يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

يخبر تعالى بما منَّ به على عباده, بأنه فرض عليهم الصيام, كما فرضه على الأمم السابقة, لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان. وفيه تنشيط لهذه الأمة, بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال, والمسارعة إلى صالح الخصال, وأنه ليس من الأمور الثقيلة, التي اختصيتم بها. ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى, لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه. فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها, التي تميل إليها نفسه, متقربا بذلك إلى الله, راجيا بتركها, ثوابه، فهذا من التقوى. ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى, فيترك ما تهوى نفسه, مع قدرته عليه, لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان, فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم, فبالصيام, يضعف نفوذه, وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب, تكثر طاعته, والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع, أوجب له ذلك, مواساة الفقراء المعدمين, وهذا من خصال التقوى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " يا أيها الذين آمنوا "، يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بهما وأقرُّوا. (14)
ويعني بقوله: " كتب عليكم الصيام "، فرض عليكم الصيام. (15)
و " الصيام " مصدر، من قول القائل: " صُمت عن كذا وكذا " -يعني: كففت عنه-" أصوم عَنه صوْمًا وصيامًا ". ومعنى " الصيام "، الكف عما أمر الله بالكف عنه. ومن ذلك قيل: " صَامت الخيل "، إذا كفت عن السير، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
خَـيْلٌ صِيَـامٌ, وخَـيْلٌ غَـيْرُ صَائِمَةٍ
تَحْـتَ العَجَـاجِ, وأُخْـرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا (16)
ومنه قول الله تعالى ذكره: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [سورة مريم: 26] يعني: صمتًا عن الكلام.
* * *
وقوله: " كما كُتب على الذين من قبلكم "، يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: " كما كُتبَ على الذين من قبلكم "، وفي المعنى الذي وَقعَ فيه التشبيه بين فرضِ صَومنا وصوم الذين من قبلنا.
فقال بعضهم: الذين أخبرنا الله عن الصوم الذي فرضه علينا، أنه كمثل الذي كان عليهم، هم النصارى. وقالوا: التشبيه الذي شَبه من أجله أحدَهما بصاحبه، هو اتفاقهما في الوقت والمقدار الذي هو لازم لنا اليوم فرضُه.
* ذكر من قال ذلك:
2720- حدثت عن يحيى بن زياد, عن محمد بن أبان [القرشي]، عن أبي أمية الطنافسي, عن الشعبي أنه قال: لو صُمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فُرض عليهم شهر رَمضان كما فرض علينا فحوَّلوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يومًا. (17) ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا. ثم لم يزل الآخر يُستن سنّة القرن الذي قبله حَتى صارت إلى خمسين. (18) فذلك قوله: " كتبَ عليكم الصيام كما كتبَ عَلى الذين من قَبلكم "، (19)
* * *
وقال آخرون: بل التشبيه إنما هو من أجل أنّ صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة. وذلك كان فرضُ الله جَل ثناؤه على المؤمنين في أول ما افترض عليهم الصوم. ووافق قائلو هذا القول القائلي القولَ الأوَّلَ: أن الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله: " كما كُتبَ على الذين من قبلكم "، النصارى.
* ذكر من قال ذلك:
2721- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم "، أما الذين من قبلنا: فالنصارى, كتب عليهم رمضان, وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم, ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان. فاشتد على النصارى صيامُ رمَضان, وجعل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صيامًا في الفصل بين الشتاء والصيف, وقالوا: نـزيد عشرين يومًا نكفّر بها ما صنعنا! فجعلوا صيامهم خمسين. فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى, حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب، ما كان، (20) فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماعَ إلى طُلوع الفجر.
2722- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم "، قال: كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة.
* * *
وقال آخرون: الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله: " كما كتب على الذين من قبلكم "، أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
2723- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم "، أهل الكتاب.
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك كان على الناس كلهم.
* ذكر من قال ذلك:
2724- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم "، قال: كتب شهرُ رمضان على الناس, كما كُتب على الذين من قبلهم. قال: وقد كتب الله على الناس قبل أن ينـزل رمضانُ صَوْمَ ثلاثة أيام من كل شهر.
2725- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم "، رمضانُ، كتبه الله على من كان قَبلهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى الآية:
يا أيها الذين آمنوا فُرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب," أيامًا معدودات ", وهي شهر رمضان كله. لأن مَن بعدَ إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا باتباع إبراهيم, وذلك أن الله جل ثناؤه كان جَعله للناس إمامًا, وقد أخبرنا الله عز وجل أن دينه كان الحنيفيةَ المسلمةَ, فأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بمثل الذي أمر به مَنْ قبله من الأنبياء.
وأما التشبيه، فإنما وقع على الوقت. وذلك أن مَنْ كان قبلنا إنما كان فرِض عليهم شهر رمضان، مثل الذي فُرض علينا سواء.
