حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)

حرمت عليكم الميتة
القول في تأويل قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } يعني بذلك جل ثناؤه : حرم الله عليكم أيها المؤمنون الميتة , والميتة : كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره , مما أباح الله أكلها , وأهليها ووحشيها , فارقتها روحها بغير تذكية . وقد قال بعضهم : الميتة : هو كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية مما أحل الله أكله . وقد بينا العلة الموجبة صحة القول بما قلنا في ذلك في كتابنا : كتاب " لطيف القول في الأحكام " .والدم
وأما الدم : فإنه الدم المسفوح دون ما كان منه غير مسفوح ; لأن الله جل ثناؤه قال : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } فأما ما كان قد صار في معنى اللحم كالكبد والطحال , وما كان في اللحم غير منسفح , فإن ذلك غير حرام , لإجماع الجميع على ذلك .ولحم الخنزير
وأما قوله : { ولحم الخنزير } فإنه يعني : وحرم عليكم لحم الخنزير , أهليه وبريه . فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم , والمراد منهما الخصوص وأما لحم الخنزير , فإن ظاهره كباطنه وباطنه كظاهره , حرام جميعه لم يخصص منه شيء .وما أهل لغير الله به
وأما قوله : { وما أهل لغير الله به } فإنه يعني : وما ذكر عليه غير اسم الله . وأصله من استهلال الصبي وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمه , ومنه إهلال المحرم بالحج إذا لبى به , ومنه قول ابن أحمر : يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر وإنما عنى بقوله : { وما أهل لغير الله به } وما ذبح للآلهة وللأوثان يسمى عليه غير اسم الله . وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل , وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى فكرهنا إعادته .والمنخنقة
القول في تأويل قوله تعالى : { والمنخنقة } اختلفت أهل التأويل في صفة الانخناق الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله { والمنخنقة } فقال بعضهم بما : 8648 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { والمنخنقة } قال : التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة , فتختنق فتموت . 8649 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبو خالد الأحمر , عن جويبر , عن الضحاك , في المنخنقة , قال : التي تختنق فتموت . 8650 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : حدثنا معمر , عن قتادة في قوله : { والمنخنقة } التي تموت في خناقها . وقال آخرون : هي التي توثق فيقتلها بالخناق وثاقها . ذكر من قال ذلك : 8651 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ , يقول : أخبرنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { والمنخنقة } قال : الشاة توثق , فيقتلها خناقها , فهي حرام . وقال آخرون : بل هي البهيمة من النعم , كان المشركون يخنقونها حتى تموت , فحرم الله أكلها . ذكر من قال ذلك : 8652 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : { والمنخنقة } التي تخنق فتموت . 8653 - حدثنا بشر قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { والمنخنقة } كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة , حتى إذا ماتت أكلوها . وأولى هذه الأقوال بالصواب , قول من قال : هي التي تختنق , إما في وثاقها , وإما بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره ; لأن المنخنقة : هي الموصوفة بالانخناق دون خنق غيرها لها , ولو كان معنيا بذلك أنها مفعول بها لقيل : والمخنوقة , حتى يكون معنى الكلام ما قالوا .والموقوذة
القول في تأويل قوله تعالى : { والموقوذة } يعني جل ثناؤه بقوله { والموقوذة } والميتة وقيذا , يقال منه : وقذه يقذه وقذا : إذا ضربه حتى أشرف على الهلاك , ومنه قول الفرزدق : شغارة تقذ الفصيل برجلها فطارة لقوادم الأبكار وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 8654 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : { والموقوذة } قال : الموقوذة التي تضرب بالخشب حتى يقذها فتموت . 8655 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال ثنا سعيد , عن قتادة : { والموقوذة } كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا , حتى إذا ماتت أكلوها . * - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا روح , قال : ثنا شعبة , عن قتادة في قوله : { والموقوذة } قال : كانوا يضربونها حتى يقذوها , ثم يأكلوها . * - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { والموقوذة } التي توقذ فتموت . 8656 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبو خالد الأحمر , عن جويبر , عن الضحاك , قال : { الموقوذة } التي تضرب حتى تموت . 8657 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن مفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { والموقوذة } قال : هي التي تضرب فتموت . 8658 - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { والموقوذة } كانت الشاة أو غيرها من الأنعام تضرب بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها . * - حدثنا العباس بن الوليد , قال : أخبرني عقبة بن علقمة , ثني إبراهيم بن أبي عبلة , قال : ثني نعيم بن سلامة , عن أبي عبد الله الصنابحي , قال : ليست الموقوذة إلا في مالك , وليس في الصيد وقيذ .والمتردية
القول في تأويل قوله تعالى : { والمتردية } يعني بذلك جل ثناؤه : وحرمت عليكم الميتة ترديا من جبل , أو في بئر , أو غير ذلك . وترديها : رميها بنفسها من مكان عال مشرف إلى سفله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 8659 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : { والمتردية } قال : التي تتردى من الجبل . 8660 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { والمتردية } كانت تتردى في البئر فتموت فيأكلونها . * - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا روح , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { والمتردية } قال : التي تردت في البئر . 8661 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي في قوله : { والمتردية } قال : هي التي تردى من الجبل أو في البئر , فتموت . 8662 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبو خالد الأحمر , عن جويبر , عن الضحاك : { والمتردية } التي تردى من الجبل فتموت . 8663 - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ , يقول : ثنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { والمتردية } قال : التي تخر في ركي أو من رأس جبل فتموت .والنطيحة
القول في تأويل قوله تعالى : { والنطيحة } يعني بقوله { النطيحة } الشاة التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح بغير تذكية , فحرم الله جل ثناؤه ذلك على المؤمنين إن لم يدركوا ذكاته قبل موته . وأصل النطيحة : المنطوحة , صرفت من مفعولة إلى فعيلة . فإن قال قائل : وكيف أثبتت الهاء هاء التأنيث فيها , وأنت تعلم أن العرب لا تكاد تثبت الهاء في نظائرها إذا صرفوها صرف النطيحة من مفعول إلى فعيل , إنما تقول : لحية دهين , وعين كحيل , وكف خضيب , ولا يقولون كف خضيبة ولا عين كحيلة ؟ قيل : قد اختلفت أهل العربية في ذلك , فقال بعض نحويي البصرة : أثبتت فيها الهاء , أعني في النطيحة ; لأنها جعلت كالاسم مثل الطويلة والطريقة فكأن قائل هذا القول وجه النطيحة إلى معنى الناطحة . فتأويل الكلام على مذهبه : وحرمت عليكم الميتة نطاحا , كأنه عنى : وحرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما تحذف العرب الهاء من الفعيلة المصروفة عن المفعول إذا جعلتها صفة لاسم , قد تقدمها , فتقول : رأينا كفا خضيبا وعينا كحيلا . فأما إذا حذفت الكف والعين والاسم الذي يكون فعيل نعتا لها واجتزءوا بفعيل منها , أثبتوا فيه هاء التأنيث , ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر , فتقول : رأينا كحيلة وخضيبة وأكيلة السبع , قالوا : ولذلك أدخلت الهاء في النطيحة ; لأنها صفة المؤنث , ولو أسقطت منها لم يدر أهي صفة مؤنث أو مذكر . وهذا القول هو أولى القولين في ذلك بالصواب الشائع من أقوال أهل التأويل , بأن معنى النطيحة : المنطوحة . ذكر من قال ذلك : 8664 - حدثني المثنى , قال ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية , عن علي , عن أبي عباس , قوله : { والنطيحة } قال : الشاة تنطح الشاة . 8665 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبو أحمد الزبيري , عن قيس , عن أبي إسحاق , عن أبي ميسرة , قال : كان يقرأ : " والمنطوحة " . 8666 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبو خالد الأحمر , عن جويبر , عن الضحاك : { والنطيحة } الشاتان تنتطحان فتموتان . 8667 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { والنطيحة } هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت . يقول : هذا حرام ; لأن ناسا من العرب كانوا يأكلونه . 8668 - حدثنا بشر , قال ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { والنطيحة } كان الكبشان ينتطحان , فيموت أحدهما , فيأكلونه . * - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا روح , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { والنطيحة } الكبشان ينتطحان فيقتل أحدهما الآخر , فيأكلونه . * - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد , , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { والنطيحة } قال : الشاة تنطح الشاة فتموت .وما أكل السبع
