وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (20)
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا
فيه مسائل :
الأولى : لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة ، وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك بذكر الفراق الذي سببه الزوج ، وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها مالا .
الثانية : واختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق وكان منهما نشوز وسوء عشرة ؛ فقال مالك رضي الله عنه : للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه هو . وقال جماعة من العلماء : لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك .
الثالثة : قوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا الآية فيها دليل على جواز المغالاة في المهور ؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح . وخطب عمر رضي الله عنه فقال : ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية . فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر ، يعطينا الله وتحرمنا ! أليس الله سبحانه وتعالى يقول : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ؟ فقال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر . وفي رواية فأطرق عمر ثم قال : كل الناس أفقه منك يا عمر ! . وفي أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ . وترك الإنكار . أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال : خطب عمر الناس ، فذكره إلى قوله : اثنتي عشرة أوقية ، ولم يذكر : فقامت إليه امرأة . إلى آخره . وأخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي العجفاء ، وزاد بعد قوله : أوقية . وإن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه ، ويقول : قد كلفت إليك علق القربة - أو عرق القربة ؛ وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة . قال الجوهري : وعلق القربة لغة في عرق القربة . قال غيره : ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق به . يقول كلفت إليك حتى عصام القربة . وعرق القربة ماؤها ؛ يقول : جشمت إليك حتى سافرت واحتجت إلى عرق القربة ، وهو ماؤها في السفر . ويقال : بل عرق القربة أن يقول : نصبت لك وتكلفت حتى عرقت عرق القربة ، وهو سيلانها . وقيل : إنهم كانوا يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه فيشق على الظهر ؛ ففسر به اللفظان : العرق والعلق . وقال الأصمعي : عرق القربة كلمة معناها الشدة . قال : ولا أدري ما أصلها . قال الأصمعي : وسمعت ابن أبي طرفة وكان من أفصح من رأيت يقول : سمعت شيخاننا يقولون : لقيت من فلان عرق القربة ، يعنون الشدة . وأنشدني لابن الأحمر :
ليست بمشتمة تعد وعفوها عرق السقاء على القعود اللاغب
قال أبو عبيد : أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم فيؤخذ صاحبها بها ، وقد أبلغت إليه كعرق القربة ، فقال : كعرق السقا لما لم يمكنه الشعر ؛ ثم قال : على القعود اللاغب ، وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في أسفارهم . وهذا المعنى شبيه بما كان الفراء يحكيه ؛ زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه ؛ فكان في ذلك تعب ومشقة على الظهر . وكان الفراء يجعل هذا التفسير في علق القربة باللام . وقال قوم : لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور ؛ لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة ؛ كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد . وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة . ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة . وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد وقد جاء يستعينه في مهره ، فسأله عنه فقال : مائتين ؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل .
فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور ؛ وهذا لا يلزم ، وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل المتزوج ليس إنكارا لأجل المغالاة والإكثار في المهور ، وإنما الإنكار لأنه كان فقيرا في تلك الحال فأحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال ، وهذا مكروه باتفاق . وقد أصدق عمر أم كلثوم بنت علي من فاطمة رضوان الله عليهم أربعين ألف درهم . وروى أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : أترضى أن أزوجك فلانة ؟ قال : نعم . وقال للمرأة : أترضين أن أزوجك فلانا ؟ قالت : نعم . فزوج أحدهما من صاحبه ؛ فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا ، وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر ؛ فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا ، وإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر ؛ فأخذت سهمها فباعته بمائة ألف . وقد أجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق ؛ لقوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا واختلفوا في أقله ، وسيأتي عند قوله تعالى : أن تبتغوا بأموالكم . ومضى القول في تحديد القنطار في " آل عمران " . وقرأ ابن محيصن " وآتيتم إحداهن " بوصل ألف إحداهن وهي لغة ؛ ومنه قول الشاعر :
وتسمع من تحت العجاج لها ازملا
وقول الآخر :
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا
الرابعة : قوله تعالى : فلا تأخذوا منه شيئا قال بكر بن عبد الله المزني : لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا ؛ لقول الله تعالى : فلا تأخذوا ، وجعلها ناسخة لآية " البقرة " .
وقال ابن زيد وغيره : هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا . والصحيح أن هذه الآيات محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبنى بعضها على بعض . قال الطبري : هي محكمة ، ولا معنى لقول بكر : إن أرادت هي العطاء ؛ فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها .
بهتانا : مصدر في موضع الحال ، وإثما : معطوف عليه ، مبينا : من نعته .