۞ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)

قوله عز وجل : ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا ، وزنوا وأكثروا ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت هذه الآية .
وقال عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه : كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب ، وأنا قد فعلت ذلك كله ، فأنزل الله عز وجل : " إلا من تاب وآمن وعمل صالحا " ( مريم - 60 ) فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك ؟ فأنزل الله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ( النساء : 48 ، 116 ) فقال وحشي : أراني بعد في شبهة ، فلا أدري يغفر لي أم لا ؟ فأنزل الله تعالى : " قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " ، فقال وحشي : نعم هذا ، فجاء وأسلم ، فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ فقال : بل للمسلمين عامة .
وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا ، فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا ، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .
وروى مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر قال : كنا معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى أو نقول : ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " ( محمد - 33 ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش ، قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا قد هلك ، فنزلت هذه الآية ، فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئا رجونا له ، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر .
وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال ، فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ؟ ثم قرأ : " ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الحموي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد الله بن حميد ، حدثنا حيان بن هلال وسليمان بن حرب وحجاج بن منهال قالوا : حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ولا يبالي " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن أبي عدي عن شعبة عن قتادة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ، ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله ، فقال : هل لي من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمل به المائة . فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي ، وقال : قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له " .
ورواه مسلم بن الحجاج عن محمد بن المثنى العنبري عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة بهذا الإسناد ، وقال : " فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال له : لا ، فقتله وكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم ، فقال له : قتلت مائة نفس فهل لي من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قال رجل - لم يعمل خيرا قط - لأهله : إذا مات فحرقوه ، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، قال : فلما مات فعلوا ما أمرهم ، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب وأنت أعلم ، فغفر له " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسين محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عكرمة بن عمار ، حدثنا ضمضم بن جوس قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ ، فقال : يا يماني تعال ، وما أعرفه ، فقال : لا تقولن لرجل : والله لا يغفر الله لك أبدا ، ولا يدخلك الله الجنة ، قلت : ومن أنت يرحمك الله ؟ قال : أبو هريرة ، قال فقلت : إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه ، قال : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر يقول كأنه مذنب ، فجعل يقول : أقصر أقصر عما أنت فيه ، قال فيقول : خلني وربي ، قال : حتى وجده يوما على ذنب استعظمه ، فقال : أقصر ، فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك أبدا ، ولا يدخلك الجنة أبدا . قال : فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ فقال : لا يا رب ، فقال : اذهبوا به إلى النار " قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .
قوله عز وجل : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) .
أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر القفال ، أخبرنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن يونس الخطيب ، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا أبو قلابة ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى : " إلا اللمم " ( النجم - 32 ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما
۞ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)

يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه، ويحثهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال: { قُلْ } يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه، مخبرا للعباد عن ربهم: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب، والسعي في مساخط علام الغيوب.
{ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار. { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي: وصفه المغفرة والرحمة، وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مالئة للموجود،.تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبته، .ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها، بل لا سبب لها غيره، الإنابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد،. فهلم إلى هذا السبب الأجل، والطريق الأعظم.
۞ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية, فقال بعضهم: عني بها قوم من أهل الشرك, قالوا لما دعوا إلى الإيمان بالله: كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا, وقتلنا النفس التي حرّم الله, والله يعد فاعل ذلك النار, فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان, فنـزلت هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي , عن أبيه, عن ابن عباس: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) وذلك أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أنه من عبد الأوثان, ودعا مع الله إلها آخر, وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له, فكيف نهاجر ونسلم, وقد عبدنا الآلهة, وقتلنا النفس التي حرم الله ونحن أهل الشرك؟ فأنـزل الله: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) يقول: لا تيأسوا من رحمتي, إن الله يغفر الذنوب جميعا وقال: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ وإنما يعاتب الله أولي الألباب وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان, فإياهم عاتب, وإياهم أمر إن أسرف أحدهم على نفسه, أن لا يقنط من رحمة الله, وأن ينيب ولا يبطئ بالتوبة من ذلك الإسراف, والذنب الذي عمل، وقد ذكر الله في سورة آل عمران المؤمنين حين سألوا الله المغفرة, فقالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا فينبغي أن يعلم أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف, فأمرهم بالتوبة من إسرافهم.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) قال: قتل النفس في الجاهلية.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, قال: ثني ابن إسحاق, عن بعض أصحابه, عن عطاء بن يسار, قال: نـزلت هذه الآيات الثلاث بالمدينة في وحشيّ (3) وأصحابه ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) إلى قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ .
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني أبو صخر, قال: قال زيد بن أسلم, في قوله: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) قال: إنما هي للمشركين.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) حتى بلغ ( الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) قال: ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية, فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يتاب عليهم, فدعاهم الله بهذه الآية: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ).