القول في تأويل قوله تعالى : { وما أكل السبع } يعني جل ثناؤه بقوله : { وما أكل السبع } وحرم عليكم ما أكل السبع غير المعلم من الصوائد . وكذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 8669 - حدثني المثنى , قال ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : { وما أكل السبع } يقول : ما أخذ السبع . 8670 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبو خالد الأحمر , عن جويبر , عن الضحاك : { وما أكل السبع } يقول : ما أخذ السبع . 8671 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { وما أكل السبع } قال : كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئا من هذا أو أكل منه , أكلوا ما بقي . 8672 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبو أحمد الزبيري , عن قيس , عن عطاء بن السائب , عن أبي الربيع , عن ابن عباس أنه قرأ : " وأكيل السبع " .إلا ما ذكيتم
القول في تأويل قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } يعني جل ثناؤه بقوله : { إلا ما ذكيتم } إلا ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهورا . ثم اختلف أهل التأويل فيما استثنى الله بقوله : { إلا ما ذكيتم } فقال بعضهم : استثنى من جميع ما سمى الله تحريمه , من قوله { وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } ذكر من قال ذلك : 8673 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : { إلا ما ذكيتم } يقول : ما أدركت ذكاته من هذا كله , يتحرك له ذنب أو تطرف له عين , فاذبح واذكر اسم الله عليه فهو حلال . 8674 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا ابن فضيل , عن أشعث , عن الحسن : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } قال الحسن : أي هذا أدركت ذكاته فذكه وكل . فقلت : يا أبا سعيد كيف أعرف ؟ قال : إذا طرفت بعينها أو ضربت بذنبها . 8675 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { إلا ما ذكيتم } قال : فكل هذا الذي سماه الله عز وجل هاهنا ما خلا لحم الخنزير إذا أدركت منه عينا تطرف أو ذنبا يتحرك أو قائمة تركض , فذكيته , فقد أحل الله لك ذلك . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة : { إلا ما ذكيتم } من هذا كله , فإذا وجدتها تطرف عينها , أو تحرك أذنها من هذا كله , فهي لك حلال . 8676 - حدثنا حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني هشيم وعباد , قالا : أخبرنا حجاج , عن حصين , عن الشعبي , عن الحارث , عن علي , قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها . 8677 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا معمر , عن إبراهيم , قال : إذا أكل السبع من الصيد أو الوقيذة , أو النطيحة أو المتردية فأدركت ذكاته , فكل . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا مصعب بن سلام التميمي , قال : ثنا جعفر بن محمد , عن أبيه , عن علي بن أبي طالب , قال : إذا ركضت برجلها أو طرفت بعينها أو حركت ذنبها , فقد أجزأ . 8678 - حدثنا ابن المثنى وابن بشار , قالا : ثنا أبو عاصم , قال : أخبرنا ابن جريج , قال : أخبرني ابن طاوس , عن أبيه , قال : إذا ذبحت فمصعت بذنبها أو تحركت فقد حلت لك . أو قال : فحسبه . 8679 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا الحجاج بن المنهال , قال : ثنا حماد , عن حميد , عن الحسن , قال : إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها , أو تركض برجلها , أو تمصع بذنبها , فاذبح وكل . * - حدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج , قال : ثنا حماد , عن قتادة , بمثله . * - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن ابن جريج , عن أبي الزبير , أنه سمع عبيد بن عمير , يقول : إذا طرفت بعينها , أو مصعت بذنبها , أو تحركت , فقد حلت لك . 8680 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان , قال : سمعت الضحاك يقول : كان أهل الجاهلية يأكلون هذا , فحرم الله في الإسلام إلا ما ذكي منه , فما أدرك فتحرك منه رجل أو ذنب أو طرف فذكي , فهو حلال . 8681 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } وقوله : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة } الآية , { وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } هذا كله محرم , إلا ما ذكي من هذا . فتأويل الآية على قول هؤلاء : حرمت الموقوذة والمتردية إن ماتت من التردي والوقذ والنطح وفرس السبع , إلا أن تدركوا ذكاتها , فتدركوها قبل موتها , فتكون حينئذ حلالا أكلها . وقال آخرون : هو استثناء من التحريم , وليس باستثناء من المحرمات التي ذكرها الله تعالى في قوله : { حرمت عليكم الميتة } لأن الميتة لا ذكاة لها ولا للخنزير . قالوا : وإنما معنى الآية : حرمت عليكم الميتة والدم , وسائر ما سمينا مع ذلك , إلا ما ذكيتم مما أحله الله لكم بالتذكية , فإنه لكم حلال . وممن قال ذلك جماعة من أهل المدينة ذكر بعض من قال ذلك : 8682 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال مالك : وسئل عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها , فقال مالك : لا أرى أن تذكى ولا يؤكل أي شيء يذكى منها . 8683 - حدثني يونس , عن أشهب , قال : سئل مالك , عن السبع يعدو على الكبش , فيدق ظهره , أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل ؟ قال : إن كان بلغ السحر , فلا أرى أن يؤكل , وإن كان إنما أصاب أطرافه , فلا أرى بذلك بأسا . قيل له : وثب عليه فدق ظهره ؟ قال : لا يعجبني أن يؤكل , هذا لا يعيش منه . قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء ؟ قال : إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل . وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله : { إلا ما ذكيتم } استثناء منقطعا , فيكون تأويل الآية : حرمت عليكم الميتة والدم , وسائر ما ذكرنا , ولكن ما ذكيتم من الحيوانات التي أحللتها لكم بالتذكية حلال . وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب القول الأول , وهو أن قوله : { إلا ما ذكيتم } استثناء من قوله : { وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } لأن كل ذلك مستحق الصفة التي هو بها قبل حال موته , فيقال : لما قرب المشركون لآلهتهم فسموه لهم : هو { ما أهل لغير الله به } بمعنى : سمي قربانا لغير الله . وكذلك المنخنقة : إذا انخنقت , وإن لم تمت فهي منخنقة , وكذلك سائر ما حرمه الله جل وعز بعد قوله : { وما أهل لغير الله به } إلا بالتذكية فإنه يوصف بالصفة التي هو بها قبل موته , فحرمه الله على عباده إلا بالتذكية المحللة دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفا . فإذ كان ذلك كذلك , فتأويل الآية : وحرم عليكم ما أهل لغير الله به , والمنخنقة , وكذا وكذا وكذا , إلا ما ذكيتم من ذلك ف " ما " إذ كان ذلك تأويله في موضع نصب بالاستثناء مما قبلها , وقد يجوز فيه الرفع . وإذ كان الأمر على ما وصفنا , فكل ما أدركت ذكاته من طائر أو بهيمة قبل خروج نفسه ومفارقة روحه جسده , فحلال أكله إذا كان مما أحله الله لعباده . فإن قال لنا قائل : فإذ كان ذلك معناه عندك , فما وجه تكريره ما كرر بقوله : { وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية } وسائر ما عدد تحريمه في هذه الآية , وقد افتتح الآية بقوله : { حرمت عليكم الميتة } ؟ وقد علمت أن قوله : { حرمت عليكم الميتة } شامل كل ميتة كان موته حتف أنفه , من علة به من غير جناية أحد عليه , أو كان موته من ضرب ضارب إياه , أو انخناق منه أو انتطاح أو فرس سبع ؟ وهلا كان قوله إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك من أنه معني بالتحريم في كل ذلك الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك , دون أن يكون معنيا به تحريمه إذا تردى أو انخنق , أو فرسه السبع , فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا باليسير من الحياة ; { حرمت عليكم الميتة } مغنيا من تكرير ما كرر بقوله ; { وما أهل لغير الله به والمنخنقة } وسائر ما ذكر مع ذلك وتعداده ما عدد ؟ قيل : وجه تكراره ذلك وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب التي هو بها موصوف , وقد تقدم بقوله : { حرمت عليكم الميتة } أن الذين خوطبوا بهذه الآية لا يعدون الميتة من الحيوان , إلا ما مات من علة عارضة به , غير الانخناق والتردي والانتطاح , وفرس السبع , فأعلمهم الله أن حكم ذلك حكم ما مات من العلل العارضة , وأن العلة الموجبة تحريم الميتة ليست موتها من علة مرض أو أذى كان بها قبل هلاكها , ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أجل ذبيحته بالمعنى الذي أحلها به . كالذي : 8684 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي في قوله : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } يقول : هذا حرام ; لأن ناسا من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدونه ميتا , إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع , فحرمه الله عليهم , إلا ما ذكروا اسم الله عليه وأدركوا ذكاته وفيه الروح .وما ذبح على النصب
