فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)

( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) سبب نزول هذه الآية على - ما ذكره المفسرون : - أنه كان بين فارس والروم قتال ، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم ، لأن أهل فارس كانوا مجوسا أميين ، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس ، لكونهم أهل كتاب ، فبعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليها رجلا يقال له شهريراز ، وبعث قيصر جيشا إلى فارس واستعمل عليهم رجلا يدعى يحفس ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ ذلك المسلمين بمكة ، فشق عليهم ، وفرح به كفار مكة ، وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار ، فقال : فرحتم بظهور إخوانكم ، فلا تفرحوا فوالله ليظهرن على فارس [ على ما ] أخبرنا بذلك نبينا ، فقام إليه أبي بن خلف الجمحي فقال : كذبت ، فقال : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه - والمناحبة : المراهنة - على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت ففعلوا وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك ، وذلك قبل تحريم القمار ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاثة إلى التسع ، فزايده في الخطر وماده في الأجل ، فخرج أبو بكر ولقي أبيا ، فقال : لعلك ندمت ؟ قال : لا فتعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين ، وقيل إلى سبع سنين ، قال قد فعلت : فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه ، وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلا فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه ، فقال : لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا . ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بارزه ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم . وقيل : كان يوم بدر . قال الشعبي : لم تمض تلك المدة التي عقدوا المناحبة بين أهل مكة ، وفيها صاحب ، قمارهم أبي بن خلف ، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر ، وذلك قبل تحريم القمار ، حتى غلبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنو الرومية فقمر أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته ، وجاء به يحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تصدق به " .
وكان سبب غلبة الروم فارسا - على ما قاله عكرمة وغيره - : أن شهريراز بعدما غلبت الروم لم يزل يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ، فبينا أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كلمته كسرى ، فكتب إلى شهريراز : إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان ، فكتب إليه : أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان ، إن له نكاية وصوتا في العدو ، فلا تفعل ، فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفا منه ، فعجل برأسه ، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه ، وبعث بريدا إلى أهل فارس أني قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان الملك ، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة أمره فيها بقتل شهريراز ، وقال : إذا ولى فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه ، فلما قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره وجلس فرخان ودفع إليه الصحيفة ، فقال : ائتوني بشهريراز ، فقدمه ليضرب عنقه ، فقال : لا تعجل علي حتى أكتب وصيتي . قال : نعم ، فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت تريد أن تقتلني بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه ، وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ، ولا تبلغها الصحف ، فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين روميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا . فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطرق ، وخاف أن يكون قد مكر به ، حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا ثم بسط لهما فالتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، ومع كل واحد منهما سكين ، فدعوا بترجمان بينهما ، فقال شهريراز : إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا ، وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك . قال : قد أصبتما ، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا ، فقتلا الترجمان معا بسكينهما ، فأديلت الروم على فارس عند ذلك ، فاتبعوهم يقتلونهم ، ومات كسرى وجاء الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ففرح ومن معه ، فذلك قوله - عز وجل - : ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) أي : أقرب أرض الشام إلى أرض فارس ، قال عكرمة : هي أذرعات وكسكر ، وقال مجاهد : أرض الجزيرة . وقال مقاتل : الأردن وفلسطين . ( وهم من بعد غلبهم ) أي : الروم من بعد غلبة فارس إياهم ، والغلب والغلبة لغتان ) ( سيغلبون ) فارسا .
