وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)
قوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين .
قوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن هذا توبيخ لمشركي قريش ، أي : إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر . ومعنى : صرفنا وجهنا إليك وبعثنا . وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب - على ما يأتي - ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم . قال المفسرون ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم : لما مات أبو طالب خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة فقصد عبد ياليل ومسعودا وحبيبا وهم إخوة - بنو عمرو بن عمير - وعندهم امرأة من قريش من بني جمح ، فدعاهم إلى الإيمان وسألهم أن ينصروه على قومه فقال أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر : ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث : والله لا أكلمك كلمة أبدا ، إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك . ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون به ، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة . فقال للجمحية : [ ماذا لقينا من أحمائك ] ؟ ثم قال : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، لمن تكلني إلى عبد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك . فرحمه ابنا ربيعة وقالا لغلام لهما نصراني يقال له عداس : خذ قطفا من العنب وضعه في هذا الطبق ثم ضعه بين يدي هذا الرجل ، فلما وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : باسم الله ثم أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك قال : أنا نصراني من أهل نينوى . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ قال : ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي فانكب عداس حتى قبل رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - ويديه ورجليه . فقال له ابنا ربيعة : لم فعلت هكذا ؟ فقال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا ، أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي .
ثم انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين . وكان سبب ذلك أن الجن كانوا يسترقون السمع ، فلما حرست السماء ورموا بالشهب قال إبليس : إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض ، فبعث سراياه ليعرف الخبر ، أولهم ركب نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة ، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ويتلو القرآن ، فاستمعوا له وقالوا : أنصتوا .
وقالت طائفة : بل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله - عز وجل - إليه نفرا من الجن من نينوى وجمعهم له ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إني أريد أن أقرأ القرآن على الجن الليلة فأيكم يتبعني ؟ فأطرقوا ، ثم قال الثانية فأطرقوا ، ثم قال الثالثة فأطرقوا ، فقال ابن مسعود : أنا يا رسول الله ، قال ابن مسعود : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - شعبا يقال له ( شعب الحجون ) وخط لي خطا وأمرني أن أجلس فيه وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك . ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي في رفرفها ، وسمعت لغطا وغمغمة حتى خفت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، ففرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الفجر فقال : أنمت ؟ قلت : لا والله ، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول اجلسوا ، فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم ثم قال : هل رأيت شيئا ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، رأيت رجالا سودا مستثفري ثيابا بيضا ، فقال : أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة . فقالوا : يا رسول الله يقذرها الناس علينا . فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجى بالعظم والروث .
قلت : يا نبي الله ، وما يغني ذلك عنهم قال : إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكل فقلت : يا رسول الله ، لقد سمعت لغطا شديدا ؟ فقال : إن الجن تدارأت في قتيل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق . ثم تبرز النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أتاني فقال : هل معك ماء ؟ فقلت يا نبي الله ، معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر فصببت على يديه فتوضأ فقال : تمرة طيبة وماء طهور روى معناه معمر عن قتادة وشعبة أيضا عن ابن مسعود . وليس في حديث معمر ذكر نبيذ التمر .
روي عن أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطا فقال : ما هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الزط . قال : ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن فكانوا مستفزين يتبع بعضهم بعضا . وذكر الدارقطني عن عبد الله بن لهيعة حدثني قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس عن ابن مسعود أنه وضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن بنبيذ فتوضأ به وقال : شراب وطهور . ابن لهيعة لا يحتج به . وبهذا السند عن ابن مسعود : أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمعك ماء يا بن مسعود ؟ فقال : معي نبيذ في إداوة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صب علي منه . فتوضأ وقال : هو شراب وطهور تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث .
قال الدارقطني : وقيل إن ابن مسعود لم يشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن . كذلك رواه علقمة بن قيس وأبو عبيدة بن عبد الله وغيرهما عنه أنه قال : ما شهدت ليلة الجن . حدثنا أبو محمد بن صاعد حدثنا أبو الأشعث حدثنا بشر بن المفضل حدثنا داود بن أبي هند عن عامر عن علقمة بن قيس قال قلت لعبد الله بن مسعود : أشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن ؟ قال لا . قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة راويه . وعن عمرو بن مرة قال قلت لأبي عبيدة : حضر عبد الله بن مسعود ليلة الجن ؟ فقال لا . قال ابن عباس : كان الجن سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - رسلا إلى قومهم . وقال زر بن حبيش : كانوا تسعة أحدهم زوبعة . وقال قتادة : إنهم من أهل نينوى . وقال مجاهد : من أهل حران . وقال عكرمة : من جزيرة الموصل . وقيل : إنهم كانوا سبعة ، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين . وروى ابن أبي الدنيا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذا الحديث وذكر فيه نصيبين فقال : رفعت إلي حتى رأيتها فدعوت الله أن يكثر مطرها وينضر شجرها وأن يغزو نهرها . وقال السهيلي : ويقال كانوا سبعة ، وكانوا يهودا فأسلموا ، ولذلك قالوا : أنزل من بعد موسى وقيل في أسمائهم : شاصر وماصر ومنشى وماشي والأحقب ، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد . ومنهم عمرو بن جابر ، ذكره ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه فإذا حية قتيل ، فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها ، فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان : أيكم دفن عمرو بن جابر ؟ فقلنا : ما ندري من عمرو بن جابر فقالتا : إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه ، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو ، وهو الحية التي رأيتم ، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ولوا إلى قومهم منذرين . وذكر ابن سلام رواية أخرى : أن الذي كفنه هو صفوان بن المعطل .