القول في تأويل قوله تعالى : { وما ذبح على النصب } يعني بقوله جل ثناؤه : { وما ذبح على النصب } وحرم عليكم أيضا الذي ذبح على النصب . ف " ما " في قوله { وما ذبح } رفع عطفا على " ما " التي في قوله : { وما أكل السبع } والنصب : الأوثان من الحجارة جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض , فكان المشركون يقربون لها , وليست بأصنام . وكان ابن جريج يقول في صفته ما : 8685 - حدثنا القاسم : قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , قال : قال ابن جريج : النصب : ليست بأصنام , الصنم يصور وينقش , وهذه حجارة تنصب ثلثمائة وستون حجرا , منهم من يقول : ثلثمائة منها لخزاعة . فكانوا إذا ذبحوا , نضحوا الدم على ما أقبل من البيت , وشرحوا اللحم وجعلوه على الحجارة , فقال المسلمون : يا رسول الله , كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم , فنحن أحق أن نعظمه ! فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك , فأنزل الله : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } ومما يحقق قول ابن جريج في أن الأنصاب غير الأصنام ما : 8686 - حدثنا به ابن وكيع , قال : ثنا ابن عيينة , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { وما ذبح على النصب } قال : حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية . * - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : { النصب } قال : حجارة حول الكعبة , يذبح عليها أهل الجاهلية , ويبدلونها إن شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . 8687 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { وما ذبح على النصب } والنصب : حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها , ويذبحون لها , فنهى الله عن ذلك . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { وما ذبح على النصب } يعني : أنصاب الجاهلية . 8688 - حدثنا المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : { وما ذبح على النصب } والنصب : أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها . * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا حكام , عن عنبسة , عن محمد بن عبد الرحمن , عن القاسم بن أبي بزة , عن مجاهد , قوله : { وما ذبح على النصب } قال : كان حول الكعبة حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية ويبدلونها إذا شاءوا بحجر هو أحب إليهم منها . 8689 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد , قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : الأنصاب حجارة كانوا يهلون لها , ويذبحون عليها . 8690 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { وما ذبح على النصب } قال : ما ذبح على النصب , وما أهل لغير الله به , وهو واحد .وأن تستقسموا بالأزلام
القول في تأويل قوله : { وأن تستقسموا بالأزلام } يعني بقوله : { وأن تستقسموا بالأزلام } وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم , بالأزلام . وهو استفعلت من القسم : قسم الرزق والحاجات . وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو نحو ذلك , أجال القداح , وهي الأزلام , وكانت قداحا مكتوبا على بعضها : نهاني ربي , وعلى بعضها : أمرني ربي , فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه : أمرني ربي , مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك ; وإن خرج الذي عليه مكتوب : نهاني ربي , كف عن المضي لذلك وأمسك فقيل : { وأن تستقسموا بالأزلام } لأنهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون أزلامهم أن يقسمن لهم . ومنه قول الشاعر مفتخرا بترك الاستقسام بها : ولم أقسم فتربثني القسوم وأما الأزلام , فإن واحدها زلم , ويقال زلم , وهي القداح التي وصفنا أمرها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 8691 - حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع , قالا : ثنا عبد الرحمن بن مهدي , عن سفيان , عن أبي حصين , عن سعيد بن جبير : { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : القداح , كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر , جعلوا قداحا للجلوس والخروج , فإن وقع الخروج خرجوا , وإن وقع الجلوس جلسوا . 8692 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن شريك , عن أبي حصين , عن سعيد بن جبير : { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : حصى بيض كانوا يضربون بها . قال أبو جعفر : قال لنا سفيان بن وكيع : هو الشطرنج . 8693 - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا عباد بن راشد البزار , عن الحسن في قوله : { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : كانوا إذا أرادوا أمرا أو سفرا , يعمدون إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب : أؤمرني , وعلى الآخر : انهني , ويتركون الآخر محللا بينهما ليس عليه شيء . ثم يجيلونها , فإن خرج الذي عليه " أؤمرني " , مضوا لأمرهم , وإن خرج الذي عليه " انهني " كفوا , وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها . 8694 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا ابن عيينة , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { وأن تستقسموا بالأزلام } حجارة0 كانوا يكتبون عليها يسمونها القداح . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . 8695 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا يحيى بن آدم . عن زهير , عن إبراهيم بن مهاجر , عن مجاهد : { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : كعاب فارس التي يقمرون بها , وسهام العرب . * - حدثني أحمد بن حازم الغفاري , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا زهير , عن إبراهيم بن مهاجر , عن مجاهد : { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : سهام العرب وكعاب فارس والروم كانوا يتقامرون بها . 8696 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : كان الرجل إذا أراد أن يخرج مسافرا , كتب في قداح : هذا يأمرني بالمكث , وهذا يأمرني بالخروج , وجعل معها منيحا , شيء لم يكتب فيه شيئا , ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج , فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث , وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج , وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القدحين . * - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { وأن تستقسموا بالأزلام } وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجا , أخذ قدحا فقال : هذا يأمر بالخروج , فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرا ; ويأخذ قدحا آخر فيقول : هذا يأمر بالمكوث , فليس يصيب في سفره خيرا ; والمنيح بينهما . فنهى الله عن ذلك , وقدم فيه . 8697 - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : كانوا يستقسمون بها في الأمور . 8698 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : الأزلام قداح لهم كان أحدهم إذا أراد شيئا من تلك الأمور كتب في تلك القداح ما أراد , فيضرب بها , فأي قدح خرج وإن كان أبغض تلك , ارتكبه وعمل به . 8699 - حدثني محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : الأزلام : قداح كانت في الجاهلية عند الكهنة , فإذا أراد الرجل أن يسافر أو يتزوج أو يحدث أمرا , أتى الكاهن , فأعطاه شيئا , فضرب له بها , فإن خرج منها شيء يعجبه أمره ففعل , وإن خرج منها شيء يكرهه نهاه فانتهى , كما ضرب عبد المطلب على زمزم وعلى عبد الله والإبل . 8700 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن عبد الله بن كثير , قال : سمعنا أن أهل الجاهلية كانوا يضربون بالقداح في الظعن والإقامة أو الشيء يريدونه , فيخرج سهم الظعن فيظعنون , والإقامة فيقيمون . وقال ابن إسحاق في الأزلام ما : 8701 - حدثني به ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة , وكانت على بئر في جوف الكعبة , وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة , وكانت عند هبل سبعة أقداح , كل قدح منها فيه كتاب : قدح فيه " العقل " إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله وقدح فيه : " نعم " للأمر إذا أرادوا يضرب به , فإن خرج قدح " نعم " عملوا به ; وقدح فيه لا , فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح , فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر . وقدح فيه : " منكم " . وقدح فيه : " ملصق " . وقدح فيه : " من غيركم " . وقدح فيه : المياه , إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح , فحيثما خرج عملوا به . وكانوا إذا أرادوا أن يجتبوا غلاما , أو أن ينكحوا منكحا , أو أن يدفنوا ميتا , ويشكوا في نسب واحد منهم , ذهبوا به إلى هبل , وبمائة درهم وبجزور , فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها , ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون , ثم قالوا : يا إلهنا , هذا فلان ابن فلان , قد أردنا به كذا وكذا , فأخرج الحق فيه ! ثم يقولون لصاحب القداح : اضرب , فيضرب , فإن خرج عليه " منكم " كان وسيطا , وإن خرج عليه : " من غيركم " , كان حليفا , وإن خرج : " ملصق " , كان على منزلته منهم , لا نسب له ولا حلف ; وإن خرج فيه شيء سوى هذا مما يعملون به " نعم " عملوا به ; وإن خرج : " لا " , أخروه عامهم ذلك , حتى يأتوا به مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح . 8702 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله : { وأن تستقسموا بالأزلام } يعني : القدح , كانوا يستقسمون بها في الأمور .ذلكم فسق
القول في تأويل قوله تعالى : { ذلكم فسق } يعني جل ثناؤه بقوله : { ذلكم } هذه الأمور التي ذكرها , وذلك أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرم أكله . والاستقسام بالأزلام . { فسق } يعني : خروج عن أمر الله وطاعته إلى ما نهى عنه وزجر , وإلى معصيته . كما : 8703 - حدثني المثنى : قال : ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : { ذلكم فسق } يعني : من أكل من ذلك كله , فهو فسق .اليوم يئس الذين كفروا من دينكم
القول في تأويل قوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } . يعني بقوله جل ثناؤه : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود أيها المؤمنون من دينكم , يقول : من دينكم أن تتركوه , فترتدوا عنه راجعين إلى الشرك . كما : 8704 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } يعني : أن ترجعوا إلى دينهم أبدا . 8705 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } قال : أظن يئسوا أن ترجعوا عن دينكم . فإن قال قائل : وأي يوم هذا اليوم الذي أخبر الله أن الذين كفروا يئسوا فيه من دين المؤمنين ؟ قيل : ذكر أن ذلك كان يوم عرفة , عام حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع , وذلك بعد دخول العرب في الإسلام . ذكر من قال ذلك : 8706 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال مجاهد : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } اليوم أكملت لكم دينكم ; هذا حين فعلت . قال ابن جريج : وقال آخرون : ذلك يوم عرفة في يوم جمعة لما نظر النبي صلى الله عليه وسلم , فلم ير إلا موحدا ولم ير مشركا ; حمد الله , فنزل عليه جبريل عليه السلام : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } أن يعودوا كما كانوا . 8707 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } قال : هذا يوم عرفة .فلا تخشوهم واخشون
