وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

واتبعوا ما تتلو الشياطين
القول في تأويل قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } يعني بقوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى وراء ظهورهم , تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون , كأنهم لا يعلمون . فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم , ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه , وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه ; وذلك هو الخسار والضلال المبين . واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } . فقال بعضهم : عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة , فوجدوا التوراة للقرآن موافقة , تأمره من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه بمثل الذي يأمر به القرآن , فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان . ذكر من قال ذلك : 1366 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } على عهد سليمان . قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء , فتقعد منها مقاعد للسمع , فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر , فيأتون الكهنة فيخبرونهم , فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا . حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم , فأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة . فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب . فبعث سليمان في الناس , فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق , ثم دفنها تحت كرسيه , ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق , وقال : " لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه " . فلما مات سليمان , وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان , وخلف بعد ذلك خلف , تمثل الشيطان في صورة إنسان , ثم أتى نفرا من بني إسرائيل , فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا ؟ قالوا : نعم . قال : فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان . فقام ناحية , فقالوا له : فادن ! قال : لا ولكني هاهنا في أيديكم , فإن لم تجدوه فاقتلوني . فحفروا فوجدوا تلك الكتب , فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر . ثم طار فذهب . وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب . فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها , فذلك حين يقول : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } . 1367 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } قالوا : إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة , لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه فيخصهم . فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل إلينا منا . وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به , فأنزل الله جل وعز : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك , فدفنوه تحت مجلس سليمان , وكان سليمان لا يعلم الغيب , فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر , وخدعوا به الناس وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه . فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث . فرجعوا من عنده , وقد حزنوا وأدحض الله حجتهم . 1368 - وحدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } قال : لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } الآية . قال : اتبعوا السحر , وهم أهل الكتاب . فقرأ حتى بلغ : { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } . وقال آخرون : بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان . ذكر من قال ذلك . 1369 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , قال : قال ابن جريج : تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان فاتبعته اليهود على ملكه ; يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان . 1370 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : حدثني ابن إسحاق , قال : عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام , فكتبوا أصناف السحر : من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا , فليفعل كذا وكذا . حتى إذا صنعوا أصناف السحر , جعلوه في كتاب . ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان , وكتبوا في عنوانه : " هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم " . ثم دفنوه تحت كرسيه , فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا , فلما عثروا عليه قالوا : ما كان سليمان بن داود إلا بهذا . فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه , فليس في أحد أكثر منه في يهود . فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين , قال من كان بالمدينة من يهود : ألا تعجبون لمحمد صلى الله عليه وسلم يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا ! والله ما كان إلا ساحرا ! فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } قال : كان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات . فلما رجع الله إلى سليمان ملكه , قام الناس على الدين كما كانوا . وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه . وتوفي سليمان حدثان ذلك , فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان , وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه منا . فأخذوا به فجعلوه دينا , فأنزل الله : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين } وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله . والصواب من القول في تأويل قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فجحدوا نبوته وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل , وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله , وهجرهم العمل به وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله , واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان . وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى , فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وإنما اخترنا هذا التأويل لأن المتبعة ما تلته الشياطين في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق وأمر السحر لم يزل في اليهود , ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله : { واتبعوا } بعضا منهم دون بعض , إذ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } إلى أخلافهم بعدهم . ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول , ولا حجة تدل عليه , فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال : كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود داخل في معنى الآية , على النحو الذي قلنا . القول في تأويل قوله تعالى : { ما تتلوا الشياطين } يعني جل ثناؤه بقوله : { ما تتلوا الشياطين } الذي تتلو . فتأويل الكلام إذا : واتبعوا الذي تتلو الشياطين . واختلف في تأويل قوله : { تتلوا } فقال بعضهم : يعني بقوله : { تتلوا } تحدث وتروي وتتكلم به وتخبر , نحو تلاوة الرجل للقرآن وهي قراءته . ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم . ذكر من قال ذلك : 1371 - حدثني المثنى بن إبراهيم , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن عمرو , عن مجاهد في قول الله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } قال : كانت الشياطين تسمع الوحي , فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها , فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه . فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس ; وهو السحر . 1372 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } من الكهانة والسحر ; وذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم , ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه . 1373 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال عطاء : قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } قال : نراه ما تحدث . 1374 - حدثني سلم بن جنادة السوائي , قال : ثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان , فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر , ثم دفنوها تحت كرسي سليمان , ثم أخرجوها فقرءوها على الناس . وقال آخرون : معنى قوله : { ما تتلوا } ما تتبعه وترويه وتعمل به . ذكر من قال ذلك : 1375 - حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي , قال : حدثني أبي , عن أسباط , عن السدي , عن أبي مالك , عن ابن عباس : { تتلوا } قال : تتبع . 1376 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي , قال : ثنا يحيى بن إبراهيم , عن سفيان الثوري , عن منصور , عن أبي رزين مثله . قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان باتباعهم ما تلته الشياطين . ولقول القائل : " هو يتلو كذا " في كلام العرب معنيان : أحدهما الاتباع , كما يقال : تلوت فلانا إذا مشيت خلفه وتبعت أثره , كما قال جل ثناؤه : { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } 10 30 يعني بذلك تتبع . والآخر : القراءة والدراسة , كما تقول : فلان يتلو القرآن , . بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه , كما قال حسان بن ثابت : نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مشهد ولم يخبرنا الله جل ثناؤه بأي معنى التلاوة كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان بخبر يقطع العذر . وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا , فتكون كانت متبعته بالعمل , ودراسته بالرواية , فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك وعملت به وروته .على ملك سليمان
