يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)

قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : روى الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم - ثم ذكر - الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك .
الثانية : قال بعض العلماء : والخطاب في هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه أقامه مقام الرسل ؛ كما قال : الذين قال لهم الناس يعني نعيم بن مسعود . وقال الزجاج : هذه مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودل الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا ؛ أي كلوا من الحلال . وقال الطبري : الخطاب لعيسى - عليه السلام - ؛ روي أنه كان يأكل من غزل أمه . والمشهور عنه أنه كان يأكل من بقل البرية . ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقديره لمحمد - صلى الله عليه وسلم - تشريفا له . وقيل : إن هذه المقالة خوطب بها كل نبي ؛ لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها . فيكون المعنى : وقلنا يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ؛ كما تقول لتاجر : يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا ؛ فأنت تخاطبه بالمعنى . وقد اقترن بذلك أن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه ، فلم يخاطبوا قط مجتمعين صلوات الله عليهم أجمعين ، وإنما خوطب كل واحد في عصره . قال الفراء : هو كما تقول للرجل الواحد : كفوا عنا أذاكم .
الثالثة : سوى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام ، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى : إني بما تعملون عليم صلى الله على رسله وأنبيائه . وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم . وقد مضى القول في الطيبات والرزق في غير موضع ، والحمد لله . وفي قوله - عليه السلام - : يمد يديه دليل على مشروعية مد اليدين عند الدعاء إلى السماء ؛ وقد مضى الخلاف في هذا والكلام فيه والحمد لله . وقوله - عليه السلام - : فأنى يستجاب لذلك على جهة الاستبعاد ؛ أي أنه ليس أهلا لإجابة دعائه لكن يجوز أن يستجيب الله له تفضلا ولطفا وكرما .
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)

هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات، التي هي الرزق الطيب الحلال، وشكر الله، بالعمل الصالح، الذي به يصلح القلب والبدن، والدنيا والآخرة. ويخبرهم أنه بما يعملون عليم، فكل عمل عملوه، وكل سعي اكتسبوه، فإن الله يعلمه، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء وأفضله، فدل هذا على أن الرسل كلهم، متفقون على إباحة الطيبات من المآكل، وتحريم الخبائث منها، وأنهم متفقون على كل عمل صالح وإن تنوعت بعض أجناس المأمورات، واختلفت بها الشرائع، فإنها كلها عمل صالح، ولكن تتفاوت بتفاوت الأزمنة.
ولهذا، الأعمال الصالحة، التي هي صلاح في جميع الأزمنة، قد اتفقت عليها الأنبياء والشرائع، كالأمر بتوحيد الله، وإخلاص الدين له، ومحبته، وخوفه، ورجائه، والبر، والصدق، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الضعفاء والمساكين واليتامى، والحنو والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة، ولهذا كان أهل العلم، والكتب السابقة، والعقل، حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، يستدلون على نبوته بأجناس ما يأمر به، وينهى عنه، كما جرى لهرقل وغيره، فإنه إذا أمر بما أمر به الأنبياء، الذين من قبله، ونهى عما نهوا عنه، دل على أنه من جنسهم، بخلاف الكذاب، فلا بد أن يأمر بالشر، وينهى عن الخير.
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)

قوله عز وجل : ( يا أيها الرسل ) قال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي وجماعة : أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة . وقال بعضهم : أراد به عيسى . وقيل : أراد به جميع الرسل عليهم السلام ، ( كلوا من الطيبات ) أي : الحلالات ، ( واعملوا صالحا ) الصلاح هو الاستقامة على ما توجبه الشريعة ، ( إني بما تعملون عليم )
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)

أمر تعالى عباده المرسلين ، عليهم الصلاة والسلام أجمعين ، بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح ، فقام الأنبياء ، عليهم السلام ، بهذا أتم القيام . وجمعوا بين كل خير ، قولا وعملا ودلالة ونصحا ، فجزاهم الله عن العباد خيرا .
قال الحسن البصري في قوله : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ) قال : أما والله ما أمروا بأصفركم ولا أحمركم ، ولا حلوكم ولا حامضكم ، ولكن قال : انتهوا إلى الحلال منه .
وقال سعيد بن جبير ، والضحاك : ( كلوا من الطيبات ) يعني : الحلال .
وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي ميسرة بن شرحبيل : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه .
وفي الصحيح : " ما من نبي إلا رعى الغنم " . قالوا : وأنت يا رسول الله؟ قال : " نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة " .
وفي الصحيح : أن داود ، عليه السلام ، كان يأكل من كسب يده .
وفي الصحيحين : " إن أحب الصيام إلى الله صيام داود ، وأحب القيام إلى الله قيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم ، عن ضمرة بن حبيب ، أن أم عبد الله ، أخت شداد بن أوس بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك في أول النهار وشدة الحر ، فرد إليها رسولها : أنى كانت لك الشاة؟ فقالت : اشتريتها من مالي ، فشرب منه ، فلما كان الغد أتته أم عبد الله أخت شداد فقالت : يا رسول الله ، بعثت إليك بلبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر ، فرددت إلي الرسول فيه؟ . فقال لها : " بذلك أمرت الرسل ، ألا تأكل إلا طيبا ، ولا تعمل إلا صالحا " .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، وجامع الترمذي ، ومسند الإمام أحمد واللفظ له من حديث فضيل بن مرزوق ، عن عدي بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) . وقال : ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) [ البقرة : 172 ] . ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، يمد يديه إلى السماء : يا رب ، يا رب ، فأنى يستجاب لذلك " .
وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث فضيل بن مرزوق .
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)

يقول تعالى ذكره: وقلنا لعيسى: يا أيها الرسل كلوا من الحلال الذي طيبه الله لكم دون الحرام، ( وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) تقول في الكلام للرجل الواحد: أيها القوم كفوا عنَّا أذاكم، وكما قال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ، وهو رجل واحد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل، قال: ثني عبيد بن إسحاق الضبيّ العطار، عن حفص بن عمر الفزاريّ، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن عمرو بن شرحبيل: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) قال: كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه.
وقوله: ( إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) يقول: إني بأعمالكم ذو علم، لا يخفى عليّ منها شيء، وأنا مجازيكم بجميعها، وموفِّيكم أجوركم وثوابكم عليها، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features