مسألة: الجزء السادسالتحليل الموضوعي
سُورَةُ الرُّومِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( الم ( 1 ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( 2 ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( 3 ) )
( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ) سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى - مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ : - أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ قِتَالٌ ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَوَدُّونَ أَنْ تَغْلِبَ فَارِسُ الرُّومَ ، لِأَنَّ أَهْلَ فَارِسَ كَانُوا مَجُوسًا أُمِّيِّينَ ، وَالْمُسْلِمُونَ يَوَدُّونَ غَلَبَةَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ ، لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ ، فَبَعَثَ كِسْرَى جَيْشًا إِلَى الرُّومِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ شَهْرَيَرَازُ ، وَبَعْثَ قَيْصَرُ جَيْشًا إِلَى فَارِسَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُدْعَى يَحْفَسُ ، فَالْتَقَيَا بِأَذْرِعَاتَ وَبُصْرَى ، وَهِيَ أَدْنَى الشَّامِ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، فَغَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ، وَفَرِحَ بِهِ كُفَّارُ مَكَّةَ ، وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ : إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ ، وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ وَقَدْ ظَهَرَ إِخْوَانُنَا مَنْ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ مَنْ أَهْلِ الرُّومِ ، وَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُونَا لَنَظْهَرَنَّ عَلَيْكُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِلَى الْكُفَّارِ ، فَقَالَ : فَرِحْتُمْ بِظُهُورِ إِخْوَانِكُمْ ، فَلَا تَفْرَحُوا فَوَاللَّهِ لَيُظْهِرُنَّ عَلَى فَارِسَ [ عَلَى مَا ] أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا ، فَقَامَ إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ فَقَالَ : كَذَبْتَ ، فَقَالَ : أَنْتَ أَكْذَبُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ ، فَقَالَ : اجْعَلْ بَيْنَنَا أَجَلًا أُنَاحِبُكَ عَلَيْهِ - وَالْمُنَاحَبَةُ : الْمُرَاهَنَةُ - عَلَى عَشْرِ قَلَائِصَ مِنِّي وَعَشْرِ قَلَائِصَ مِنْكَ ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ غَرِمْتُ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ غَرِمْتَ فَفَعَلُوا وَجَعَلُوا الْأَجَلَ ثَلَاثَ سِنِينَ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَا هَكَذَا ذَكَرْتُ إِنَّمَا الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعِ ، فَزَايِدْهُ فِي الْخَطَرِ وَمَادِّهِ فِي الْأَجَلِ ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ وَلَقِيَ أُبَيًّا ، فَقَالَ : لَعَلَّكَ نَدِمْتَ ؟ قَالَ : لَا فَتَعَالَ أُزَايِدُكَ فِي الْخَطَرِ وَأُمَادُّكَ فِي الْأَجَلِ ، فَاجْعَلْهَا مِائَةَ قَلُوصٍ وَمِائَةُ قَلُوصٍ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ ، وَقِيلَ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ ، قَالَ قَدْ فَعَلْتُ : فَلَمَّا خَشِيَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أَنْ يَخْرُجَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ مَكَّةَ أَتَاهُ فَلَزِمَهُ ، وَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ فَأَقِمْ لِي كَفِيلًا فَكَفَلَ لَهُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، فَلَمَّا أَرَادَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى أُحُدٍ أَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَلَزِمَهُ ، فَقَالَ : لَا وَاللَّهِ لَا أَدَعُكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي كَفِيلًا فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا . ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ ثُمَّ رَجَعَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ فَمَاتَ بِمَكَّةَ مِنْ جِرَاحَتِهِ الَّتِي جَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَارَزَهُ ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ رَأْسِ سَبْعِ سِنِينَ مِنْ مُنَاحَبَتِهِمْ . وَقِيلَ : كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ . قَالَ الشَّعْبِيُّ : لَمْ تَمْضِ تِلْكَ الْمُدَّةُ الَّتِي عَقَدُوا الْمُنَاحَبَةَ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَفِيهَا صَاحِبُ ، قِمَارِهِمْ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ ، وَالْمُسْلِمُونَ وَصَاحِبُ قِمَارِهِمْ أَبُو بَكْرٍ ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ ، حَتَّى غَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ وَرَبَطُوا خُيُولَهُمْ بِالْمَدَائِنِ وَبَنُو الرُّومِيَّةَ فَقَمِرَ أَبُو بَكْرٍ أُبَيًّا وَأَخَذَ مَالَ الْخَطَرِ مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَجَاءَ بِهِ يَحْمِلُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " تَصَدَّقْ بِهِ " .