القول في تأويل قوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشون } يعني بذلك : فلا تخشوا أيها المؤمنون هؤلاء الذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار , ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم فيقهروكم ويردوكم عن دينكم , { واخشون } يقول : ولكن خافون إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي وتعديتم حدودي , أن أحل بكم عقابي وأنزل بكم عذابي . كما : 8708 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج : { فلا تخشوهم واخشون } فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم .اليوم أكملت لكم دينكم
القول في تأويل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك , فقال بعضهم : يعني جل ثناؤه بقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضي عليكم وحدودي , وأمري إياكم ونهيي , وحلالي وحرامي , وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي , وتبياني ما بينت لكم منه بوحيي على لسان رسولي , والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم , فأتممت لكم جميع ذلك , فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم . قالوا : وكان ذلك في يوم عرفة , عام حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع . وقالوا : لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض ولا تحليل شيء ولا تحريمه , وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة . ذكر من قال ذلك : 8709 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } وهو الإسلام , قال : أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا , وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدا , وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا . 8710 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } هذا نزل يوم عرفة , فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام , ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات , فقالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة , فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل صلى الله عليه وسلم على الراحلة , فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن , فبركت , فأتيته فسجيت عليه برداء كان علي 8711 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة , قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } 8712 - حدثنا سفيان , قال : ثنا ابن فضيل , عن هارون بن عنترة , عن أبيه , قال : لما نزلت : { اليوم أكملت لكم دينكم } وذلك يوم الحج الأكبر , بكى عمر , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك " ؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا , فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص , فقال : " صدقت " * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أحمد بن بشير , عن هارون بن أبي وكيع , عن أبيه , فذكر نحو ذلك . وقال آخرون : معنى ذلك : { اليوم أكملت لكم دينكم } حجكم , فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه أنتم أيها المؤمنون دون المشركين لا يخالطكم في حجكم مشرك . ذكر من قال ذلك : 8713 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا يحيى بن أبي عتبة , عن أبيه , عن الحكم : { اليوم أكملت لكم دينكم } قال : أكمل لهم دينهم أن حجوا ولم يحج معهم مشرك . 8714 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة : { اليوم أكملت لكم دينكم } قال : أخلص الله لهم دينهم , ونفى المشركين عن البيت . 8715 - حدثنا أحمد بن حازم , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا قيس , عن أبي حصين , عن سعيد بن جبير : { اليوم أكملت لكم دينكم } قال : تمام الحج , ونفي المشركين عن البيت . وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به , أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم , بإفرادهم بالبلد الحرام , وإجلائه عنه المشركين , حتى حجه المسلمون دونهم , لا يخالطونهم المشركون . فأما الفرائض والأحكام , فإنه قد اختلف فيها , هل كانت أكملت ذلك اليوم أم لا ؟ فروي عن ابن عباس والسدي ما ذكرنا عنهما قبل . وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض , بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا . فإذ كان ذلك كذلك , وكان قوله : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } آخرها نزولا وكان ذلك من الأحكام والفرائض , كان معلوما أن معنى قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } على خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله , أعني : كمال العبادات والأحكام والفرائض . فإن قال قائل : فما جعل قول من قال : قد نزل بعد ذلك فرض أولى من قول من قال : لم ينزل ؟ قيل لأن الذي قال لم ينزل , مخبر أنه لا يعلم نزول فرض , والنفي لا يكون شهادة , والشهادة قول من قال : نزل , وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقا .وأتممت عليكم نعمتي
القول في تأويل قوله تعالى : { وأتممت عليكم نعمتي } يعني جل ثناؤه بذلك : وأتممت نعمتي أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوي وعدوكم من المشركين , ونفيي إياهم عن بلادكم , وقطعي طمعهم من رجوعكم , وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : * - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قال : كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا , فلما نزلت براءة , فنفى المشركين عن البيت , وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين , فكأن ذلك من تمام النعمة : { وأتممت عليكم نعمتي } . 8716 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } الآية , ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يوم جمعة , حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام , وأخلص للمسلمين حجهم 8717 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا ابن إدريس , قال : ثنا داود , عن الشعبي , قال : . نزلت هذه الآية بعرفات , حيث هدم منار الجاهلية , واضمحل الشرك , ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك . * - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا عبد الأعلى , قال : ثنا داود , عن عامر في هذه الآية : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات , وقد أطاف به الناس , وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم , واضمحل الشرك , ولم يطف حول البيت عريان , فأنزل الله : { اليوم أكملت لكم دينكم } * - حدثني يعقوب , قال . ثنا ابن علية , عن داود , عن الشعبي , بنحوه .ورضيت لكم الإسلام دينا
القول في تأويل قوله تعالى : { ورضيت لكم الإسلام دينا } يعني بذلك جل ثناؤه : ورضيت لكم الاستسلام لأمري والانقياد لطاعتي , على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه { دينا } يعني بذلك : طاعة منكم لي . فإن قال قائل : أوما كان الله راضيا الإسلام لعباده , إلا يوم أنزل هذه الآية ؟ قيل : لم يزل الله راضيا لخلقه الإسلام دينا , ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرف نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات ومراتبه درجة بعد درجة ومرتبة بعد مرتبة وحالا بعد حال , حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه , ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية : { ورضيت لكم الإسلام دينا } بالصفة التي هو بها اليوم , والحال التي أنتم عليها اليوم منه { دينا } فالزموه ولا تفارقوه . وكان قتادة يقول في ذلك ما : 8718 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال . ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة , فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله , ويعدهم في الخير حتى يجيء الإسلام . فيقول : رب أنت السلام وأنا الإسلام , فيقول : إياك اليوم أقبل , وبك اليوم أجزي . وأحسب أن قتادة وجه معنى الإيمان بهذا الخبر إلى معنى التصديق والإقرار باللسان ; لأن ذلك معنى الإيمان عند العرب , ووجه معنى الإسلام إلى استسلام القلب وخضوعه لله بالتوحيد , وانقياد الجسد له بالطاعة فيما أمر ونهى , فلذلك قيل للإسلام : إياك اليوم أقبل , وبك اليوم أجزي . ذكر من قال : نزلت هذه الآية بعرفة في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه وسلم : 8719 - حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع , قالا : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدا . فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت , وأين نزلت , وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت ; أنزلت يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة - قال سفيان : وأشك , كان يوم الجمعة أم لا - { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } * - حدثنا أبو كريب وابن وكيع . قالا : ثنا ابن إدريس , قال : سمعت أبي , عن قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , قال : قال يهودي لعمر : لو علمنا معشر اليهود حين نزلت هذه الآية : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } لو نعلم ذلك اليوم اتخذنا ذلك اليوم عيدا . فقال عمر : قد علمت اليوم الذي نزلت فيه والساعة , وأين رسول الله أو حين نزلت ; نزلت ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات . لفظ الحديث لأبي كريب , وحديث ابن وكيع نحوه * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا جعفر بن عون , عن أبي العميس , عن قيس بن مسلم , عن طارق , عن عمر , نحوه . 