فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)

وقوله : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) أي : فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قاب قوسين أي : بقدرهما إذا مدا . قاله مجاهد ، وقتادة .
وقد قيل : إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبدها .
وقوله : ( أو أدنى ) قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه ، كقوله : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) [ البقرة : 74 ] ، أي : ما هي بألين من الحجارة ، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة . وكذا قوله : ( يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ) [ النساء : 77 ] ، وقوله : ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات : 147 ] ، أي : ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة ، أو يزيدون عليها . فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد ، فإن هذا ممتنع هاهنا ، وهكذا هذه الآية : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) .
وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما هو جبريل عليه السلام ، هو قول أم المؤمنين عائشة ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، وأبي هريرة ، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله . وروى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس أنه قال : " رأى محمد ربه بفؤاده مرتين " . فجعل هذه إحداهما . وجاء في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس في حديث الإسراء : " ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى " ولهذا تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية ، وذكروا أشياء فيها من الغرابة ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ; فإن هذه كانت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض لا ليلة الإسراء ; ولهذا قال بعده : ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) ، فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض .
وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا زر بن حبيش قال : قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت جبريل له ستمائة جناح " .
وقال ابن وهب : حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان أول شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل : يا محمد يا محمد . فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينا وشمالا فلم ير شيئا - ثلاثا - ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه مع الأخرى على أفق السماء فقال : يا محمد ، جبريل ، جبريل - يسكنه - فهرب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل في الناس ، فنظر فلم ير شيئا ، ثم خرج من الناس ، ثم نظر فرآه ، فدخل في الناس فلم ير شيئا ، ثم خرج فنظر فرآه ، فذلك قول الله عز وجل : ( والنجم إذا هوى [ ما ضل صاحبكم وما غوى ] ) إلى قوله : ( ثم دنا فتدلى ) يعني جبريل إلى محمد ، ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) : ويقولون : القاب نصف الأصبع . وقال بعضهم : ذراعين كان بينهما .
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث ابن وهب . وفي حديث الزهري عن أبي سلمة ، عن جابر شاهد لهذا .
وروى البخاري عن طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن الشيباني قال : سألت زرا عن قوله : ( فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) قال : حدثنا عبد الله أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح .
وقال ابن جرير : حدثني ابن بزيع البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال : رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه حلتا رفرف ، قد ملأ ما بين السماء والأرض .
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)

قوله - عز وجل - : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) اختلفوا في معناه :
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشوع عن الشعبي عن مسروق قال : قلت لعائشة فأين قوله : " ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى " ؟ قالت : " ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل ، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته ، فسد الأفق " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا طلق بن غنام ، حدثنا زائدة عن الشيباني قال : سألت زرا عن قوله : " فكان قاب قوسين أو أدنى " ، قال : أخبرنا عبد الله - يعني ابن مسعود - أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح .
فمعنى الآية : ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض " فتدلى " فنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فكان منه " قاب قوسين أو أدنى " ، بل أدنى ، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة ، قيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : ثم تدلى فدنا؛ لأن التدلي سبب الدنو .
وقال آخرون : ثم دنا الرب - عز وجل - من محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدلى ، فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى . وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس : ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى . وهذا رواية ابن سلمة عن ابن عباس ، " والتدلي " هو النزول إلى الشيء حتى يقرب منه .
وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه .
وقال الضحاك : دنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه فتدلى فأهوى للسجود ، فكان منه قاب قوسين أو أدنى .
ومعنى قوله : " قاب قوسين " أي قدر قوسين ، و " القاب " و " القيب " و " القاد " و " القيد " : عبارة عن المقدار ، و " القوس " : ما يرمى به في قول الضحاك ومجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس ، فأخبر أنه كان بين جبريل وبين محمد عليهما السلام مقدار قوسين ، قال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس ، وهذا إشارة إلى تأكيد القرب . وأصله : أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما ، يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه .
وقال عبد الله بن مسعود : " قاب قوسين " أي : قدر ذراعين ، وهو قول سعيد بن جبير وشقيق بن سلمة ، و " القوس " : الذراع يقاس بها كل شيء ، " أو أدنى " : بل أقرب .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features