القول في تأويل قوله تعالى : { على ملك سليمان } . يعني بقوله جل ثناؤه : { على ملك سليمان } في ملك سليمان ; وذلك أن العرب تضع " في " موضع " على " و " على " في موضع " في " , من ذلك قول الله جل ثناؤه : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } 20 71 يعني به : على جذوع النخل , وكما قال : " فعلت كذا في عهد كذا وعلى عهد كذا " بمعنى واحد . وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله . 1377 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال , حدثني حجاج , قال : ابن جريج : { على ملك سليمان } يقول : في ملك سليمان . 1378 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : قال ابن أبي إسحاق في قوله : { على ملك سليمان } أي في ملك سليمان .وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر
القول في تأويل قوله تعالى : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } . إن قال لنا قائل : وما هذا الكلام من قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان , بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين ؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود ؟ قيل : وجه ذلك أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود , نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى الشياطين من ذلك إلى سليمان بن داود , وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته , وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر . فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه , وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة , وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان - من سليمان , وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم - بشر , وأنكروا أن يكون كان لله رسولا , وقالوا : بل كان ساحرا . فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها , وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها . وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر , متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك بأن سليمان كان يعمله . فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا , وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا في عملهم السحر ما تلته الشياطين في عهد سليمان , دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه . ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار : 1379 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن أبي المغيرة , عن سعيد بن جبير , قال : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر , فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته . فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه , فدنت إلى الإنس , فقالوا لهم : أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا : نعم . قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه . فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به . فقال أهل الحجاز : كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر . فأنزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان , فقال : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } الآية , فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام . 1380 - حدثني أبو السائب السوائي , قال : ثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة , وكانت من أكرم نسائه عليه , قال : فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم , فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحد . قال : وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة خاتمه . فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به , أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه , فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي ! فأخذه فلبسه , فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس . قال : فجاءها سليمان فقال : هاتي خاتمي ! فقالت : كذبت لست بسليمان . قال : فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به . قال : فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان , ثم أخرجوها فقرءوها على الناس وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب . قال : فبرئ الناس من سليمان وأكفروه , حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ; فأنزل جل ثناؤه : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } فأنزل الله جل وعز وعذره . 1381 - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني , قال : ثنا المعتمر بن سليمان , قال : سمعت عمران بن حدير , عن أبي مجلز , قال : أخذ سليمان من كل دابة عهدا , فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد خلي عنه , فرأى الناس السجع والسحر وقالوا : هذا كان يعمل به سليمان ; فقال الله جل ثناؤه : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } . 1382 - حدثنا أبو حميد , قال : ثنا جرير , عن حصين بن عبد الرحمن , عن عمران بن الحارث , قال : بينا نحن عند ابن عباس إذ جاءه رجل , فقال له ابن عباس : من أين جئت ؟ قال : من العراق , قال : من أيه ؟ قال : من الكوفة . قال : فما الخبر ؟ قال : تركتهم يتحدثون عليا خارج إليهم . ففزع فقال : ما تقول لا أبا لك ! لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه , أما إني أحدثكم من ذلك أنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها , فإذا حدث منه صدق كذب معها سبعين كذبة , قال : فيشربها قلوب الناس ; فأطلع الله عليها سليمان فدفنها تحت كرسيه . فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله ؟ تحت الكرسي . فأخرجوه فقالوا : هذا سحر . فتناسخها الأمم , حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق . فأنزل الله عذر سليمان : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } . 1383 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال : ذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم , ثم أفشوه في الناس وأعلموهم إياه . فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب , فأتى بها فدفنها تحت كرسيه كراهية أن يتعلمها الناس . فلما قبض الله نبيه سليمان عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس , فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به . فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك , فقال جل ثناؤه : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة , قال : كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك , ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان . فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب , فقالوا : هذا علم كتمناه سليمان . فقال الله جل وعز : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } . 1384 - حدثنا القاسم , قال : ثنا حجاج , حدثنا الحسين قال : عن ابن جريج , عن مجاهد قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } قال : كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء , فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها . وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه ; فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس . 1385 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن أبي بكر , عن شهر بن حوشب , قال : لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان , فكتبت : من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا , ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا . فكتبته وجعلت عنوانه : " هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم " , ثم دفنته تحت كرسيه . فلما مات سليمان قام إبليس خطيبا فقال : يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا , وإنما كان ساحرا , فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ! ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه , فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرا , هذا سحره , بهذا تعبدنا , وبهذا قهرنا . فقال المؤمنون : بل كان نبيا مؤمنا . فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان , فقالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل , يذكر سليمان مع الأنبياء , وإنما كان ساحرا يركب الريح . فأنزل الله عذر سليمان : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } الآية . 1386 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : حدثني ابن إسحاق : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين , قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيا , والله ما كان إلا ساحرا ! فأنزل الله في ذلك من قولهم : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } أي باتباعهم السحر وعملهم به { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } . قال أبو جعفر : فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وتأويل قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } ما ذكرنا ; فتبين أن في الكلام متروكا ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه , وأن معنى الكلام : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } من السحر { على ملك سليمان } فتضيفه إلى سليمان , { وما كفر سليمان } فيعمل بالسحر { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } . وقد كان قتادة يتأول قوله : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } على ما قلنا . 1387 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } يقول : ما كان عن مشورته , ولا عن رضا منه ; ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه . وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى " تتلو " , وتوجيه من وجه ذلك إلى أن " تتلوا " بمعنى تلت , إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله : { واتبعوا } وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك . وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول , فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وأما معنى قوله : { ما تتلوا } فإنه بمعنى الذي تتلو وهو السحر . 1388 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } أي السحر . قال أبو جعفر : ولعل قائلا أن يقول : أو ما كان السحر إلا أيام سليمان ؟ قيل له : بلى قد كان ذلك قبل ذلك , وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم , وقد كانوا قبل سليمان , وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر ; قال : فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان ؟ قيل : لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان على ما قد قدمنا البيان عنه , فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه مما كانوا وجدوه إما في خزائنه وإما تحت كرسيه , على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك . فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب . وإن كان الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك .وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت
القول في تأويل قوله تعالى : { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } . اختلف أهل العلم في تأويل " ما " التي في قوله : { وما أنزل على الملكين } فقال بعضهم : معناه الجحد وهي بمعنى " لم " . ذكر من قال ذلك : 1389 - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال , حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله : { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } فإنه يقول : لم ينزل الله السحر . 1390 - حدثنا ابن حميد , قال : حدثني حكام عن أبي جعفر , عن الربيع بن أنس : { وما أنزل على الملكين } قال : ما أنزل الله عليهما السحر . فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع من توجيههما معنى قوله : { وما أنزل على الملكين } إلى : ولم ينزل على الملكين , واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر , وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } ببابل هاروت وماروت , فيكون حينئذ قوله : { ببابل وهاروت وماروت } من المؤخر الذي معناه التقديم . فإن قال لنا قائل : وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين , ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت . فيكون معنيا بالملكين : جبريل وميكائيل ; لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود . فأكذبها الله بذلك وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط , وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر , فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين , وأنها تعلم الناس ببابل , وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت ; فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة على الناس وردا عليهم . وقال آخرون : بل تأويل " ما " التي في قوله : { وما أنزل على الملكين } " الذي " . ذكر من قال ذلك : 1391 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : قال معمر , قال قتادة والزهري عن عبد الله : { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس . وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم , قال : فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها , ثم ذهبا يصعدان , فحيل بينهما وبين ذلك وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة , فاختارا عذاب الدنيا . قال معمر : قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر , فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر . 1392 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : أما قوله : { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا ; يقول : خاصموه بما أنزل على الملكين وإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرا . 1393 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { يعلمون الناس السحر وما أنزل على الناس ببابل هاروت وماروت } فالسحر سحران : سحر تعلمه الشياطين , وسحر يعلمه هاروت وماروت . 1394 - حدثني المثنى قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله : { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } قال : التفريق بين المرء وزوجه . 1395 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين } فقرأ حتى بلغ : { فلا تكفر } قال : الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر . قال أبو جعفر : فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه : واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت . وهما ملكان من ملائكة الله , سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى . وقالوا : إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن ينزل الله السحر , أم هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس ؟ قلنا له : إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله , وبين جميع ذلك لعباده , فأوحاه إلى رسله وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم ; وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها ونهاهم عن ركوبها , فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها ونهاهم عن العمل بها . قالوا : ليس في العلم بالسحر إثم , كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب , وإنما الإثم في عمله وتسويته . قالوا : وكذلك لا إثم في العلم بالسحر , وإنما الإثم في العمل به وأن يضر به من لا يحل ضره به . قالوا : فليس في إنزال الله إياه على الملكين ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس إثم إذا كان تعليمهما من علماه ذلك بإذن الله لهما بتعليمه بعد أن يخبراه بأنهما فتنة وينهاه عن السحر والعمل به والكفر ; وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به , إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به . قالوا : ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك , لم يكن من تعلمه حرجا , كما لم يكونا حرجين لعلمهما به , إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما . وقال آخرون : معنى " ما " معنى " الذي " , وهي عطف على " ما " الأولى , غير أن الأولى في معنى السحر والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه . فتأويل الآية على هذا القول : واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان , والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . ذكر من قال ذلك : 1396 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح . عن مجاهد : { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه , وذلك قول الله جل ثناؤه : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } وكان يقول : أما السحر فإنما يعلمه الشياطين , وأما الذي يعلم الملكان فالتفريق بين المرء وزوجه , كما قال الله تعالى . وقال آخرون : جائز أن تكون " ما " بمعنى " الذي " , وجائز أن تكون " ما " بمعنى " لم " . ذكر من قال ذلك . 1397 - حدثني يونس بن عبد الأعلى , قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني الليث بن سعد , عن يحيى بن سعيد , عن القاسم بن محمد , وسأله رجل عن قول الله { يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين بابل هاروت وماروت } فقال الرجل : يعلمان الناس ما أنزل عليهما , أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما ؟ قال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت . * - حدثني يونس بن عبد الأعلى , قال : ثنا بشر بن عياض , عن بعض أصحابه , أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره : { وما أنزل على الملكين } فقيل له : أنزل أو لم ينزل ؟ فقال : لا أبالي أي ذلك كان , إلا أني آمنت به . والصواب من القول في ذلك عندي قول من وجه " ما " التي في قوله : { وما أنزل على الملكين } إلى معنى " الذي " دون معنى " ما " التي هي بمعنى الجحد . وإنما اخترت ذلك من أجل أن " ما " إن وجهت إلى معنى الجحد , فتنفي عن الملكين أن يكونا منزلا إليهما . ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني هاروت وماروت - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما , أو بدلا من الناس في قوله : { يعلمون الناس السحر } وترجمة عنهما . فإن جعلا بدلا من الملكين وترجمة عنهما بطل معنى قوله : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه , فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه ؟ وبعد , فإن " ما " التي في قوله : { وما أنزل على الملكين } إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله : { وما كفر سليمان } فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله : { وما كفر سليمان } عن سليمان أن يكون السحر من عمله , أو من علمه أو تعليمه . فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه , وهاروت وماروت هما الملكان , فمن المتعلم منه إذا ما يفرق به بين المرء وزوجه ؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين . وإن كان قوله " هاروت وماروت " ترجمة من الناس الذين في قوله : { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر , وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما . فإن يكن ذلك كذلك , فلن يخلو هاروت وماروت عند قائل هذه المقالة من أحد أمرين : إما أن يكونا ملكين , فإن كانا عنده ملكين فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس , وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب , وفي خبر الله عز وجل عنهما أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول . أو أن يكونا رجلين من بني آدم ; فإن يكن ذلك كذلك فقد كان يجب أن يكون بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل من بني آدم ; لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم , فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما ; وفي وجود السحر في كل زمان ووقت أبين الدلالة على فساد هذا القول . وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم , لم يعدما من الأرض منذ خلقت , ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس . فيدعي ما لا يخفى بطوله . فإذا فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها , فبين أن معنى : { ما } التي في قوله : { وما أنزل على الملكين } بمعنى " الذي " , وأن هاروت وماروت مترجم بهما عن الملكين ; ولذلك فتحت أواخر أسمائهما , لأنهما في موضع خفض على الرد على الملكين , ولكنهما لما كانا لا يجران فتحت أواخر أسمائهما . فإن التبس على ذي غباء ما قلنا , فقال : وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه ؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة ؟ قيل له : إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه , ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه . ولو كان الأمر على غير ذلك , لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم ; فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه , فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه وعن السحر , فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما , ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما , ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك لله مطيعين , إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان . وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله , فلم يكن ذلك لهم ضائرا إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به , بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه , فكذلك الملكان غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما بعد نهيهما إياه عنه وعظتهما له بقولهما : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } إذ كانا قد أديا ما أمر به بقيلهما ذلك . كما : 1398 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا يحيى بن سعيد , عن عوف , عن الحسن في قوله : { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } إلى قوله : { فلا تكفر } أخذ عليهما ذلك . ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين , ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله : { ببابل } 1399 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا معاذ بن هشام , قال : حدثني أبي , عن قتادة , قال : ثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب , عن ابن عباس قال : إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم , فلما أبصروهم يعملون الخطايا , قالوا : يا رب هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك , وأسجدت له ملائكتك , وعلمته أسماء كل شيء , يعملون بالخطايا . قال : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم . قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا , قال : فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض . قال : فاختاروا هاروت وماروت , فأهبطا إلى الأرض , وأحل لهما ما فيها من شيء غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا , ولا يزنيا , ولا يشربا الخمر , ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق . قال : فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن يقال لها " بيذخت " , فلما أبصراها أرادا بها زنا , فقالت : لا إلا أن تشركا بالله وتشربا الخمر وتقتلا النفس وتسجدا لهذا الصنم . فقالا : ما كنا لنشرك بالله شيئا . فقال أحدهما للآخر : ارجع إليها . فقالت : لا إلا أن تشربا الخمر ! فشربا حتى ثملا , ودخل عليهما سائل فقتلاه . فلما وقعا فيه من الشر , أفرج الله السماء لملائكته , فقالوا : سبحانك كنت أعلم ! قال : فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة , فاختارا عذاب الدنيا , فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت وجعلا ببابل . * - حدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج بن المنهال , قال : ثنا حجاج , عن علي بن زيد , عن أبي عثمان النهدي , عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا : لما كثر بنو آدم وعصوا , دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال : ربنا ألا تهلكهم ؟ فأوحى الله إلى الملائكة : إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا . قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا . فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم . فاختاروا هاروت وماروت , فأهبطا إلى الأرض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس , وكان أهل فارس يسمونها " بيذخت " . قال : فوقعا بالخطيئة , فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا . { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا } . فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض : { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا . 1400 - حدثني المثنى , قال : حدثني الحجاج , قال : ثنا حماد , عن خالد الحذاء , عن عمرو بن سعيد , قال سمعت عليا يقول : كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس , وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها , فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء . فعلماها فتكلمت فعرجت إلى السماء فمسخت كوكبا . 1401 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى , قالا : ثنا مؤمل بن إسماعيل , وحدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا , عن الثوري , عن محمد بن عقبة , عن سالم , عن ابن عمر , عن كعب , قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب , فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى في حديثه : اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت وماروت , فقيل لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا , وليس بيني وبينكم رسول , انزلا لا تشركا بي شيئا , ولا تزنيا , ولا تشربا الخمر ! قال كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض , حتى استكملا جميع ما نهيا عنه . وقال الحسن بن يحيى في حديثه : فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما . * - حدثني المثنى , قال : ثنا معلى بن أسد , قال : ثنا عبد العزيز بن المختار , عن موسى بن عقبة , قال : حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار , أنه حدث أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي , فقال الله لهم : إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب فاختاروا منكم ملكين ! فاختاروا هاروت وماروت , فقال الله لهما : إني أرسل رسلي إلى الناس , وليس بيني وبينكما رسول , انزلا إلى الأرض , ولا تشركا بي شيئا , ولا تزنيا ! فقال كعب : والذي نفس كعب بيده ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما . 1402 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم , فقيل لهما : إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني . قال هاروت وماروت : ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل . فقال لهما : انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس ! فنزلا ببابل دنباوند , فكانا يحكمان , حتى إذا أمسيا عرجا , فإذا أصبحا هبطا . فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها , فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية " الزهرة " , وبالنبطية " بيذخت " , واسمها بالفارسية " واناهيذ " , فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني . فقال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك . فقال الآخر : هل لك أن أذكرها لنفسها ؟ قال : نعم , ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الآخر : إنا نرجو رحمة الله . فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها , فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي , فقضيا لها على زوجها . ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها , فأتياها لذلك , فلما أراد الذي يواقعها , قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء ؟ وبأي كلام تنزلان منها ؟ فأخبراها فتكلمت فصعدت . فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها , وجعلها الله كوكبا - فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا فعرفا الهلك , فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة , فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة , فعلقا ببابل فجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر . 1403 - حدثني المثنى بن إبراهيم , قال : ثنا إسحاق , قال , ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , قال : لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله , قالت الملائكة في السماء : أي رب هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك , وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام والسرقة والزنا وشرب الخمر ! فحملوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم . فقيل لهم : إنهم في غيب ! فلم يعذروهم , فقيل لهم : اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري , وأنهاهما عن معصيتي ! فاختاروا هاروت وماروت , فأهبطا إلى الأرض , وحمل بهما شهوات بني آدم , وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا , ونهيا عن قتل النفس الحرام , وأكل المال الحرام , والسرقة والزنا وشرب الخمر . فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق , وذلك في زمان إدريس , وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكوكب . وإنها أتت عليهما فخضعا لها بالقول , وأراداها على نفسها , وإنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها , وإنهما سألاها عن دينها التي هي عليه , فأخرجت لهما صنما وقالت : هذا أعبد . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا . فذهبا فصبرا ما شاء الله , ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها . فقالت : لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا . فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم , قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا الصنم , أو تقتلا النفس , أو تشربا الخمر . فقالا : كل هذا لا ينبغي , وأهون الثلاثة شرب الخمر . فسقتهما الخمر , حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها , فمر بهما إنسان وهما في ذلك , فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه . فلما أن ذهب عنهما السكر عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة وأرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا , فحيل بينهما وبين ذلك , وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء . فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب , فعجبوا كل العجب , وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل غشية , فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض . وإنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة , قيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ! فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له . فاختارا عذاب الدنيا , فجعلا ببابل , فهما يعذبان . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا فرج بن فضالة , عن معاوية بن صالح , عن نافع , قال : سافرت مع ابن عمر , فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع انظر طلعت الحمراء ! قالها مرتين أو ثلاثا . ثم قلت : قد طلعت . قال : لا مرحبا ولا أهلا ! قلت : سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع ؟ قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ; وقال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الملائكة قالت : يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم . قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك . قال : فاختاروا ملكين منكم ! قال : فلم يألوا أن يختاروا , فاختاروا هاروت وماروت " . 1404 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : وأما شأن هاروت وماروت , فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات , فقال لهم ربهم : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم ! فاختاروا هاروت وماروت , فقال لهما حين أنزلهما : عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم , وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء , وأنتما ليس بيني وبينكما رسول , فافعلا كذا وكذا , ودعا كذا وكذا ! فأمرهما بأمر ونهاهما . ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما , فحكما فعدلا , فكانا يحكمان النهار بين بني آدم , فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة , وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان . حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم , فقضيا عليها . فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه , فقال أحدهما لصاحبه : وجدت مثل ما وجدت ؟ قال : نعم , فبعثا إليها أن ائتينا نقض لك . فلما رجعت قالا لها وقضيا لها : ائتينا ! فأتتهما , فكشفا لها عن عورتهما . وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها . فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا , طارت الزهرة فرجعت حيث كانت . فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما ; فاستغاثا برجل من بني آدم , فأتياه فقالا : ادع لنا ربك ! فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء . فوعدهما يوما وغدا يدعو لهما . فدعا لهما فاستجيب له , فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا : نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ومع الدنيا سبع مرات مثلها . فأمرا أن ينزلا ببابل , فثم عذابهما . وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما . قال أبو جعفر : وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ : { وما أنزل على الملكين } يعني به رجلين من بني آدم . وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال ; فأما من جهة النقل فإجماع الحجة على خطأ القراءة بها من الصحابة والتابعين وقراء الأمصار , وكفى بذلك شاهدا على خطئها . وأما قوله { ببابل } فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض . وقد اختلف أهل التأويل فيها , فقال بعضهم : إنها بابل دنباوند . * - حدثني بذلك موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي . وقال بعضهم : بل ذلك بابل العراق . ذكر من قال ذلك : 1405 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن أبي الزناد , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عائشة في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة , فذكرت أنها صارت في العراق ببابل , فأتت بها هاروت وماروت فتعلمت منهما السحر . واختلف في معنى السحر , فقال بعضهم : هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر , حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به نظير الذي يرى السراب من بعيد , فيخيل إليه أنه ماء , ويرى الشيء من بعيد فيثبته بخلاف ما هو على حقيقته . وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشج
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع, ابتلي بالاشتغال بما يضره, فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه, ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل. كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم. وهم كذبة في ذلك، فلم يستعمله سليمان، بل نزهه الصادق في قيله: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أي: بتعلم السحر, فلم يتعلمه، { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } بذلك. { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم، وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر. { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى } ينصحاه, و { يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته, فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة. فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين, والسحر الذي يعلمه الملكان, فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين, وكل يصبو إلى ما يناسبه. ثم ذكر مفاسد السحر فقال: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما, لأن الله قال في حقهما: { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدري، وهو المتعلق بمشيئة الله, كما في هذه الآية، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة: { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير, ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة, فأخرجوها عن قدرة الله، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين. ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة, ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي، كما قال تعالى في الخمر والميسر: { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فهذا السحر مضرة محضة, فليس له داع أصلا, فالمنهيات كلها إما مضرة محضة, أو شرها أكبر من خيرها. كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها. { وَلَقَدْ عَلِمُوا } أي: اليهود { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة. { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي: نصيب, بل هو موجب للعقوبة, فلم يكن فعلهم إياه جهلا, ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } علما يثمر العمل ما فعلوه.
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
فيه أربع وعشرون مسألة : الأولى : قوله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا ، وهم اليهود . وقال السدي : عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت . وقال محمد بن إسحاق : لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم : يزعم محمد أن ابن داود كان نبيا ! والله ما كان إلا ساحرا ، فأنزل الله عز وجل : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا . وقال الكلبي : كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان ، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان ، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم بهذا فتعلموه ، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان ! وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين . قال عطاء : تتلو تقرأ من التلاوة . وقال ابن عباس : تتلو تتبع ، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا . وقال الطبري : اتبعوا بمعنى فضلوا .
قلت : لأن كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره ، ومعنى " تتلو " يعني تلت ، فهو بمعنى المضي ، قال الشاعر :
وإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها
فلقد يكون أخا دم وذبائح
أي فلقد كان . وما مفعول ب ( اتبعوا ) أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته . وقيل : ما نفي ، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته ، قاله ابن العربي .
على ملك سليمان أي على شرعه ونبوته . قال الزجاج : قال الفراء على عهد ملك سليمان . وقيل : المعنى في ملك سليمان يعني في قصصه وصفاته وأخباره . قال الفراء : تصلح على وفي ، في مثل هذا الموضع . وقال على ولم يقل بعد لقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته أي في تلاوته . وقد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه ، فلا معنى لإعادته . والشياطين هنا قيل : هم شياطين الجن ، وهو المفهوم من هذا الاسم . وقيل : المراد شياطين الإنس المتمردون في الضلال ، كقول جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزلي وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
الثانية : قوله تعالى : وما كفر سليمان تبرئة من الله لسليمان ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر ، ولكن اليهود نسبته إلى السحر ، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر . ثم قال : ولكن الشياطين كفروا فأثبت كفرهم بتعليم السحر . ويعلمون : في موضع نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان . وقرأ الكوفيون سوى عاصم " ولكن الشياطين " بتخفيف " لكن " ، ورفع النون من " الشياطين " ، وكذلك في الأنفال " ولكن الله رمى " ووافقهم ابن عامر . الباقون بالتشديد والنصب . و " لكن " كلمة لها معنيان : نفي الخبر الماضي ، وإثبات الخبر المستقبل ، وهي مبنية من ثلاث كلمات : لا ، ك ، إن . " لا " نفي ، و " الكاف " خطاب ، و " إن " إثبات وتحقيق ، فذهبت الهمزة استثقالا ، وهي تثقل وتخفف ، فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة ، وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بإن الخفيفة .
الثالثة : السحر ، قيل : السحر أصله التمويه والتخاييل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني ، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به ، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء ، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه . وقيل : هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته ، وكذلك إذا عللته ، والتسحير مثله ، قال لبيد :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
آخر [ هو امرؤ القيس ] :
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
عصافير وذبان ودود وأجرأ من مجلحة الذئاب
وقوله تعالى : إنما أنت من المسحرين يقال : المسحر الذي خلق ذا سحر ، ويقال من المعللين ، أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب . وقيل : أصله الخفاء ، فإن الساحر يفعله في خفية . وقيل : أصله الصرف ، يقال : ما سحرك عن كذا ، أي ما صرفك عنه ، فالسحر مصروف عن جهته . وقيل : أصله الاستمالة ، وكل من استمالك فقد سحرك . وقيل في قوله تعالى : بل نحن قوم مسحورون أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا . وقال الجوهري : السحر الأخذة ، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر ، وقد سحره يسحره سحرا . والساحر : العالم ، وسحره أيضا بمعنى خدعه ، وقد ذكرناه . وقال ابن مسعود : كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه . والعضه عند العرب : شدة البهت وتمويه الكذب ، قال الشاعر :
أعوذ بربي من النافثا ت في عضه العاضه المعضه
الرابعة : واختلف هل له حقيقة أم لا ، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له : أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له ، وعند الشافعي وسوسة وأمراض . قال : وعندنا أصله طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب ، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون ، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر .
قلت : وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء ، على ما يأتي . ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة . والشعوذي : البريد لخفة سيره . قال ابن فارس في المجمل : الشعوذة ليس من كلام أهل البادية ، وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر ، ومنه ما يكون كلاما يحفظ ، ورقى من أسماء الله تعالى . وقد يكون من عهود الشياطين ، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك .
الخامسة : سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا ، فقال : إن من البيان لسحرا أخرجه مالك وغيره . وذلك لأن فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق ، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام : إن من البيان لسحرا خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة ، إذ شبهها بالسحر . وقيل : خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان ، قال جماعة من أهل العلم . والأول أصح ، والدليل عليه قوله عليه السلام : فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وقوله : إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون . الثرثرة : كثرة الكلام وترديده ، يقال : ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار . والمتفيهق نحوه . قال ابن دريد . فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع ، قال : وأصله الفهق وهو الامتلاء ، كأنه ملأ به فمه .
قلت : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا : أما قوله صلى الله عليه وسلم : إن من البيان لسحرا فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق . وهذا بين ، والحمد لله .
السادسة : من السحر ما يكون كفرا من فاعله ، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس ، وإخراجهم في هيئة بهيمة ، وقطع مسافة شهر في ليلة ، والطيران في الهواء ، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه ، قاله أبو نصر عبد الرحيم القشيري . قال أبو عمرو : من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة ، فيجعل الإنسان حمارا أو نحوه ، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها ، فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء ، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم ، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة ؛ إذ قد يحصل مثلها بالحيلة . وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر ، إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به .
السابعة : ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة . وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الإستراباذي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له ، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به ، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة ، كما قال تعالى : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ولم يقل تسعى على الحقيقة ، ولكن قال يخيل إليه . وقال أيضا : سحروا أعين الناس . وهذا لا حجة فيه ; لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر ، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع ، فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه ، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه ، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس ، فدل على أن له حقيقة . وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون : وجاءوا بسحر عظيم وسورة " الفلق " ، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم ، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، الحديث . وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر : " إن الله شفاني " . والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض ، فدل على أن له حقا وحقيقة ، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه . وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع ، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق . ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه ، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله . وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال : علم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها : " الفرما " فمن كذب به فهو كافر ، مكذب لله ورسوله ، منكر لما علم مشاهدة وعيانا .
الثامنة : قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد . قالوا : ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة ، والجري على خيط مستدق ، والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك . ومع ذلك فلا يكون السحر موجبا لذلك ولا علة لوقوعه ولا سببا مولدا ، ولا يكون الساحر مستقلا به ، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والري عند شرب الماء . روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ، ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه ، فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب - هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي - وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم : يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل . فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل الساحر . قال علي بن المديني : روى عنه حارثة بن مضرب .
التاسعة : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام . فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر . قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه .
العاشرة : في الفرق بين السحر والمعجزة ، قال علماؤنا : السحر يوجد من الساحر وغيره ، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد . والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها ، ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة ، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها ، كما تقدم في مقدمة الكتاب .
الحادية عشر : واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي ، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته ; لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني ; ولأن الله تعالى سمى السحر كفرا بقوله : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة . وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : حد الساحر ضربه بالسيف خرجه الترمذي وليس بالقوي ، انفرد به إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عندهم ، رواه ابن عيينة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن مرسلا ، ومنهم من جعله عن جندب قال ابن المنذر : وقد روينا عن عائشة أنها باعت ساحرة كانت سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب . قال ابن المنذر : وإذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرا وجب قتله إن لم يتب ، وكذلك لو ثبتت به عليه بينة ووصفت البينة كلاما يكون كفرا . وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله ، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كان عمد ذلك ، وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دية ذلك . قال ابن المنذر : وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسنة ، وقد يجوز أن يكون السحر الذي أمر من أمر منهم بقتل الساحر سحرا يكون كفرا فيكون ذلك موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفرا . فإن احتج محتج بحديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم : حد الساحر ضربه بالسيف فلو صح لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفرا ، فيكون ذلك موافقا للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث . . .
قلت : وهذا صحيح ، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف . والله تعالى أعلم . وقال بعض العلماء : إن قال أهل الصناعة إن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار ، أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير ، والله تعالى أعلم . وروي عن الشافعي : لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل ، وإن قال لم أتعمده لم يقتل ، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ ، وإن أضر به أدب على قدر الضرر . قال ابن العربي : وهذا باطل من وجهين ، أحدهما : إنه لم يعلم السحر ، وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى ، وتنسب إليه المقادير والكائنات . الثاني : إن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال : وما كفر سليمان بقول السحر ولكن الشياطين كفروا به وبتعليمه ، وهاروت وماروت يقولان : إنما نحن فتنة فلا تكفر وهذا تأكيد للبيان .
احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته ; لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق ، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتدا ، قال مالك : فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما ، والحجة لذلك قوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب ، فكذلك هذان .
الثانية عشرة : وأما ساحر الذمة ، فقيل يقتل . وقال مالك : لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى ، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه . وقال ابن خويز منداد : فأما إذا كان ذميا فقد اختلفت الرواية عن مالك ، فقال مرة : يستتاب وتوبته الإسلام . وقال مرة : يقتل وإن أسلم . وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب ، وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صلى الله عليه وسلم : يستتاب وتوبته الإسلام . وقال مرة : يقتل ولا يستتاب كالمسلم . وقال مالك أيضا في الذمي إذا سحر : يعاقب ، إلا أن يكون قتل بسحره ، أو أحدث حدثا فيؤخذ منه بقدره . وقال غيره : يقتل ; لأنه قد نقض العهد . ولا يرث الساحر ورثته ; لأنه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفرا . وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها : تنكل ولا تقتل .
الثالثة عشرة : واختلفوا هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور ، فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخاري ، وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري . وقال الشعبي : لا بأس بالنشرة . قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به ، فإنه يذهب عنه كل ما به ، إن شاء الله تعالى ، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله .
الرابعة عشرة : أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن ، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم ، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي ، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم ، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه ، ونص الشرع على ثبوته ، قال الله تعالى : ولكن الشياطين كفروا وقال : ومن الشياطين من يغوصون له إلى غير ذلك من الآي ، وسورة " الجن " تقضي بذلك ، وقال عليه السلام : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس ، وأحالوا روحين في جسد ، والعقل لا يحيل سلوكهم في الإنس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم ، ولو كانوا كثافا لصح ذلك أيضا منهم ، كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم ، وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء .
الخامسة عشرة : وما أنزل على الملكين ما نفي ، والواو للعطف على قوله : وما كفر سليمان وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك . وفي الكلام تقديم وتأخير ، التقدير وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله : ولكن الشياطين كفروا . هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل ، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، ودقة أفهامهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن ، قال الله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد . وقال الشاعر :
أعوذ بربي من النافثا ت . . . . . . . . . . . . . .
السادسة عشرة : إن قال قائل : كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل ، فالجواب من وجوه ثلاثة
الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع ، كما قال تعالى : فإن كان له إخوة فلأمه السدس ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعدا ، على ما يأتي بيانه في " النساء " .
الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون أتباعهما ، كما قال تعالى : عليها تسعة عشر .
الثالث : إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما ، كما قال تعالى : فيهما فاكهة ونخل ورمان وقوله : وجبريل وميكال . وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله ، كقوله تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي وقوله : وجبريل وميكال ، وإما لطيبه كقوله : فاكهة ونخل ورمان ، وإما لأكثريته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا ، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية ، والله تعالى أعلم . وقد قيل : إن ما عطف على السحر وهي مفعولة ، فعلى هذا يكون ما بمعنى الذي ، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان : إنما نحن فتنة ، أي محنة من الله ، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت ، وإن عصيتنا هلكت . وقد روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي ما معناه : أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام - وذلك في زمن إدريس عليه السلام - عيرتهم الملائكة ، فقال الله تعالى : أما إنكم لو كنتم مكانهم ، وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم ، فقالوا : سبحانك ! ما كان ينبغي لنا ذلك ، قال : فاختاروا ملكين من خياركم ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأنزلهما إلى الأرض فركب فيهما الشهوة ، فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية " بيدخت " وبالفارسية " ناهيل " وبالعربية " الزهرة " اختصمت إليهما ، وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله ، فأجاباها وشربا الخمر وألما بها ، فرآهما رجل فقتلاه ، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكبا . وقال سالم عن أبيه عن عبد الله : فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما . وفي غير هذا الحديث : فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا ، فهما يعذبان ببابل في سرب من الأرض . قيل : بابل العراق . وقيل : بابل نهاوند ، وكان ابن عمر فيما يروى عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما ، ويقول : إن سهيلا كان عشارا باليمن يظلم الناس ، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت .
قلنا : هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره ، لا يصح منه شيء ، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى رسله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . يسبحون الليل والنهار لا يفترون . وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه ، ويخلق فيهم الشهوات ، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم ، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء ، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح . ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء ، ففي الخبر : ( أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر " . وهذا معنى قول الله تعالى : وكل في فلك يسبحون . فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم ، ثم إن قول الملائكة : " ما كان ينبغي لنا " عورة : لا تقدر على فتنتنا ، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين ، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
السابعة عشرة : قرأ ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن : " الملكين " بكسر اللام . قال ابن أبزى : هما داود وسليمان . ف " ما " على هذا القول أيضا نافية ، وضعف هذا القول ابن العربي . وقال الحسن : هما علجان كانا ببابل ملكين ، ف " ما " على هذا القول مفعولة غير نافية .
الثامنة عشرة : ببابل بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة ، وهي قطر من الأرض ، قيل : العراق وما والاه . وقال ابن مسعود لأهل الكوفة : أنتم بين الحيرة وبابل . وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين . وقال قوم : هي بالمغرب . قال ابن عطية : وهذا ضعيف . وقال قوم : هو جبل نهاوند ، فالله تعالى أعلم .
واختلف في تسميته ببابل ، فقيل : سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمروذ . وقيل : سمي به لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل ، فبلبل الله ألسنتهم بها ، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد . والبلبلة : التفريق ، قال معناه الخليل . وقال أبو عمر بن عبد البر : من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين ، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، إحداها اللسان العربي ، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض .
التاسعة عشرة : روى عبد الله بن بشر المازني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت . قال علماؤنا : إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تسحرك بخدعها ، وتكتمك فتنتها ، فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها ، والجمع لها والمنع ، حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى ، وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته ، فالدنيا أسحر منهما ، تأخذ بقلبك عن الله ، وعن القيام بحقوقه ، وعن وعده ووعيده . وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها ، وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبك الشيء يعمي ويصم .
الموفية عشرين : قوله تعالى : هاروت وماروت لا ينصرف هاروت ; لأنه أعجمي معرفة ، وكذا ماروت ، ويجمع هواريت ومواريت ، مثل طواغيت ، ويقال : هوارتة وهوار ، وموارتة وموار ، ومثله جالوت وطالوت ، فاعلم . وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما ؟ خلاف . قال الزجاج : وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : أي والذي أنزل على الملكين ، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه . قال الزجاج : وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا ، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه . والذي أنزل عليهما هو النهي ، كأنه قولا للناس : لا تعملوا كذا ، ف ( يعلمان ) بمعنى يعلمان ، كما قال : ولقد كرمنا بني آدم أي أكرمنا .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : وما يعلمان من أحد من زائدة للتوكيد ، والتقدير : وما يعلمان أحدا . حتى يقولا نصب بحتى فلذلك حذفت منه النون ، ولغة هذيل وثقيف " عتى " بالعين المعجمة . والضمير في يعلمان لهاروت وماروت . وفي يعلمان قولان ، أحدهما : أنه على بابه من التعليم . الثاني : أنه من الإعلام لا من التعليم ، ف يعلمان بمعنى يعلمان ، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى اعلم ، ذكره ابن الأعرابي وابن الأنباري . قال كعب بن مالك :
تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
وقال القطامي :
تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا
وقال زهير :
تعلمن ها لعمر الله ذا قسما فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك
وقال آخر :
تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور
إنما نحن فتنة لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها . فلا تكفر قالت فرقة بتعليم السحر ، وقالت فرقة باستعماله . وحكى المهدوي أنه استهزاء ; لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله .
الثانية والعشرون : قوله تعالى : فيتعلمون منهما قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، قال ومثله كن فيكون . وقيل : هو معطوف على موضع ما يعلمان ; لأن قوله : وما يعلمان وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم . وقال الفراء : هي مردودة على قوله : يعلمون الناس السحر فيتعلمون ، ويكون " فيتعلمون " متصلة بقوله إنما نحن فتنة فيأتون فيتعلمون . قال السدي : كانا يقولان لمن جاءهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر فإن أبى أن يرجع قالا له : ائت هذا الرماد فبل فيه ، فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء ، وهو الإيمان ، ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر ، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه . ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة ; لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه ، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره . وقالت طائفة : ذلك خرج على الأغلب ، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب ، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه ، ويحول بين المرء وقلبه ، وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام ، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة ، وقد تقدم هذا ، والحمد لله .
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ما هم ، إشارة إلى السحرة . وقيل إلى اليهود ، وقيل إلى الشياطين . بضارين به أي بالسحر . من أحد أي أحدا ، ومن زائدة . إلا بإذن الله بإرادته وقضائه لا بأمره لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها . وقال الزجاج : إلا بإذن الله إلا بعلم الله . قال النحاس : وقول أبي إسحاق إلا بإذن الله إلا بعلم الله غلط ; لأنه إنما يقال في العلم أذن ، وقد أذنت أذنا . ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا .
الرابعة والعشرون : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم يريد في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا . وقيل : يضرهم في الدنيا ; لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه ; لأنه يؤدب ويزجر ، ويلحقه شؤم السحر . وباقي الآي بين لتقدم معانيها .
واللام في ولقد علموا لام توكيد . لمن اشتراه لام يمين ، وهي للتوكيد أيضا . وموضع من رفع بالابتداء ; لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيما بعدها . ومن بمعنى الذي . وقال الفراء . هي للمجازاة . وقال الزجاج : ليس هذا بموضع شرط ، ومن بمعنى الذي ، كما تقول : لقد علمت ، لمن جاءك ما له عقل . من خلاق من زائدة ، والتقدير ما له في الآخرة خلاق ، ولا تزاد في الواجب ، هذا قول البصريين . وقال الكوفيون : تكون زائدة في الواجب ، واستدلوا بقوله تعالى : يغفر لكم من ذنوبكم والخلاق : النصيب ، قاله مجاهد . قال الزجاج : وكذلك هو عند أهل اللغة ، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير . وسئل عن قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق فأخبر أنهم قد علموا . ثم قال : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون فأخبر أنهم لا يعلمون ، فالجواب وهو قول قطرب والأخفش : أن يكون الذين يعلمون الشياطين ، والذين شروا أنفسهم - أي باعوها - هم الإنس الذين لا يعلمون . قال الزجاج وقال علي بن سليمان : الأجود عندي أن يكون ولقد علموا للملكين ; لأنهما أولى بأن يعلموا . وقال : علموا كما يقال : الزيدان قاموا . وقال الزجاج : الذين علموا علماء اليهود ، ولكن قيل : لو كانوا يعلمون أي فدخلوا في محل من يقال له : لست بعالم ; لأنهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features