قلت : وذكر هذا الخبر الثعلبي بنحوه فقال : وقال ثابت بن قطبة جاء أناس إلى ابن مسعود فقالوا : إنا كنا في سفر فرأينا حية متشحطة في دمائها ، فأخذها رجل منا فواريناها ، فجاء أناس فقالوا : أيكم دفن عمرا ؟ قلنا وما عمرو ؟ قالوا الحية التي دفنتم في مكان كذا ، أما إنه كان من النفر الذين سمعوا القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان بين حيين من الجن مسلمين وكافرين قتال فقتل . ففي هذا الخبر أن ابن مسعود لم يكن في سفر ولا حضر الدفن ، والله أعلم .
وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين سماه : أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشا فسقاها ثم أنها ماتت فدفنها ، فأتي من الليل فسلم عليه وشكر ، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا من جن نصيبين اسمه زوبعة . قال السهيلي : وبلغنا في فضائل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - مما حدثنا به أبو بكر بن طاهر الأشبيلي أن عمر بن عبد العزيز كان يمشي بأرض فلاة ، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها ، فإذا قائل يقول : يا سرق ، أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : [ ستموت بأرض فلاة فيكفنك رجل صالح ] . فقال : ومن أنت يرحمك الله ؟ فقال : رجل من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق منهم إلا أنا وسرق ، وهذا سرق قد مات .
وقد قتلت عائشة رضي الله عنها حية رأتها في حجرتها تستمع وعائشة تقرأ ، فأتيت في المنام فقيل لها : إنك قتلت رجلا مؤمنا من الجن الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : لو كان مؤمنا ما دخل على حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل لها : ما دخل عليك إلا وأنت متقنعة ، وما جاء إلا ليستمع الذكر . فأصبحت عائشة فزعة ، واشترت رقابا فأعتقتهم .
قال السهيلي : وقد ذكرنا من أسماء هؤلاء الجن ما حضرنا ، فإن كانوا سبعة فالأحقب منهم وصف لأحدهم ، وليس باسم علم ، فإن الأسماء التي ذكرناها آنفا ثمانية بالأحقب . والله أعلم .
قلت : وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه : هامة بن الهيم بن الأقيس بن إبليس ، قيل : إنه من مؤمني الجن وممن لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمه سورة ( إذا وقعت الواقعة ) و ( المرسلات ) و ( عم يتساءلون ) و ( إذا الشمس كورت ) و ( الحمد ) و ( المعوذتين ) وذكر أنه حضر قتل هابيل وشرك في دمه وهو غلام ابن أعوام ، وأنه لقي نوحا وتاب على يديه ، وهودا وصالحا ويعقوب ويوسف وإلياس وموسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهم السلام . وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن مجاهد فقال : حسى ومسى ومنشى وشاصر وماصر والأرد وأنيان والأحقم . وذكرها أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بابن السماك قال : حدثنا محمد بن البراء قال حدثنا الزبير بن بكار قال : كان حمزة بن عتبة بن أبي لهب يسمي جن نصيبين الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول : حسى ومسى وشاصر وماصر والأفخر والأرد وأنيال .
قوله تعالى : فلما حضروه أي حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو من باب تلوين الخطاب . وقيل : لما حضروا القرآن واستماعه . قالوا أنصتوا أي قال بعضهم لبعض اسكتوا لاستماع القرآن . قال ابن مسعود : هبطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه قالوا أنصتوا قالوا صه . وكانوا سبعة : أحدهم زوبعة ، فأنزل الله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا الآية إلى قوله : في ضلال مبين وقيل : أنصتوا لسماع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والمعنى متقارب . فلما قضي وقرأ لاحق بن حميد وخبيب بن عبد الله بن الزبير ( فلما قضى ) بفتح القاف والضاد ، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الصلاة . وذلك أنهم خرجوا حين حرست السماء من استراق السمع ليستخبروا ما أوجب ذلك ؟ فجاءوا وادي نخلة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الفجر ، وكانوا سبعة ، فسمعوه وانصرفوا إلى قومهم منذرين ، ولم يعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : بل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفرا من الجن ليستمعوا منه وينذروا قومهم ، فلما تلا عليهم القرآن وفرغ انصرفوا بأمره قاصدين من وراءهم من قومهم من الجن ، منذرين لهم مخالفة القرآن ومحذرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا . وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه أرسلهم . ويدل على هذا قولهم : ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ولولا ذلك لما أنذروا قومهم . وقد تقدم عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهم رسلا إلى قومهم ، فعلى هذا ليلة الجن ليلتان ، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى . وفي صحيح مسلم ما يدل على ذلك على ما يأتي بيانه في ( قل أوحي إلي ) . وفي صحيح مسلم عن معن قال : سمعت أبي قال سألت مسروقا : من آذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال : حدثني أبوك - يعني ابن مسعود - أنه آذنته بهم شجرة .