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ في قوله: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) قال: هؤلاء المشركون من أهل مكة, قالوا: كيف نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى, أو قتل, أو أشرك بالرحمن كان هالكا من أهل النار؟ فكلّ هذه الأعمال قد عملناها، فأنـزلت فيهم هذه الآية: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ).
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) ... الآية قال: كان قوم مسخوطين في أهل الجاهلية, فلما بعث الله نبيه قالوا: لو أتينا محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فآمنا به واتبعناه، فقال بعضهم لبعض: كيف يقبلكم الله ورسوله فى دينه؟ فقالوا: ألا نبعث إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا؟ فلما بعثوا, نـزل القرآن: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) فقرأ حتى بلغ: فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن الشعبي, قال: تجالس شتير بن شكل ومسروق فقال شتير: إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك, وإما أن أحدّث فتصدّقني فقال مسروق: لا بل حدث فأصدّقك, فقال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكبر آية فرجا في القرآن ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) فقال مسروق: صدقت.
وقال آخرون: بل عني بذلك أهل الإسلام, وقالوا: تأويل الكلام: إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء, قالوا: وهي كذلك في مصحف عبد الله, وقالوا: إنما نـزلت هذه الآية في قوم صدّهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم, فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, قال: ثنا يحيى بن سعيد الأموي , عن ابن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر قال: قال يعني عمر: كنا نقول: ما لمن افتتن من توبة، وكانوا يقولون: ما الله بقابل منا شيئا, تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته, فلما قدم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم المدينة أنـزل الله فيهم: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه ) ... الآية, قال عمر: فكتبتها بيدي, ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص , قال هشام: فلما جاءتني جعلت أقرؤها ولا أفهمها, فوقع في نفسي أنها أنـزلت فينا لما كنا نقول, فجلست على بعيري, ثم لحقت بالمدينة.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, قال: ثني محمد بن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر, قال: إنما أنـزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة, والوليد بن الوليد, ونفر من المسلمين, كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذّبوا, فافتنوا، كنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عُذّبوه, فنـزلت هؤلاء الآيات, وكان عمر بن الخطاب كاتبا، قال: فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عَيَّاش بن أبي ربيعة, والوليد بن الوليد, إلى أولئك النفر, فأسلموا وهاجروا.
حدثني يعقوب, قال: ثنا ابن علية, قال: ثنا يونس, عن ابن سيرين, قال: قال عليّ رضي الله عنه : أي آية في القرآن أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا . ونحوها, فقال علي: ما في القرآن آية أوسع من: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) ... إلى آخر الآية.
حدثنا أبو السائب, قال: ثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن أبي سعيد الأزدي, عن أبي الكنود, قال: دخل عبد الله المسجد, فإذا قاصّ يذكر النار والأغلال, قال: فجاء حتى قام على رأسه, فقال ما يذكر أتقنط الناس ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) ... الآية.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني أبو صخر, عن القرظي أنه قال في هذه الآية: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) قال: هي للناس أجمعين.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, قال: ثنا حجاج, قال: ثنا ابن لهيعة, عن أبي قنبل, قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول: ثني أبو عبد الرحمن الجلائي, أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: " ما أُحِبُّ أنَّ لِي الدُّنْيَا وَمَا فِيها بهذه الآية: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ )"... الآية, فقال رجل: يا رسول الله, ومن أشرك ؟ فسكت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , ثم قال: " ألا وَمَنْ أشْرَكَ, ألا ومَنْ أشْرَكَ, ثلاث مرات ".
وقال آخرون: نـزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار, فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن البرقي, قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة, قال: ثنا أبو معاذ الخراساني, عن مقاتل بن حيان, عن نافع, عن ابن عمر, قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نرى أو نقول: إنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة, حتى نـزلت هذه الآية أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ فلما نـزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش, قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا: قد هلك, حتى نـزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فلما نـزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك, فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه, إن لم يصب منها شيئا رجونا له.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك, لأن الله عم بقوله ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) جميع المسرفين, فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.
فإن قال قائل: فيغفر الله الشرك؟ قيل: نعم إذا تاب منه المشرك. وإنما عنى بقوله ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) لمن يشاء, كما قد ذكرنا قبل, أن ابن مسعود كان يقرؤه: وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه, فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ , فأخبر أنه لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله: إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا . فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه, إن شاء تفضل عليه, فعفا له عنه, وإن شاء عدل عليه فجازاه به.
وأما قوله: ( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) فإنه يعني: لا تيأسوا من رحمة الله. كذلك حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس.
وقد ذكرنا ما في ذلك من الروايات قبل فيما مضى وبيَّنا معناه.
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) يقول: إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها( إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) بهم, أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
-----------------
الهوامش :
(3) هو وحشي بن حرب الحبشي مولى جبير بن مطعم ، وهو قاتل حمزة بن عبد المطلب في غزوة أحد ، وكان فاتكا يشرب الخمر ثم أسلم بعد . ( انظر خلاصة الخزرجي ) .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features