إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)

قد أورد أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله تعالى ، عند قوله تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) سؤالا فقال : قد علم أن بعض الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء ، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرا كإبراهيم ، وإما إلى السماء كعيسى ، فأين النصرة في الدنيا ؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين .
أحدهما : أن يكون الخبر خرج عاما ، والمراد به البعض ، قال : وهذا سائغ في اللغة .
الثاني : أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم ، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم ، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء ، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم ، وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأما الذين راموا صلب المسيح ، عليه السلام ، من اليهود ، فسلط الله عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم ، وأظهرهم الله عليهم . ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا ، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام . وهذه نصرة عظيمة ، وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه : أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ، ويقر أعينهم ممن آذاهم ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب " وفي الحديث الآخر : " إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " ; ولهذا أهلك تعالى قوم نوح وعاد وثمود ، وأصحاب الرس ، وقوم لوط ، وأهل مدين ، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق . وأنجى الله من بينهم المؤمنين ، فلم يهلك منهم أحدا وعذب الكافرين ، فلم يفلت منهم أحدا .
قال السدي : لم يبعث الله رسولا قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوما من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون ، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله لهم من ينصرهم ، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا . قال : فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا ، وهم منصورون فيها .
وهكذا نصر الله [ سبحانه ] نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على من خالفه وناوأه ، وكذبه وعاداه ، فجعل كلمته هي العليا ، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان . وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية ، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر ، فنصره عليهم وخذلهم له ، وقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم ، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ، ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح [ عليه ] مكة ، فقرت عينه ببلده ، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم ، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر ، وفتح له اليمن ، ودانت له جزيرة العرب بكمالها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا . ثم قبضه الله ، تعالى ، إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة ، فأقام الله أصحابه خلفاء بعده ، فبلغوا عنه دين الله ، ودعوا عباد الله إلى الله . وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب ، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها . ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام الساعة ; ولهذا قال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) أي : يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل .
قال مجاهد : الأشهاد : الملائكة .
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)

قوله تعالى : إنا لننصر رسلنا ويجوز حذف الضمة لثقلها فيقال : " رسلنا " والمراد موسى عليه السلام . والذين آمنوا في الحياة الدنيا في موضع نصب عطف على الرسل ، والمراد المؤمن الذي وعظ . وقيل : هو عام في الرسل والمؤمنين ، ونصرهم بإعلاء الحجج وإفلاحها في قول أبي العالية . وقيل : بالانتقام من أعدائهم . قال السدي : ما قتل قوم قط نبيا أو قوما من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله - عز وجل - من ينتقم لهم ، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا .
قوله تعالى : ويوم يقوم الأشهاد يعني يوم القيامة . قال زيد بن أسلم : الأشهاد أربعة : الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد . وقال مجاهد والسدي : الأشهاد الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتكذيب . وقال قتادة : الملائكة والأنبياء . ثم قيل : الأشهاد جمع شهيد مثل شريف وأشراف . وقال الزجاج : الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب . النحاس : ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه ، ولكن ما جاء منه مسموعا أدي كما سمع ، وكان على حذف الزائد . وأجاز الأخفش والفراء : " ويوم تقوم الأشهاد " بالتاء على تأنيث الجماعة . وفي الحديث عن أبي الدرداء وبعض المحدثين يقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقا على الله - عز وجل - أن يرد عنه نار جهنم ثم تلا : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا . وعنه - عليه السلام - أنه قال : من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله - عز وجل - يوم القيامة ملكا يحميه من النار ، ومن ذكر مسلما بشيء يشينه به وقفه الله - عز وجل - على جسر من جهنم حتى يخرج مما قال .
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)

لما ذكر عقوبة آل فرعون في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة، وذكر حالة أهل النار الفظيعة، الذين نابذوا رسله وحاربوهم، قال: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: بالحجة والبرهان والنصر، في الآخرة بالحكم لهم ولأتباعهم بالثواب، ولمن حاربهم بشدة العقاب.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features