وَكَانَ سَبَبُ غَلَبَةِ الرُّومِ فَارِسًا - عَلَى مَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ - : أَنْ شَهْرَيَرَازَ بَعْدَمَا غُلِبَتِ الرُّومُ لَمْ يَزَلْ يَطَؤُهُمْ وَيُخَرِّبُ مَدَائِنَهُمْ حَتَّى بَلَغَ الْخَلِيجَ ، فَبَيْنَا أَخُوهُ فَرْخَانُ جَالِسٌ ذَاتَ يَوْمٍ يَشْرَبُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : لَقَدْ رَأَيْتُ كَأَنِّي جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ كِسْرَى ، فَبَلَغَتْ كَلِمَتُهُ كِسْرَى ، فَكَتَبَ إِلَى شَهْرَيَرَازَ : إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِ فَرْخَانَ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ : أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ مِثْلَ فَرْخَانَ ، إِنَّ لَهُ نِكَايَةً وَصَوْتًا فِي الْعَدُوِّ ، فَلَا تَفْعَلْ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ : إِنَّ فِي رِجَالِ فَارِسَ خَلَفًا مِنْهُ ، فَعَجِّلْ بِرَأْسِهِ ، فَرَاجَعَهُ فَغَضِبَ كِسْرَى وَلَمْ يَجُبْهُ ، وَبَعَثَ بَرِيدًا إِلَى أَهْلِ فَارِسَ أَنِّي قَدْ نَزَعْتُ عَنْكُمْ شَهْرَيَرَازَ وَاسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ فَرْخَانَ الْمَلِكَ ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَى الْبَرِيدِ صَحِيفَةً صَغِيرَةً أَمَرَهُ فِيهَا بِقَتْلِ شَهْرَيَرَازَ ، وَقَالَ : إِذَا وَلَّى فَرْخَانَ الْمُلْكَ وَانْقَادَ لَهُ أَخُوهُ فَأَعْطِهِ ، فَلَمَّا قَرَأَ شَهْرَيَرَازُ الْكِتَابَ قَالَ : سَمْعًا وَطَاعَةً ، وَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ وَجَلَسَ فَرْخَانُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الصَّحِيفَةَ ، فَقَالَ : ائْتُونِي بِشَهْرَيَرَازَ ، فَقَدَّمَهُ لِيُضْرَبَ عُنُقُهُ ، فَقَالَ : لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ حَتَّى أَكْتُبَ وَصِيَّتِي . قَالَ : نَعَمْ ، فَدَعَا بِالسَّفَطِ فَأَعْطَاهُ ثَلَاثَ صَحَائِفَ ، وَقَالَ : كُلُّ هَذَا رَاجَعْتُ فِيكَ كِسْرَى ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي بِكِتَابٍ وَاحِدٍ ؟ فَرَدَّ الْمُلْكَ إِلَى أَخِيهِ ، وَكَتَبَ شَهْرَيَرَازُ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً لَا تَحْمِلُهَا الْبُرُدُ ، وَلَا تُبَلِّغُهَا الصُّحُفُ ، فَالْقَنِي ، وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا فِي خَمْسِينَ رُومِيًا ، فَإِنِّي أَلْقَاكَ فِي خَمْسِينَ فَارِسِيًّا . فَأَقْبَلَ قَيْصَرُ فِي خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ رُومِيٍّ ، وَجَعَلَ يَضَعُ الْعُيُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الطُّرُقِ ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مُكِرَ بِهِ ، حَتَّى أَتَاهُ عُيُونُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا خَمْسُونَ رَجُلًا ثُمَّ بَسَطَ لَهُمَا فَالْتَقَيَا فِي قُبَّةِ دِيبَاجٍ ضُرِبَتْ لَهُمَا ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِكِّينٌ ، فَدَعَوَا بِتُرْجُمَانَ بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ شَهْرَيَرَازُ : إِنَّ الَّذِينَ خَرَّبُوا مَدَائِنَكَ أَنَا وَأَخِي بِكَيْدِنَا وَشَجَاعَتِنَا ، وَإِنَّ كِسْرَى حَسَدَنَا وَأَرَادَ أَنْ أَقْتُلَ أَخِي فَأَبَيْتُ ، ثُمَّ أَمَرَ أَخِي أَنْ يَقْتُلَنِي ، فَقَدْ خَلَعْنَاهُ جَمِيعًا فَنَحْنُ نُقَاتِلُهُ مَعَكَ . قَالَ : قَدْ أَصَبْتُمَا ، ثُمَّ أَشَارَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ أَنَّ السِّرَّ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ فَشَا ، فَقَتَلَا التُّرْجُمَانَ مَعًا بِسِكِّينِهِمَا ، فَأُدِيلَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَاتَّبَعُوهُمْ يُقَتِّلُونَهُمْ ، وَمَاتَ كِسْرَى وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَفَرِحَ وَمَنْ مَعَهُ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ) أَيْ : أَقْرَبِ أَرْضِ الشَّامِ إِلَى أَرْضِ فَارِسَ ، قَالَ عِكْرِمَةُ : هِيَ أَذَرِعَاتُ وَكَسْكَرُ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : أَرْضُ الْجَزِيرَةِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : الْأُرْدُنُ وَفِلَسْطِينُ . ( وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ) أَيْ : الرُّومُ مِنْ بَعْدِ غَلَبَةِ فَارِسَ إِيَّاهُمْ ، وَالْغَلَبُ وَالْغَلَبَةُ لُغَتَانِ ) ( سَيَغْلِبُونَ ) فَارِسًا .