8720 - حدثنا ابن وكيع , قال . ثنا أبي , عن حماد بن سلمة , عن عمار مولى بني هاشم , قال : قرأ ابن عباس : { اليوم أكملت لكم دينكم } وعنده رجل من أهل الكتاب , فقال : لو علمنا أي يوم نزلت هذه الآية لاتخذناه عيدا , فقال ابن عباس : فإنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا قبيصة , قال : ثنا حماد بن سلمة , عن عمار : أن ابن عباس قرأ : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا , فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد , ويوم جمعة . * - حدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج بن المنهال , قال : ثنا حماد , عن عمار بن أبي عمار , عن ابن عباس نحوه . * - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا ابن علية , قال : ثنا رجاء بن أبي سلمة , قال : أخبرنا عبادة بن نسي , قال : ثنا أميرنا إسحاق , قال أبو جعفر إسحاق - هو ابن خرشة - عن قبيصة قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه , فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : { اليوم أكملت لكم دينكم } فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه , والمكان الذي أنزلت فيه , يوم جمعة , ويوم عرفة , وكلاهما بحمد الله لنا عيد . * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا حكام , عن عنبسة , عن عيسى بن حارثة الأنصاري , قال : كنا جلوسا في الديوان , فقال لنا نصراني : يا أهل الإسلام : لقد نزلت عليكم آية لو نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيدا ما بقي منا اثنان : { اليوم أكملت لكم دينكم } فلم يجبه أحد منا , فلقيت محمد بن كعب القرظي , فسألته عن ذلك , فقال : ألا رددتم عليه ؟ فقال : قال عمر بن الخطاب : أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة , فلا يزال ذلك اليوم عيدا للمسلمين ما بقي منهم أحد 8721 - حدثنا حميد بن مسعدة , قال : ثنا بشر بن المفضل , قال : ثنا داود , عن عامر , قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } عشية عرفة وهو في الموقف 8722 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا عبد الوهاب , قال : ثنا داود , قال : قلت لعامر : إن اليهود تقول : كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه ؟ فقال عامر : أوما حفظته ؟ قلت له : فأي يوم ؟ قال : يوم عرفة , أنزل الله في يوم عرفة . 8723 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة , قال : بلغنا أنها نزلت يوم عرفة , ووافق يوم الجمعة . 8724 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن حبيب , عن ابن أبي نجيح , عن عكرمة : أن عمر بن الخطاب , قال : نزلت سورة المائدة يوم عرفة , ووافق يوم الجمعة . 8725 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا ابن عيينة , عن ليث , عن شهر بن حوشب , قال : نزلت سورة المائدة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة على راحلته , فتنوخت لأن يدق ذراعها 8726 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن ليث , عن شهر بن حوشب , عن أسماء بنت يزيد , قالت : نزلت سورة المائدة جميعا وأنا آخذة بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء ; قالت : فكادت من ثقلها أن يدق عضد الناقة 8727 - حدثني أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني , قال : ثنا هشام بن عمار , قال : ثنا ابن عياش , قال : ثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : { اليوم أكملت لكم دينكم } حتى ختمها , فقال : نزلت في يوم عرفة , في يوم جمعة . وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية , أعني قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } يوم الاثنين , وقالوا : أنزلت سورة المائدة بالمدينة . ذكر من قال ذلك : 8728 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : أخبرنا محمد بن حرب , قال : ثنا ابن لهيعة , عن خالد بن أبي عمران , عن حنش , عن ابن عباس : ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين , وخرج من مكة يوم الاثنين , ودخل المدينة يوم الاثنين , وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين { اليوم أكملت لكم دينكم } ورفع الذكر يوم الاثنين 8729 - حدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج بن المنهال , قال : ثنا همام , عن قتادة , قال : المائدة مدنية . وقال آخرون : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في حجة الوداع . ذكر من قال ذلك : 8730 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس , قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسير في حجة الوداع , وهو راكب راحلته , فبركت به راحلته من ثقلها وقال آخرون : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس , وإنما معناه اليوم الذي أعلمه أنا دون خلقي , أكملت لكم دينكم . ذكر من قال ذلك : 8731 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { اليوم أكملت لكم دينكم } يقول : ليس بيوم معلوم يعلمه الناس . وأولى الأقوال في وقت نزول الآية , القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة , لصحة سنده ووهي أسانيد غيره .فمن اضطر في مخمصة
القول في تأويل قوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة } يعني تعالى ذكره بقول : { فمن اضطر } فمن أصابه ضر في مخمصة , يعني في مجاعة , وهي مفعلة مثل المجبنة والمبخلة والمنجبة , من خمص البطن , وهو اضطماره , وأظنه هو في هذا الموضع معني به اضطماره من الجوع وشدة السغب , وقد يكون في غير هذا الموضع اضطمارا من غير الجوع والسغب , ولكن من خلقة , كما قال نابغة بني ذبيان في صفة امرأة بخمص البطن : والبطن ذو عكن خميص لين والنحر تنفجه بثدي مقعد فمعلوم أنه لم يرد صفتها بقوله خميص بالهزال والضر من الجوع , ولكنه أراد وصفها بلطافة طي ما على الأوراك والأفخاذ من جسدها ; لأن ذلك مما يحمد من النساء . ولكن الذي في معنى الوصف بالاضطمار والهزال من الضر , من ذلك , قول أعشى بني ثعلبة : تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا يعني بذلك : يبتن مضطمرات البطون من الجوع والسغب والضر , فمن هذا المعنى قوله : في مخمصة . وكان بعض نحويي البصرة يقول : المخمصة : المصدر من خمصه الجوع . وكان غيره من أهل العربية يرى أنها اسم للمصدر وليست بمصدر ; ولذلك تقع المفعلة اسما في المصادر للتأنيث والتذكير . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 8732 حدثني المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن عباس : { فمن اضطر في مخمصة } يعني في مجاعة . 8733 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { فمن اضطر في مخمصة } أي في مجاعة . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر , عن قتادة , مثله . 8734 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن ا
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)

يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة وهي : ما مات من الحيوان حتف أنفه ، من غير ذكاة ولا اصطياد ، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة ، لما فيها من الدم المحتقن ، فهي ضارة للدين وللبدن فلهذا حرمها الله ، عز وجل ، ويستثني من الميتة السمك ، فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها ، لما رواه مالك في موطئه والشافعي وأحمد في مسنديهما وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر ، فقال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " .
وهكذا الجراد ، لما سيأتي من الحديث ، وقوله : ( والدم ) يعني [ به ] المسفوح ; لقوله : ( أو دما مسفوحا ) [ الأنعام : 145 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جبير .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب المذحجي ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو - يعني ابن قيس - عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : أنه سئل عن الطحال فقال : كلوه . فقالوا : إنه دم . فقال : إنما حرم عليكم الدم المسفوح .
وكذا رواه حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم عن عائشة ، قالت : إنما نهى عن الدم السافح .
وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال " .
وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف . قال الحافظ البيهقي : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا .
قلت : وثلاثتهم ضعفاء ، ولكن بعضهم أصلح من بعض . وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه . قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا بشير بن سريج ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة - وهو صدي بن عجلان - قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم ، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا بقصعة من دم ، فاجتمعوا عليها يأكلونها ، قالوا : هلم يا صدي فكل . قال : قلت : ويحكم! إنما أتيتكم من عند محرم هذا عليكم ، وأنزل الله عليه ، قالوا : وما ذاك؟ قال : فتلوت عليهم هذه الآية : ( حرمت عليكم الميتة والدم [ ولحم الخنزير ] ) الآية .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناد مثله ، وزاد بعد هذا السياق : قال : فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ، ويأبون علي ، فقلت لهم : ويحكم ، اسقوني شربة من ماء ، فإني شديد العطش - قال : وعلي عباءتي - فقالوا : لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا . قال : فاغتممت وضربت برأسي في العباء ، ونمت على الرمضاء في حر شديد ، قال : فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج لم ير الناس أحسن منه ، وفيه شراب لم ير الناس [ شرابا ] ألذ منه ، فأمكنني منها فشربتها ، فحيث فرغت من شرابي استيقظت ، فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة .
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن علي بن حمشاذ عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري ، حدثنا صدقة بن هرمز عن أبي غالب ، عن أبي أمامة ، قد ذكر نحوه وزاد بعد قوله : " بعد تيك الشربة " : فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم ، فلم تمجعوه بمذقة ، فأتوني بمذقة ، فقلت : لا حاجة لي فيها ، إن الله أطعمني وسقاني ، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم .
وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق :
وإياك والميتات لا تقربنها ولا تأخذن عظما حديدا فتفصدا
أي : لا تفعل كما يفعل الجاهلية ، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئا محددا من عظم ونحوه ، فيفصد به بعيره أو حيوانا من أي صنف كان ، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه ; ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة ، ثم قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تأتينه ولا تعبد الأصنام والله فاعبدا
وقوله : ( ولحم الخنزير ) يعني : إنسيه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله : ( فإنه رجس أو فسقا ) يعنون قوله تعالى : ( إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس ) [ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير ، حتى يعم جميع أجزائه ، وهذا بعيد من حيث اللغة ، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه ، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب ، ومن العرف المطرد ، وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه " فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به ، وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " . فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنها تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس؟ فقال : " لا هو حرام " .
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان : أنه قال لهرقل ملك الروم : " نهانا عن الميتة والدم " .
وقوله : ( وما أهل لغير الله به ) أي : ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام ; لأن الله أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم ، فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك ، من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع . وإنما اختلف العلماء في المتروك التسمية عليه ، إما عمدا أو نسيانا ، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : نزل آدم بتحريم أربع : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وإن هذه الأربعة الأشياء لم تحل قط ، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض ، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم ، فلما بعث الله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم [ عليه السلام ] وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه . وهذا أثر غريب .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا ربعي بن عبد الله قال : سمعت الجارود بن أبي سبرة - قال : هو جدي - قال : كان رجل من بني رياح يقال له : ابن وثيل ، وكان شاعرا ، نافر - غالبا - أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة ، على أن يعقر هذا مائة من إبله ، وهذا مائة من إبله ، إذا وردت الماء ، فلما وردت الماء قاما إليها بالسيوف ، فجعلا يكسفان عراقيبها . قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم - قال : وعلي بالكوفة - قال : فخرج علي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي : يا أيها الناس ، لا تأكلوا من لحومها فإنما أهل بها لغير الله .
هذا أثر غريب ، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عوف عن أبي ريحانة ، عن ابن عباس قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب .
ثم قال أبو داود : محمد بن جعفر - هو غندر - أوقفه على ابن عباس . تفرد به أبو داود
وقال أبو داود أيضا : حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء ، حدثنا أبي ، حدثنا جرير بن حازم ، عن الزبير بن خريت قال : سمعت عكرمة يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل .
ثم قال أبو داود : أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس . تفرد به أيضا .
وقوله : ( والمنخنقة ) وهي التي تموت بالخنق إما قصدا أو اتفاقا ، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به ، فهي حرام .
وأما ) الموقوذة ) فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت ، كما قال ابن عباس وغير واحد : هي التي تضرب بالخشب حتى توقذ بها فتموت .
وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها .
وفي الصحيح : أن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب . قال : " إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله " .
ففرق بين ما أصابه بالسهم ، أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله ، وما أصابه بعرضه فجعله وقيذا فلم يحله ، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا ، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه ، على قولين ، هما قولان للشافعي رحمه الله :
أحدهما : [ أنه ] لا يحل ، كما في السهم ، والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ .
والثاني : أنه يحل ; لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ، ولم يستفصل ، فدل على إباحة ما ذكرناه ; لأنه قد دخل في العموم . وقد قررت لهذه المسألة فصلا فليكتب هاهنا . .
فصل :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى ، فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه ، أو صدمه ، هل يحل أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : أن ذلك حلال ; لعموم قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) [ المائدة : 4 ] وكذا عمومات حديث عدي بن حاتم . وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي رحمه الله ، وصححه بعض المتأخرين [ منهم ] كالنووي والرافعي .
قلت : وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر ، فإنه قال في كلا الموضعين : " يحتمل معنيين " . ثم وجه كلا منهما ، فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه ، اللهم إلا أنه في بحثه حكايته للقول بالحل رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به . والقول بذلك - أعني الحل - نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة ، من رواية الحسن بن زياد ، عنه ، ولم يذكر غير ذلك ، وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر . وهذا غريب جدا ، وليس يوجد ذلك مصرحا به عنهم ، إلا أنه من تصرفه ، رحمه الله ورضي عنه .
والقول الثاني : أن ذلك لا يحل ، وهو أحد القولين عن الشافعي رحمه الله ، واختاره المزني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا ، والله أعلم . ورواه أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة ، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل ، رضي الله عنه وهذا القول أشبه بالصواب ، والله أعلم ، لأنه أجرى عن القواعد الأصولية ، وأمس بالأصول الشرعية . واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خديج ، قلت : يا رسول الله ، إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ قال : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " . الحديث بتمامه ، وهو في الصحيحين .
وهذا وإن كان واردا على سبب خاص ، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع ، كما سئل عليه السلام عن البتع - وهو نبيذ العسل - فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " أفيقول فقيه : إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيء من الذكاة ، فقال لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسئول عنه وغيره ; لأنه عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم .
إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو غمه بثقله ، ليس مما أنهر دمه ، فلا يحل لمفهوم هذا الحديث . فإن قيل : هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء ; لأنهم إنما سألوا عن الآلة التي يذكى بها ، ولم يسألوا عن الشيء الذي يذكى ; ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر ، حيث قال : " ليس السن والظفر ، وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة " . والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه ، وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسئول عنه هو الآلة ، فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم .
فالجواب عن هذا : بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا ، حيث يقول : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " . ولم يقل : " فاذبحوا به " فهذا يؤخذ منه الحكمان معا ، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها ، وحكم المذكى ، وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرا . هذا مسلك .
والمسلك الثاني : طريقة المزني وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعرضه فلا تأكل ، وإن خزق فكل . والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما قيد هناك من الخزق ; لأنهما اشتركا في الموجب ، وهو الصيد ، فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب ، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل ، بل هذا أولى . وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي ، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة ، فلا بد لهم من جواب عن هذا . وله أن يقول : هذا قتله الكلب بثقله ، فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعرضه والجامع أن كلا منهما آلة للصيد ، وقد مات بثقله فيهما . ولا يعارض ذلك بعموم الآية ; لأن القياس مقدم على العموم ، كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور ، وهذا مسلك حسن أيضا .
مسلك آخر ، وهو : أن قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) [ المائدة : 4 ] عام فيما قتلن بجرح أو غيره ، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو : إما أن يكون نطيحا أو في حكمه ، أو منخنقا أو في حكمه ، وأيا ما كان فيجب تقديم [ حكم ] هذه الآية على تلك لوجوه :
أحدها : أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد ، حيث يقول لعدي بن حاتم : " وإن أصابه بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله " . ولم نعلم أحدا من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الآية ، فقال : إن الوقيذ معتبر حالة الصيد ، والنطيح ليس معتبرا ، فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به ، وهو محظور عند كثير من العلماء .
الثاني : أن تلك الآية : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) [ المائدة : 4 ] ليست على عمومها بالإجماع ، بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول ، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق ، والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ . .
المسلك الآخر : أن هذا الصيد - والحالة هذه - في حكم الميتة سواء ; لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات ، فلا تحل قياسا على الميتة .
المسلك الآخر : أن آية التحريم ، أعني قوله : ( حرمت عليكم الميتة ) إلى آخرها محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص ، وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة ، أعني قوله : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات [ وما علمتم من الجوارح مكلبين ] ) [ المائدة : 4 ] فينبغي ألا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك ، وشاهد ذلك قصة السهم ، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية ، وهو ما إذا خزفه المعراض فيكون حلالا ; لأنه من الطيبات ، وما دخل في حكم تلك الآية ، آية التحريم ، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل ; لأنه وقيذ ، فيكون أحد أفراد آية التحريم ، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء ، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل في حكم آية التحليل . وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في حكمه فلا يكون حلالا .
