وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
وقوله : ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) أي : إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة ، قالوا : ( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) أي : حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة ، كما تأتي إلى الرسل ، كقوله ، جل وعلا ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ) [ الفرقان : 21 ] .
وقوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) أي : هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه ، كما قال تعالى : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك ) الآية [ الزخرف : 31 ، 32 ] يعنون : لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير مبجل في أعينهم ( من القريتين ) أي : مكة والطائف . وذلك لأنهم - قبحهم الله - كانوا يزدرون بالرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بغيا وحسدا ، وعنادا واستكبارا ، كما قال تعالى مخبرا عنهم : ( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ) [ الأنبياء : 36 ] ، وقال تعالى : ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ) [ الفرقان : 41 ] ، وقال تعالى : ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) [ الأنعام : 10 ] . هذا وهم يعترفون بفضله وشرفه ونسبه . وطهارة بيته ومرباه ومنشئه ، حتى أنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه : " الأمين " ، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار " أبو سفيان " حين سأله " هرقل " ملك الروم : كيف نسبه فيكم؟ قال : هو فينا ذو نسب . قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا . الحديث بطوله الذي استدل به ملك الروم بطهارة صفاته ، عليه السلام ، على صدقه ونبوته وصحة ما جاء به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي ، عن شداد أبي عمار ، عن واثلة بن الأسقع ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم "
انفرد بإخراجه مسلم من حديث الأوزاعي - وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام - به نحوه .
وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا ، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه "
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن المطلب بن أبي وداعة قال : قال العباس : بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس ، فصعد المنبر فقال : " من أنا؟ " قالوا : أنت رسول الله . قال : " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة . وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا " صدق صلوات الله وسلامه عليه .
وفي الحديث أيضا المروي عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال لي جبريل : قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد ، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم " رواه الحاكم والبيهقي . وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر ، حدثنا عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته . ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ .
وقال أحمد : حدثنا شجاع بن الوليد قال : ذكر قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا سلمان ، لا تبغضني فتفارق دينك " قلت : يا رسول الله ، كيف أبغضك وبك هدانا الله؟ قال : " تبغض العرب فتبغضني "
وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية : ذكر عن محمد بن منصور الجواز ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي حسين قال : أبصر رجل ابن عباس وهو يدخل من باب المسجد فلما نظر إليه راعه ، فقال : من هذا؟ قالوا : ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) .
وقوله تعالى : ( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد ، لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاءوا به ، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله ) صغار ) وهو الذلة الدائمة ، لما أنهم استكبروا أعقبهم ذلك ذلا كما قال تعالى : ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) [ غافر : 60 ] أي : صاغرين ذليلين حقيرين .
وقوله : ( وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) لما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد جزاء وفاقا ، ( ولا يظلم ربك أحدا ) [ الكهف : 49 ] ، كما قال تعالى : ( يوم تبلى السرائر ) [ الطارق : 9 ] أي : تظهر المستترات والمكنونات والضمائر . وجاء في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ، فيقال : هذه غدرة فلان ابن فلان "
والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل .