لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)

القول في تأويل قوله : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للعرب: (لقد جاءكم) ، أيها القوم، رسول الله إليكم =(من أنفسكم) ، تعرفونه، لا من غيركم, فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم (15) =(عزيز عليه ما عنتم) ، أي: عزيز عليه عنتكم, وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى (16) =(حريص عليكم) ، يقول: حريص على هُدَى ضُلالكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحق (17) =(بالمؤمنين رءوف) ، : أي رفيق =(رحيم) . (18)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17504- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن جعفر بن محمد, عن أبيه في قوله: (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، قال: لم يصبه شيء من شركٍ في ولادته.
17505- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن جعفر بن محمد في قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني خرجت من نكاحٍ، ولم أخرج من سفاح.
17506- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن ابن عيينة, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, بنحوه.
17507- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، قال: جعله الله من أنفسهم, فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة. (19)
* * *
وأما قوله: (عزيز عليه ما عنتم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: ما ضللتم.
* ذكر من قال ذلك:
17508- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي, عن ابن عباس في قوله: (عزيز عليه ما عنتم) ، قال: ما ضللتم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: عزيز عليه عَنت مؤمنكم.
* ذكر من قال ذلك:
17509- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (عزيز عليه ما عنتم) ، عزيزٌ عليه عَنَت مؤمنهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس. وذلك أن الله عمَّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنتَ قومَه, ولم يخصص أهل الإيمان به. فكان صلى الله عليه وسلم [كما جاء الخبرُ من] الله به، عزيزٌ عليه عَنَتُ جمعهم. (20)
* * *
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزًا عليه عنتُ جميعهم، وهو يقتل كفارَهم، ويسبي ذراريَّهم، ويسلبهم أموالهم؟
قيل: إن إسلامهم، لو كانوا أسلموا، كان أحبَّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه، حتى يستحقوا ذلك من الله. وإنما وصفه الله جل ثناؤه بأنه عزيزٌ عليه عنتهم, لأنه كان عزيزًا عليه أن يأتوا ما يُعنتهم، وذلك أن يضلُّوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي.
* * *
وأما " ما " التي في قوله: (ما عنتم) ، فإنه رفع بقوله: (عزيز عليه) ، لأن معنى الكلام ما ذكرت: عزيز عليه عنتكم.
* * *
وأما قوله: (حريص عليكم) ، فإن معناه: ما قد بيَّنت, وهو قول أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17510- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (حريص عليكم) ، حريص على ضالهم أن يهديه الله.
17510م- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة في قوله: (حريص عليكم) ، قال: حريص على من لم يسلم أن يسلم.
------------------------
الهوامش :
(15) انظر تفسير " من أنفسهم " فيما سلف 7 : 369 .
(16) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف من فهارس اللغة ( عزز)
= وتفسير " العنت " فيما سلف 4 : 360 / 7 : 140 - 144 / 8 : 206 .
(17) انظر تفسير " الحرص " فيما سلف 9 : 284 .
(18) انظر تفسير " رؤوف " فيما سلف 3 : 171 : 251 / 14 : 539 .
= وتفسير " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( رحم ) .
(19) في المطبوعة والمخطوطة " ولا يحسدونه " بالواو ، والسياق يقتضي ما أثبت .
(20) في المخطوطة ، بياض بين " كما " ، و " الله به " بقدر كلمتين ، وفي المطبوعة أتم الكلام هكذا : " كما وصفه الله به ، عزيزا عليه " ، والزيادة بين القوسين استظهار مني ، وسائره كنص المخطوطة .
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)

قوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم
هاتان الآيتان في قول أبي أقرب القرآن بالسماء عهدا . وفي قول سعيد بن جبير : آخر ما نزل من القرآن واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله على ما تقدم . فيحتمل أن يكون قول أبي : أقرب القرآن بالسماء عهدا بعد قوله : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله . والله أعلم .
والخطاب للعرب في قول الجمهور ، وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك ; إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه ، وشرفوا به غابر الأيام . وقال الزجاج : هي مخاطبة لجميع العالم والمعنى : لقد جاءكم رسول من البشر ; والأول أصوب . قال ابن عباس : ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال : يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل . والقول الثاني أوكد للحجة أي هو بشر مثلكم لتفهموا عنه وتأتموا به .
قوله تعالى من أنفسكم يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وخالصها . وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إني من نكاح ولست من سفاح . معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا . وقرأ عبد الله بن قسيط المكي من " أنفسكم " بفتح الفاء من النفاسة ; ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها أي جاءكم رسول من أشرفكم وأفضلكم من قولك : شيء نفيس إذا كان مرغوبا فيه . وقيل : من أنفسكم أي أكثركم طاعة .
قوله تعالى عزيز عليه ما عنتم أي يعز عليه مشقتكم . والعنت : المشقة ; من قولهم : أكمة عنوت إذا كانت شاقة مهلكة . وقال ابن الأنباري : أصل التعنت التشديد ; فإذا قالت العرب : فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادهم يشدد عليه ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه . وقد تقدم في ( البقرة ) . و " ما " في ( ما عنتم ) مصدرية ، وهي ابتداء و ( عزيز ) خبر مقدم . ويجوز أن يكون ( ما عنتم ) فاعلا بعزيز ، و ( عزيز ) صفة للرسول ، وهو أصوب . وكذا حريص عليكم وكذا رءوف رحيم رفع على الصفة . قال الفراء : ولو قرئ عزيزا عليه ، ما عنتم حريصا رءوفا رحيما ، نصبا على الحال ، جاز . قال أبو جعفر النحاس : وأحسن ما قيل في معناه مما يوافق كلام العرب ما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا عبد الله بن محمد الخزاعي قال سمعت عمرو بن علي يقول : سمعت عبد الله بن داود الخريبي يقول في قوله عز وجل : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم قال : أن تدخلوا النار ،
حريص عليكم قال : أن تدخلوا الجنة . وقيل : حريص عليكم أن تؤمنوا . وقال الفراء : شحيح بأن تدخلوا النار . والحرص على الشيء : الشح عليه أن يضيع ويتلف .
بالمؤمنين رءوف رحيم الرءوف : المبالغ في الرأفة والشفقة . وقد تقدم في ( البقرة ) معنى رءوف رحيم مستوفى . وقال الحسين بن الفضل : لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ; فإنه قال : بالمؤمنين رءوف رحيم وقال : إن الله بالناس لرءوف رحيم . وقال عبد العزيز بن يحيى : نظم الآية لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص بالمؤمنين رءوف رحيم ، عزيز عليه ما عنتم لا يهمه إلا شأنكم ، وهو القائم بالشفاعة لكم فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته ; فإنه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features