فإن قيل : فلم لا فصل في حكم الكلب ، فقال ما ذكرتم : إن جرحه فهو حلال ، وإن لم يجرحه فهو حرام ؟
فالجواب : أن ذلك نادر ; لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معا ، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر ، وكذا قتله إياه بثقله ، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره ، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة . وأما السهم والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي راميه أو للهواء أو نحو ذلك ، بل خطؤه أكثر من إصابته ; فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلا ، والله أعلم ; ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ، ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد ، فقال : " إن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين فقالوا : لا يحل ما أكل منه الكلب ، حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس . وبه قال الحسن والشعبي والنخعي . وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه . وروى ابن جرير في تفسيره عن علي وسعد وسلمان وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس : أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب ، حتى قال سعد وسلمان وأبو هريرة وابن عمر ، وغيرهم : يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة . وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم ، وأومأ في الجديد إلى قولين ، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه .
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي ، عن أبي ثعلبة الخشني ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك " .
ورواه أيضا النسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ; أن أعرابيا يقال له : أبو ثعلبة قال : يا رسول الله ، فذكر نحوه .
وقال محمد بن جرير في تفسيره : حدثنا عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا عبد العزيز بن موسى - هو اللاحوني - حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي - عن أبي إياس - وهو معاوية بن قرة - عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه ، فليأكل ما بقي .
ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان موقوفا وأما الجمهور فقدموا حديث " عدي " على ذلك ، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره . وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه الفصل ولم يجئ ، فأكل منه لجوعه ونحوه ، فإنه لا بأس بذلك ; لأنه - والحالة هذه ; لا يخشى أنه أمسك على نفسه ، بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة ، فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه ، والله أعلم .
فأما الجوارح من الطير فنص الشافعي على أنها كالكلاب ، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور ، ولا يحرم عند الآخرين . واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد قالوا : لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه ، وأيضا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد ، فيعفى عن ذلك ، وأيضا فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير . وقال الشيخ أبو علي في " الإفصاح " : إذا قلنا : يحرم ما أكل منه الكلب ، ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان ، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب ، لنص الشافعي رحمه الله على التسوية بينهما ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما ) المتردية ) فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك ، فلا تحل .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( المتردية ) التي تسقط من جبل . وقال قتادة : هي التي تتردى في بئر .
وقال السدي : هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر .
وأما ) النطيحة ) فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها ، فهي حرام ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها .
والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة ، أي : منطوحة . وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التأنيث ، فيقولون : كف خضيب ، وعين كحيل ، ولا يقولون : كف خضيبة ، ولا عين كحيلة : وأما هذه فقال بعض النحاة : إنما استعمل فيها تاء التأنيث ; لأنها أجريت مجرى الأسماء ، كما في قولهم : طريقة طويلة . وقال بعضهم : إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة ، بخلاف : عين كحيل ، وكف خضيب ; لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام .
وقوله : ( وما أكل السبع ) أي : ما عدا عليها أسد ، أو فهد ، أو نمر ، أو ذئب ، أو كلب ، فأكل بعضها فماتت بذلك ، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدماء ولو من مذبحها ، فلا تحل بالإجماع . وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرم الله ذلك على المؤمنين .
وقوله : ( إلا ما ذكيتم ) عائد على ما يمكن عوده عليه ، مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة ، وفيه حياة مستقرة ، وذلك إنما يعود على قوله : ( والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع )
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( إلا ما ذكيتم ) يقول : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح ، فكلوه ، فهو ذكي . وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن البصري والسدي .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن غياث حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : ( وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ) قال : إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها ، أو طرفت بعينها فكل .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا هشيم وعباد قالا : حدثنا حجاج عن حصين عن الشعبي عن الحارث عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها .
وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد : أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح ، فهي حلال . وهذا مذهب جمهور الفقهاء ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل . وقال ابن وهب : سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها ؟ فقال مالك : لا أرى أن تذكي أي شيء يذكى منها .
وقال أشهب : سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش ، فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت ، فيؤكل ؟ قال إن كان قد بلغ السحرة ، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه ، فلا أرى بذلك بأسا . قيل له : وثب عليه فدق ظهره ؟ فقال : لا يعجبني ، هذا لا يعيش منه . قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء ؟ فقال : إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل .
هذا مذهب مالك رحمه الله ، وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها ، فيحتاج إلى دليل مخصص للآية ، والله أعلم .
وفي الصحيحين : عن رافع بن خديج أنه قال : قلت : يا رسول الله ، إنا لاقو العدو غدا ، وليس معنا مدى ، أفنذبح بالقصب ؟ فقال : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ، ليس السن والظفر ، وسأحدثكم عن ذلك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة " .
وفي الحديث الذي رواه الدارقطني [ عن أبي هريرة‍ ] مرفوعا ، وفيه نظر ، وروي عن عمر موقوفا ، وهو أصح " ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق " .
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من رواية حماد بن سلمة ، عن أبي العشراء الدارمي ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق ؟ فقال : " لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك .
وهو حديث صحيح ولكنه محمول على ما [ لم ] يقدر على ذبحه في الحلق واللبة .
وقوله : ( وما ذبح على النصب ) قال مجاهد وابن جريج كانت النصب حجارة حول الكعبة قال ابن جريج : وهي ثلاثمائة وستون نصبا ، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها ، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب .
وكذا ذكره غير واحد ، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع ، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله . وينبغي أن يحمل هذا على هذا ; لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله .
وقوله تعالى : ( وأن تستقسموا بالأزلام ) أي : حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام : واحدها : زلم ، وقد تفتح الزاي ، فيقال : زلم ، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك ، وهي عبارة عن قداح ثلاثة ، على أحدها مكتوب : " أفعل " وعلى الآخر : " لا تفعل " والثالث " غفل ليس عليه شيء . ومن الناس من قال : مكتوب على الواحد : " أمرني ربي " وعلى الآخر : " نهاني ربي " . والثالث غفل ليس عليه شيء ، فإذا أجالها فطلع السهم الآمر فعله ، أو الناهي تركه ، وإن طلع الفارغ أعاد [ الاستقسام ]
والاستقسام : مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام . هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا الحجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء عن ابن عباس : ( وأن تستقسموا بالأزلام ) قال : والأزلام : قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور .
وكذا روي عن مجاهد وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومقاتل بن حيان .
وقال ابن عباس : هي القداح كانوا يستقسمون بها الأمور . وذكر محمد بن إسحاق وغيره : أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له : هبل ، وكان داخل الكعبة ، منصوب على بئر فيها ، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه ، كان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه ، مما أشكل عليهم ، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه .
وثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها ، وفي أيديهما الأزلام ، فقال : " قاتلهم الله ، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا "
وفي الصحيح : أن سراقة بن مالك بن جعشم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين ، قال : فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم . قال : فعصيت الأزلام وأتبعتهم ، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة ، كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ، ثم أسلم بعد ذلك .
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن يزيد ، عن رقبة عن عبد الملك بن عمير ، عن رجاء بن حيوة ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا " .
وقال مجاهد في قوله : ( وأن تستقسموا بالأزلام ) قال : هي سهام العرب ، وكعاب فارس والروم كانوا يتقامرون بها .
وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار فيه نظر ، اللهم إلا أن يقال : إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة ، وفي القمار أخرى ، والله أعلم . فإن الله سبحانه [ وتعالى ] قد فرق بين هذه وبين القمار وهو الميسر ، فقال في آخر السورة : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [ في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم ] منتهون ) [ الآيتان : 90 ، 91 ] وهكذا قال هاهنا : ( وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق ) أي : تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك ، وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ، ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه ، كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن ، من طرق عن عبد الرحمن بن أبي الموالي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن ، ويقول : " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ; فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر - ويسميه باسمه - خيرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاقدره لي ويسره لي وبارك لي فيه ، اللهم إن كنت تعلمه شرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاصرفني عنه ، واصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به " . لفظ أحمد .
وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي .
قوله : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : يئسوا أن يراجعوا دينهم . .
وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان . وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن بالتحريش بينهم " .
ويحتمل أن يكون المراد : أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين ، بما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله ; ولهذا قال تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ، ولا يخافوا أحدا إلا الله ، فقال : ( فلا تخشوهم واخشون ) أي : لا تخافوا منهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم ، وأشف صدوركم منهم ، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة .
وقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) هذه أكبر نعم الله عز وجل ، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم ، صلوات الله وسلامه عليه ; ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه ، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف ، كما قال تعالى : ( وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا ) [ الأنعام : 115 ] أي : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي ، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم ; ولهذا قال [ تعالى ] ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) أي : فارضوه أنتم لأنفسكم ، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام ، وأنزل به أشرف كتبه .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وهو الإسلام ، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا ، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا .
وقال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات . قالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة ، فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل ، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة ، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ، فبركت فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي .
قال ابن جريج وغير واحد : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما .
رواهما ابن جرير ، ثم قال : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا ابن فضيل ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : لما نزلت ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وذلك يوم الحج الأكبر ، بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك؟ " قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذ أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال : " صدقت " .
ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت : " إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا ، فطوبى للغرباء " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : وأي آية؟ قال قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزلت عشية عرفة في يوم جمعة .
ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به . ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن قيس بن مسلم ، به ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري ، عن قيس عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية ، لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا . فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت يوم عرفة ، وأنا والله بعرفة - قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا ( اليوم أكملت لكم دينكم ) الآية .
وشك سفيان رحمه الله ، إن كان في الرواية فهو تورع ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا؟ وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة ، فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله ، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به ، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها ، والله أعلم ، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا رجاء بن أبي سلمة ، أخبرنا عبادة بن نسي ، أخبرنا أميرنا إسحاق - قال أبو جعفر بن جرير : هو إسحاق بن خرشة - عن قبيصة - يعني ابن ذؤيب - قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية ، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه . فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه ، والمكان الذي أنزلت فيه ، نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا قبيصة حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار - هو مولى بني هاشم - أن ابن عباس قرأ : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا . فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ويوم جمعة .
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا يحيى بن الحماني ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن إسماعيل بن سلمان ، عن أبي عمر البزار ، عن ابن الحنفية ، عن علي [ رضي الله عنه ] قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قائم عشية عرفة : ( اليوم أكملت لكم دينكم )
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا ابن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس السكوني : أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) حتى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة .
وروى ابن مردويه ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عمر بن موسى بن وجيه ، عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال : نزلت هذه الآية : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على الموقف .
فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه والطبراني من طريق ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش بن عبد الله الصنعاني ، عن ابن عباس قال : ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، [ ونبئ يوم الاثنين ] وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ورفع الذكر يوم الاثنين ، فإنه أثر غريب وإسناده ضعيف .
وقد رواه الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش الصنعاني ، عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، واستنبئ يوم الاثنين ، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة يوم الاثنين ، وتوفي يوم الاثنين ، ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين .
هذا لفظ أحمد ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين فالله أعلم . ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم ، فاشتبه على الراوي ، والله أعلم .
[ و ] قال ابن جرير : وقد قيل : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ، ثم روي من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) يقول : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس قال : وقد قيل : إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع . ثم رواه من طريق أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس .
قلت : وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العيدي ، عن أبي سعيد الخدري ; أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعلي : " من كنت مولاه فعلي مولاه " . ثم رواه عن أبي هريرة وفيه : أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع .
ولا يصح هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية : أنها أنزلت يوم عرفة ، وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وسمرة بن جندب ، رضي الله عنهم ، وأرسله [ عامر ] الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري ، رحمه الله .
وقوله : ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) أي : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك ، فله تناول ذلك ، والله غفور رحيم له ; لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر ، وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له . وفي المسند وصحيح ابن حبان ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته " لفظ ابن حبان . وفي لفظ لأحمد من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " .
ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان ، وهو ما إذا خاف على مهجته التلف ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، و [ قد ] يكون مباحا بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أو له أن يشبع ، أو يشبع ويتزود؟ على أقوال ، كما هو مقرر في كتاب الأحكام . وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير ، أو صيدا وهو محرم : هل يتناول الميتة ، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء ، أو ذلك الطعام ويضمن بدله؟ على قولين ، هما قولان للشافعي رحمه الله . وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما ، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم ، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له ، وقد قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة ، فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال : " إذا لم تصطبحوا ، ولم تغتبقوا ، ولم تجتفئوا بقلا فشأنكم بها " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين . وكذا رواه ابن جرير ، عن عبد الأعلى بن واصل ، عن محمد بن القاسم الأسدي ، عن الأوزاعي به ، لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي عن حسان بن عطية ، عن مسلم بن يزيد ، عن أبي واقد ، به ومنهم من رواه عن الأوزاعي عن حسان عن مرثد - أو أبي مرثد - عن أبي واقد ، به ورواه ابن جرير عن هناد بن السري ، عن عيسى بن يونس ، عن حسان عن رجل قد سمي له ، فذكره . ورواه أيضا عن هناد عن ابن المبارك ، عن الأوزاعي عن حسان مرسلا .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن عون قال : وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه ، فكان فيه : " ويجزى من الاضطرار غبوق أو صبوح " .
حدثنا أبو كريب ، حدثنا هشيم عن الخصيب بن زيد التميمي حدثنا الحسن أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : [ إلى ] متى يحل [ لي ] الحرام؟ قال : فقال : " إلى متى يروى أهلك من اللبن ، أو تجيء ميرتهم " .
حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، حدثنا عمر بن عبد الله بن عروة ، عن جده عروة بن الزبير ، عن جدته ; أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه ، والذي أحل له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تحل لك الطيبات ، وتحرم عليك الخبائث إلا أن تفتقر إلى طعام لا يحل لك ، فتأكل منه حتى تستغني عنه " . فقال الرجل : وما فقري الذي يحل لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا كنت ترجو نتاجا ، فتبلغ بلحوم ماشيتك إلى نتاجك ، أو كنت ترجو غنى ، تطلبه ، فتبلغ من ذلك شيئا ، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه " . فقال الأعرابي : ما غناي الذي أدعه إذا وجدته؟ فقال [ النبي ] صلى الله عليه وسلم : " إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل ، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام ، وأما مالك فإنه ميسور كله ، ليس فيه حرام " .
ومعنى قوله : " ما لم تصطبحوا " : يعني به : الغداء ، " وما لم تغتبقوا " : يعني به : العشاء ، " أو تختفئوا بقلا فشأنكم بها " [ أي ] فكلوا منها . وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف - يعني قوله : " أو تختفئوا [ بقلا ] على أربعة أوجه : " تختفئوا " بالهمزة ، " وتحتفيوا " بتخفيف الياء والحاء ، " وتحتفوا " بتشديد [ الفاء ] وتحتفوا " بالحاء وبالتخفيف ، ويحتمل الهمز ، كذا ذكره في التفسير .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري ; أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
ما يحل لنا من الميتة؟ قال : " ما طعامكم؟ " قلنا : نغتبق ونصطبح . قال أبو نعيم : فسره لي عقبة : قدح غدوة ، وقدح عشية . قال : " ذاك - وأبي - الجوع " . وأحل لهم الميتة على هذه الحال .
تفرد به أبو داود وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم ، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم ، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق ، والله أعلم .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد حدثنا سماك عن جابر بن سمرة ، أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده ، فقال له رجل : إن ناقة لي ضلت ، فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها ولم يجد صاحبها ، فمرضت فقالت امرأته : انحرها ، فأبى ، فنفقت ، فقالت له امرأته : اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها فنأكله . فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فسأله ، فقال : " هل عندك غنى يغنيك ؟ " قال : لا . قال : " فكلوها " . قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك .
تفرد به وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع ، والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها ، والله أعلم .
وقوله : ( غير متجانف لإثم ) أي : [ غير ] متعاط لمعصية الله ، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر ، كما قال في سورة البقرة : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) [ الآية : 173 ] .
وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ; لأن الرخص لا تنال بالمعاصي ، والله أعلم .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features