مسألة: الجزء السادسالتحليل الموضوعي
سورة الروم
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
( الم ( 1 ) غلبت الروم ( 2 ) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ( 3 ) )
( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) سبب نزول هذه الآية على - ما ذكره المفسرون : - أنه كان بين فارس والروم قتال ، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم ، لأن أهل فارس كانوا مجوسا أميين ، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس ، لكونهم أهل كتاب ، فبعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليها رجلا يقال له شهريراز ، وبعث قيصر جيشا إلى فارس واستعمل عليهم رجلا يدعى يحفس ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ ذلك المسلمين بمكة ، فشق عليهم ، وفرح به كفار مكة ، وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار ، فقال : فرحتم بظهور إخوانكم ، فلا تفرحوا فوالله ليظهرن على فارس [ على ما ] أخبرنا بذلك نبينا ، فقام إليه أبي بن خلف الجمحي فقال : كذبت ، فقال : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه - والمناحبة : المراهنة - على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت ففعلوا وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك ، وذلك قبل تحريم القمار ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاثة إلى التسع ، فزايده في الخطر وماده في الأجل ، فخرج أبو بكر ولقي أبيا ، فقال : لعلك ندمت ؟ قال : لا فتعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين ، وقيل إلى سبع سنين ، قال قد فعلت : فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه ، وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلا فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه ، فقال : لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا . ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بارزه ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم . وقيل : كان يوم بدر . قال الشعبي : لم تمض تلك المدة التي عقدوا المناحبة بين أهل مكة ، وفيها صاحب ، قمارهم أبي بن خلف ، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر ، وذلك قبل تحريم القمار ، حتى غلبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنو الرومية فقمر أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته ، وجاء به يحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تصدق به " .
وكان سبب غلبة الروم فارسا - على ما قاله عكرمة وغيره - : أن شهريراز بعدما غلبت الروم لم يزل يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ، فبينا أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كلمته كسرى ، فكتب إلى شهريراز : إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان ، فكتب إليه : أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان ، إن له نكاية وصوتا في العدو ، فلا تفعل ، فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفا منه ، فعجل برأسه ، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه ، وبعث بريدا إلى أهل فارس أني قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان الملك ، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة أمره فيها بقتل شهريراز ، وقال : إذا ولى فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه ، فلما قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره وجلس فرخان ودفع إليه الصحيفة ، فقال : ائتوني بشهريراز ، فقدمه ليضرب عنقه ، فقال : لا تعجل علي حتى أكتب وصيتي . قال : نعم ، فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت تريد أن تقتلني بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه ، وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ، ولا تبلغها الصحف ، فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين روميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا . فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطرق ، وخاف أن يكون قد مكر به ، حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا ثم بسط لهما فالتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، ومع كل واحد منهما سكين ، فدعوا بترجمان بينهما ، فقال شهريراز : إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا ، وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك . قال : قد أصبتما ، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا ، فقتلا الترجمان معا بسكينهما ، فأديلت الروم على فارس عند ذلك ، فاتبعوهم يقتلونهم ، ومات كسرى وجاء الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ففرح ومن معه ، فذلك قوله - عز وجل - : ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) أي : أقرب أرض الشام إلى أرض فارس ، قال عكرمة : هي أذرعات وكسكر ، وقال مجاهد : أرض الجزيرة . وقال مقاتل : الأردن وفلسطين . ( وهم من بعد غلبهم ) أي : الروم من بعد غلبة فارس إياهم ، والغلب والغلبة لغتان ) ( سيغلبون ) فارسا .
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)

قوله تعالى : الم غلبت الروم في أدنى الأرض روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت : الم غلبت الروم في أدنى الأرض إلى قوله : يفرح المؤمنون بنصر الله قال : ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس . قال : هذا حديث غريب من هذا الوجه . هكذا قرأ نصر بن علي الجهضمي غلبت الروم . ورواه أيضا من حديث ابن عباس بأتم منه . قال ابن عباس في قول الله عز وجل : الم غلبت الروم في أدنى الأرض قال : غلبت وغلبت ، قال : كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ; فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ، فإن ظهرنا كان لنا كذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل أجل خمس سنين ، فلم يظهروا ; فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألا جعلته إلى دون - أراه قال العشر - قال : قال أبو سعيد : والبضع ما دون العشرة . قال : ثم ظهرت الروم بعد ، قال : فذلك قوله الم غلبت الروم إلى قوله : ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله . قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب . ورواه أيضا عن نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم ؛ لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وفي ذلك نزل قول الله تعالى : ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ، وكانت قريش تحب ظهور فارس ؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين .
قال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى . وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان . وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ؟ ثلاث سنين أو تسع سنين ؟ فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه ; قال فسموا بينهم ست سنين ; قال : فمضت الست سنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين ، قال : لأن الله تعالى قال في بضع سنين قال : وأسلم عند ذلك ناس كثير . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب .
وروى القشيري وابن عطية وغيرهما : أنه لما نزلت الآيات خرج أبو بكر بها إلى المشركين فقال : أسركم أن غلبت الروم ؟ فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون في بضع سنين . فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه - وقيل أبو سفيان بن حرب - : يا أبا فصيل - يعرضون بكنيته يا أبا بكر - فلنتناحب ; أي نتراهن في ذلك فراهنهم أبو بكر . قال قتادة : وذلك قبل أن يحرم القمار ، وجعلوا الرهان خمس قلائص والأجل ثلاث سنين . وقيل : جعلوا الرهان ثلاث قلائص . ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : فهلا احتطت ، فإن البضع ما بين الثلاث والتسع والعشر ، ولكن ارجع فزدهم في الرهان واستزدهم في الأجل ففعل أبو بكر ، فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام ; فغلبت الروم في أثناء الأجل . وقال الشعبي : فظهروا في تسع سنين . القشيري : المشهور في الروايات أن ظهور الروم كان في السابعة من غلبة فارس للروم ، ولعل رواية الشعبي تصحيف من السبع إلى التسع من بعض النقلة . وفي بعض الروايات : أنه جعل القلائص سبعا إلى تسع سنين . ويقال : إنه آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار ; فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك ، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين .
وحكى النقاش وغيره : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به أبي بن خلف وقال له : أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت ; فكفل به ابنه عبد الرحمن ، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ، ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية على رأس تسع سنين من مناحبتهم . وقال الشعبي : لم تمض تلك المدة حتى غلبت الروم فارس ; وربطوا خيلهم بالمدائن ، وبنوا رومية ; فقمر أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : تصدق به فتصدق به . وقال المفسرون : إن سبب غلبة الروم فارس امرأة كانت في فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال ، فقال لها كسرى : أريد أن أستعمل أحد بنيك على جيش أجهزه إلى الروم ; فقالت : هذا هرمز أروغ من ثعلب وأحذر من صقر ، وهذا فرخان أحد من سنان وأنفذ من نبل ، وهذا شهربزان أحلم من كذا ، فاختر ; قال : فاختار الحليم وولاه ، فسار إلى الروم بأهل فارس فظهر على الروم .
قال عكرمة وغيره : إن شهربزان لما غلب الروم خرب ديارها حتى بلغ الخليج ، فقال أخوه فرخان : لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى ; فكتب كسرى إلى شهربزان أرسل إلي برأس فرخان فلم يفعل ; فكتب كسرى إلى فارس : إني قد استعملت عليكم فرخان وعزلت شهربزان ، وكتب إلى فرخان إذا ولي أن يقتل شهربزان ; فأراد فرخان قتل شهربزان فأخرج له شهربزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل فرخان ، فقال شهربزان لفرخان : إن كسرى كتب إلي أن أقتلك ثلاث صحائف وراجعته أبدا في أمرك ، أفتقتلني أنت بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه ، وكتب شهربزان إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى ، فغلبت الروم فارس ومات كسرى . وجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح من معه من المسلمين ; فذلك قوله تعالى : الم غلبت الروم في أدنى الأرض يعني أرض الشام . عكرمة : بأذرعات ، وهي ما بين بلاد العرب والشام . . وقيل : إن قيصر كان بعث رجلا يدعى يحنس وبعث كسرى شهربزان فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى بلاد الشام إلى أرض العرب والعجم . مجاهد : بالجزيرة ، وهو موضع بين العراق والشام . مقاتل : بالأردن وفلسطين . وأدنى معناه أقرب . قال ابن عطية : فإن كانت الواقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله :
تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال
وإن كانت الواقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم . فلما طرأ ذلك وغلبت الروم سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سيغلبون ، وتكون الدولة لهم في الحرب .
