل أي : لم يعط عسلا . وهذا مثل النهي في الأضاحي عن الهتماء . قال أبو عمر : ولا بأس أن يضحى عند مالك بالشاة الهتماء إذا كان سقوط أسنانها من الكبر والهرم وكانت سمينة ، فإن كانت ساقطة الأسنان وهي فتية لم يجز أن يضحى بها ; لأنه عيب غير خفيف . والنقصان كله مكروه ، وشرحه وتفصيله في كتب الفقه . وفي الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : استشرقوا ضحاياكم ؛ فإنها على الصراط مطاياكم ذكره الزمخشري .
ودلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذبحه أنه يفديه بكبش كما فدى به إبراهيم ابنه ، قاله ابن عباس . وعنه رواية أخرى : ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبد المطلب ابنه ، روى الروايتين عنه الشعبي . وروى عنه القاسم بن محمد : يجزيه كفارة يمين . وقال مسروق : لا شيء عليه . وقال الشافعي : هو معصية يستغفر الله منها . وقال أبو حنيفة : هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة ، ولا يلزمه في غير ولده شيء . قال محمد : عليه في الحلف بنحر عبده مثل الذي عليه في الحلف بنحر ولده إذا حنث . وذكر ابن عبد الحكم عن مالك فيمن قال : أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هدي . قال : ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراد فلا شيء عليه . قال : ومن جعل ابنه هديا أهدى عنه ، قال القاضي ابن العربي : يلزمه شاة كما قال أبو حنيفة ; لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا ، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد ، وأخرجه عنه بذبح شاة . وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يلزمه أن يذبح شاة ; لأن الله تعالى قال : ملة أبيكم إبراهيم والإيمان التزام أصلي ، والنذر التزام فرعي ، فيجب أن يكون محمولا عليه . فإن قيل : كيف يؤمر إبراهيم بذبح الولد وهو معصية ، والأمر بالمعصية لا يجوز ؟ . قلنا : هذا اعتراض على كتاب الله ، ولا يكون ذلك ممن يعتقد الإسلام ، فكيف بمن يفتي في الحلال والحرام ، وقد قال الله تعالى : افعل ما تؤمر والذي يجلو الإلباس عن قلوب الناس في ذلك : أن المعاصي والطاعات ليست بأوصاف ذاتية للأعيان ، وإنما الطاعات عبارة عما تعلق به الأمر من الأفعال ، والمعصية عبارة عما تعلق به النهي من الأفعال ، فلما تعلق الأمر بذبح الولد إسماعيل من إبراهيم صار طاعة وابتلاء ، ولهذا قال الله تعالى : إن هذا لهو البلاء المبين في الصبر على ذبح الولد والنفس ، ولما تعلق النهي بنا في ذبح أبنائنا صار معصية . فإن قيل : كيف يصير نذرا وهو معصية . قلنا : إنما يكون معصية لو كان يقصد ذبح الولد بنذره ولا ينوي الفداء ؟ فإن قيل : فلو وقع ذلك وقصد المعصية ولم ينو الفداء ؟ قلنا : لو قصد ذلك لم يضره في قصده ولا أثر في نذره ; لأن نذر الولد صار عبارة عن ذبح الشاة شرعا .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features