* * *
وأما تأويل قوله: " لعلكم تَتقون "، فإنه يعني به: لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه. (21) يقول: فرضت عليكم الصوم والكفّ عما تكونون بترك الكف عنه مفطرين، لتتقوا ما يُفطركم في وقت صومكم.
* * *
وبمثل الذي قُلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
2726- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: " لعلكم تتقون "، يقول: فتتقون من الطعامِ والشرابِ والنساءِ مثل ما اتقوا - يعني: مثل الذي اتقى النصارى قبلكم.
-----------------
الهوامش :
(14) انظر تفسير"الإيمان" فيما سلف 1 : 234-235 ، والمراجع في فهرس اللغة .
(15) انظر تفسير"كتب" فيما سلف في هذا الجزء 3 : 357 ، 364 ، 365 .
(16) ديوانه : 106 (زيادات) واللسان (علك) (صام) . ولكنه من قصيدته التي أولها :
بَـانَتْ سُـعَادُ وَأَمْسَـى حَبْلُهَـا انْجَذَمَا
وقد فسر"صامت الخليل" بأنها الإمساك عن السير ، وعبارة اللغة ، "صام الفرس" إذا قام في آريه لا يعتلف ، أو قام ساكنًا لا يطعم شيئًا . وقال أبو عبيدة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير ، فهو صائم . والعجاج : الغبار الذي يثور ، يعني أنها في المعركة لا تقر . وعلك الفرس لجامه : لاكه وحركه في فيه .
(17) في معاني القرآن للفراء : "فعدوه ثلاثين يومًا" .
(18) في معاني القرآن : "يستن سنة الأول حتى صارت . . " .
(19) الخبر : 2720- يحيى بن زياد أبو زكرياء : هو الفراء الإمام النحوي ، وهو ثقة معروف مترجم في التهذيب . وتاريخ بغداد 14 : 149-155 . وفي دواوين كثيرة .
محمد بن ابان : نقل أخي السيد محمود محمد شاكر أن هذا الخبر مذكور في كتاب"معاني القرآن" للفراء رواه عن"محمد بن أبان القرشي" . ومحمد بن أبان القرشي : هو"محمد بن أبان بن صالح بن عمير" ، مولى لقريش . ترجمه البخاري في الكبير 1/1/34 ، برقم 50 . وقال : "يتكلمون في حفظه" وذكر في الصغير مرتين ، ص : 188 ، 214 . وقال في أولاهما : "يتكلمون في حفظ محمد بن أبان ، لا يعتمد عليه" . وقال في الضعفاء ، ص : 30"ليس بالقوي" .
وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/199 ، برقم : 1119 ، وروى تضعيفه عن يحيى بن معين .
والراجح عندي أنه هو الذي روى عنه الفراء ، فإن ابن أبي حاتم ذكر من الرواة عن القرشي هذا - أبا داود الطيالسي ، وهو من طبقة الفراء .
وأما ترجمته في التهذيب 9 : 2-3 فإنها مختلة مضطربة ، خلط فيها بين هذا وبين"محمد بن أبان الواسطي" ، وشتان بينهما . والواسطي مترجم عند البخاري ، برقم : 48 ، وعند ابن ابي حاتم ، برقم : 1121 . وكلاهما لم يذكر فيه جرحًا .
"عن أبي أمية الطنافسي" : كذا ثبت هنا . وليس لأبي أمية الطنافسي ترجمة ولا ذكر ، فيما رأينا من المراجع . وإنما المترجم ابنه"عبيد بن أبي أمية" . وهو الذي يروي عن الشعبي . وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2/2/401 .
وهذا الخبر في معاني القرآن للفراء 1 : 111 ، ونقله السيوطي 1 : 176 ، ولم ينسبه لغير الطبري . ولكنه اختصره جدًا . +كأنه تلخيص لا نقل .
(20) سيأتي خبر أبي صرمة وعمر في الآثار رقم : 2935-2952 .
(21) انظرتفسير"لعل" بمعنى"لكي" 1 : 364 ، 365 / ثم 2 : 69 ، 161 ، واطلبه في الفهرس أيضًا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام ، وهو : الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل ، لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة . وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم ، فلهم فيه أسوة ، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك ، كما قال تعالى : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات ) [ المائدة : 48 ] ، ولهذا قال هاهنا : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ; ولهذا ثبت في الصحيحين : " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ثم بين مقدار الصوم ، وأنه ليس في كل يوم ، لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه ، بل في أيام معدودات . وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان ، كما سيأتي بيانه . وقد روي أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا ، من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم . وزاد : لم يزل هذا مشروعا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان .
وقال عباد بن منصور ، عن الحسن البصري : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات ) فقال : نعم ، والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتب علينا شهرا كاملا وأياما معدودات : عددا معلوما . وروي عن السدي ، نحوه .
وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني عبد الله بن الوليد ، عن أبي الربيع ، رجل من أهل المدينة ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم . . " في حديث طويل اختصر منه ذلك .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عمن حدثه عن ابن عمر ، قال أنزلت : ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم [ لعلكم تتقون ] ) كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم [ الله ] عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، وأبي العالية ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن أنس ، وعطاء الخراساني ، نحو ذلك .
وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : ( كما كتب على الذين من قبلكم ) يعني بذلك : أهل الكتاب . وروي عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني ، مثله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون
فيه مسائل :
الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم ، ولا خلاف فيه ، قال صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج رواه ابن عمر ، ومعناه في اللغة : الإمساك ، وترك التنقل من حال إلى حال ، ويقال للصمت صوم ; لأنه إمساك عن الكلام ، قال الله تعالى مخبرا عن مريم : إني نذرت للرحمن صوما أي سكوتا عن الكلام ، والصوم : ركود الريح ، وهو إمساكها عن الهبوب . وصامت الدابة على آريها : قامت وثبتت فلم تعتلف ، وصام النهار : اعتدل ، ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار ، ومنه قول النابغة :
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة ، كما قال [ امرؤ القيس ] :
كأن الثريا علقت في مصامها
أي هي ثابتة في مواضعها فلا تنتقل ، وقوله :
والبكرات شرهن الصائمة
يعني التي لا تدور .
وقال امرؤ القيس :
فدعها وسل الهم عنك بجسرة ذمول إذا صام النهار وهجرا
أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة ، وقال آخر :
حتى إذا صام النهار واعتدل وسال للشمس لعاب فنزل
وقال آخر :
نعاما بوجرة صفر الخدود ما تطعم النوم إلا صياما
أي قائمة ، والشعر في هذا المعنى كثير .
والصوم في الشرع : الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات ، لقوله عليه السلام : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه .
الثانية : فضل الصوم عظيم ، وثوابه جسيم ، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم ، وسيأتي بعضها ، ويكفيك الآن منها في فضل الصوم أن خصه الله بالإضافة إليه ، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مخبرا عن ربه : يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به الحديث ، وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات :
أحدهما : أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات .
الثاني : أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له ; فلذلك صار مختصا به ، وما سواه من العبادات ظاهر ، ربما فعله تصنعا ورياء ; فلهذا صار أخص بالصوم من غيره . وقيل غير هذا .
الثالثة : قوله تعالى : كما كتب الكاف في موضع نصب على النعت ، التقدير كتابا كما ، أو صوما كما ، أو على الحال من الصيام أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم ، وقال بعض النحاة : الكاف في موضع رفع نعتا للصيام ، إذ ليس تعريفه بمحض ، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة ; فلذلك جاز نعته ب كما إذ لا ينعت بها إلا النكرات ، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام ، وقد ضعف هذا القول . و " ما " في موضع خفض ، وصلتها : كتب على الذين من قبلكم ، والضمير في " كتب " يعود على " ما " ، واختلف أهل التأويل في موضع التشبيه وهي :
الرابعة : فقال الشعبي وقتادة وغيرهما : التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم ، فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا ، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل ، فصار صوم النصارى خمسين يوما ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع ، واختار هذا القول النحاس وقال : وهو الأشبه بما في الآية ، وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه الله لأزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه الله لأزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمن هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين ، وقال مجاهد : كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة ، وقيل : أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما ، قرنا بعد قرن ، حتى بلغ صومهم خمسين يوما ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي . قال النقاش : وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي .
قلت : ولهذا - والله أعلم - كره الآن صوم يوم الشك والستة من شوال بإثر يوم الفطر متصلا به . قال الشعبي : لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك ، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا ، فحولوه إلى الفصل الشمسي ; لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما ، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما ، ثم لم يزل الآخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى : كما كتب على الذين من قبلكم ، وقيل : التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم ، لا في الوقت والكيفية ، وقيل : التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام ، وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الإسلام ، ثم نسخه الله تعالى بقوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم على ما يأتي بيانه ، قاله السدي وأبو العالية والربيع وقال معاذ بن جبل وعطاء : التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان . المعنى : كتب عليكم الصيام أي في أول الإسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء كما كتب على الذين من قبلكم وهم اليهود - في قول ابن عباس - ثلاثة أيام ويوم عاشوراء ، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان ، وقال معاذ بن جبل : نسخ ذلك " بأيام معدودات " ثم نسخت الأيام برمضان .
الخامسة : قوله تعالى : لعلكم تتقون " لعل " ترج في حقهم ، كما تقدم . وتتقون قيل : معناه هنا تضعفون ، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة ، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي وهذا وجه مجازي حسن . وقيل : لتتقوا المعاصي ، وقيل : هو على العموم ، لأن الصيام كما قال عليه السلام : الصيام جنة ووجاء وسبب تقوى ; لأنه يميت الشهوات .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features