وقد مضى الكلام في فواتح السور . وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة غلبت الروم بفتح الغين واللام . وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كانت الروم غلبت ، فعز ذلك على كفار قريش ، وسر بذلك المسلمون ، فبشر الله تعالى عباده أنهم سيغلبون أيضا في بضع سنين ; ذكر هذا التأويل أبو حاتم . قال أبو جعفر النحاس : قراءة أكثر الناس غلبت الروم بضم الغين وكسر اللام . وروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري أنهما قرأا غلبت الروم وقرأا سيغلبون . وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون : أن هذه قراءة أهل الشام ; وأحمد بن حنبل يقول : إن عصمة هذا ضعيف ، وأبو حاتم كثير الحكاية عنه ، والحديث يدل على أن القراءة غلبت بضم الغين ، وكان في هذا الإخبار دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الروم غلبتها فارس ، فأخبر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، وأن المؤمنين يفرحون بذلك ؛ لأن الروم أهل كتاب ، فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله عز وجل به مما لم يكن علموه ، وأمر أبا بكر أن يراهنهم على ذلك وأن يبالغ في الرهان ، ثم حرم الرهان بعد ، ونسخ بتحريم القمار . قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح ، وأجمع الناس على سيغلبون أنه بفتح الياء ، يراد به الروم . ويروى عن ابن عمر أنه قرأ أيضا بضم الياء في ( سيغلبون ) ، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به . قال أبو جعفر النحاس : ومن قرأ سيغلبون فالمعنى عنده : وفارس من بعد غلبهم ؛ أي من بعد أن غلبوا ، سيغلبون . وروى أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر ; كما في حديث أبي سعيد الخدري حديث الترمذي ، وروى أن ذلك كان يوم الحديبية ، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرضوان ; قاله عكرمة وقتادة . قال ابن عطية : وفي كلا اليومين كان نصر من الله للمؤمنين . وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين ، وفارس من أهل الأوثان ; كما تقدم بيانه في الحديث . قال النحاس : وقول آخر وهو أولى - أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى ; إذ كان فيه دليل على النبوة ؛ لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه . قال ابن عطية : ويشبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر ؛ لأنه أيسر مئونة ، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه ; فتأمل هذا المعنى ، مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم ، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه . وقيل : سرورهم إنما كان بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين ; لأن جبريل أخبر بذلك النبي عليه السلام يوم بدر ; حكاه القشيري .
قلت : ويحتمل أن يكون سرورهم بالمجموع من ذلك ، فسروا بظهورهم على عدوهم وبظهور الروم أيضا ، وبإنجاز وعد الله . وقرأ أبو حيوة الشامي ومحمد بن السميقع ( من بعد غلبهم ) بسكون اللام ، وهما لغتان ; مثل : الظعن والظعن . وزعم الفراء أن الأصل ( من بعد غلبتهم ) ، فحذفت التاء كما حذفت في قوله عز وجل : وإقام الصلاة ، وأصله : وإقامة الصلاة . قال النحاس : وهذا غلط لا يخيل على كثير من أهل النحو ; لأن إقام الصلاة مصدر قد حذف منه لاعتلال فعله ، فجعلت التاء عوضا من المحذوف ، و ( غلب ) ليس بمعتل ولا حذف منه شيء . وقد حكى الأصمعي : طرد طردا ، وجلب جلبا ، وحلب حلبا ، وغلب غلبا ; فأي حذف في هذا ، وهل يجوز أن يقال : في أكل أكلا وما أشبهه - : حذف منه ؟ .
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)

( فِي أَدْنَى الأرْضِ ) من أرض الشام إلى أرض فارس ( وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ) يقول: والروم من بعد غلبة فارس إياهم (سَيَغْلِبُونَ) فارس .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features