قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

هذه الآية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من ‏{‏الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏ إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم‏.‏ ولا يحرمون ما حرم الله، فلا يتبعون شرعه في تحريم المحرمات، ‏{‏وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ لا يدينون بالدين الصحيح، وإن زعموا أنهم على دين، فإنه دين غير الحق، لأنه إما بين دين مبدل، وهو الذي لم يشرعه اللّه أصلا، وإما دين منسوخ قد شرعه اللّه، ثم غيره بشريعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز‏.‏
فأمره بقتال هؤلاء وحث على ذلك، لأنهم يدعون إلى ما هم عليه، ويحصل الضرر الكثير منهم للناس، بسبب أنهم أهل كتاب‏.‏
وغيَّى ذلك القتال ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ‏}‏ أي‏:‏ المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم، وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم، بين أظهر المسلمين، يؤخذ منهم كل عام، كلٌّ على حسب حاله، من غني وفقير ومتوسط، كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره، من أمراء المؤمنين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏عَنْ يَدٍ‏}‏ أي‏:‏ حتى يبذلوها في حال ذلهم، وعدم اقتدارهم، ويعطونها بأيديهم، فلا يرسلون بها خادما ولا غيره، بل لا تقبل إلا من أيديهم، ‏{‏وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}
فإذا كانوا بهذه الحال، وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية، وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم، وحال الأمن من شرهم وفتنتهم، واستسلموا للشروط التي أجراها عليهم المسلمون مما ينفي عزهم وتكبرهم، ويوجب ذلهم وصغارهم، وجب على الإمام أو نائبه أن يعقدها لهم‏.‏
وإلا بأن لم يفوا، ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لم يجز إقرارهم بالجزية، بل يقاتلون حتى يسلموا‏.‏
واستدل بهذه الآية الجمهور الذين يقولون‏:‏ لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، لأن اللّه لم يذكر أخذ الجزية إلا منهم‏.‏
وأما غيرهم فلم يذكر إلا قتالهم حتى يسلموا، وألحق بأهل الكتاب في أخد الجزية وإقرارهم في ديار المسلمين، المجوس، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ الجزية من مجوس هجر، ثم أخذها أمير المؤمنين عمر من الفرس المجوس‏.‏
وقيل‏:‏ إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، لأن هذه الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين، والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم، فيكون هذا القيد إخبارا بالواقع، لا مفهوما له‏.‏
ويدل على هذا أن المجوس أخذت منهم الجزية وليسوا أهل كتاب، ولأنه قد تواتر عن المسلمين من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث‏:‏ إما الإسلام، أو أداء الجزية، أو السيف، من غير فرق بين كِتَابِيٍّ وغيره‏.‏
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

فقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ، ولا بما جاءوا به ، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه ، لا لأنه شرع الله ودينه ؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد ، صلوات الله عليه ، لأن جميع الأنبياء [ الأقدمين ] بشروا به ، وأمروا باتباعه ، فلما جاء وكفروا به - وهو أشرف الرسل - علم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله ، بل لحظوظهم وأهوائهم ، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء ، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ؛ ولهذا قال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ) وهذه الآية الكريمة [ نزلت ] أول الأمر بقتال أهل الكتاب ، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فلما استقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى ، وكان ذلك في سنة تسع ؛ ولهذا تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو [ من ] ثلاثين ألفا ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ وحر ، وخرج - عليه السلام - يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، فنزل بها وأقام على مائها قريبا من عشرين يوما ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله .
وقد استدل بهذه الآية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، أو من أشباههم كالمجوس ، لما صح فيهم الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر ، وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد - في المشهور عنه - وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : بل تؤخذ من جميع الأعاجم ، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب .
وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ، ومجوسي ، ووثني ، وغير ذلك ، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا ، والله أعلم .
وقوله : ( حتى يعطوا الجزية ) أي : إن لم يسلموا ، ( عن يد ) أي : عن قهر لهم وغلبة ، ( وهم صاغرون ) أي : ذليلون حقيرون مهانون . فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين ، بل هم أذلاء صغرة أشقياء ، كما جاء في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه .
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم ، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ ، من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين صالح نصارى من أهل الشام :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا ، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ، ولا قلاية ولا صومعة راهب ، ولا نجدد ما خرب منها ، ولا نحيي منها ما كان خطط المسلمين ، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار ، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ، ولا نئوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ، ولا نكتم غشا للمسلمين ، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا نظهر شركا ، ولا ندعو إليه أحدا ؛ ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه ، وأن نوقر المسلمين ، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم ، في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا نتكلم بكلامهم ، ولا نكتني بكناهم ، ولا نركب السروج ، ولا نتقلد السيوف ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ، ولا نحمله معنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ، ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقاديم رءوسنا ، وأن نلزم زينا حيثما كنا ، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ، وألا نظهر الصليب على كنائسنا ، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا ، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ، ولا نخرج شعانين ولا باعوثا ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نجاورهم بموتانا ، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ، وأن نرشد المسلمين ، ولا نطلع عليهم في منازلهم .
قال : فلما أتيت عمر بالكتاب ، زاد فيه : ولا نضرب أحدا من المسلمين ، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا ، وقبلنا عليه الأمان ، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا ، فلا ذمة لنا ، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق .
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
فيه خمس عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر لما حرم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام ، وجد المسلمون في أنفسهم بما قطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها ، قال الله عز وجل : ( وإن خفتم عيلة ) الآية . على ما تقدم . ثم أحل في هذه الآية الجزية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك ، فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم . فقال الله عز وجل : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية . فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف ، وخص أهل الكتاب بالذكر إكراما لكتابهم ، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل ، وخصوصا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته . فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة ، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل . وهو الصحيح . قال ابن العربي : سمعت أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها . فقال : قاتلوا وذلك أمر بالعقوبة . ثم قال : الذين لا يؤمنون وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة . وقوله : ولا باليوم الآخر تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد . ثم قال : ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله زيادة للذنب في مخالفة الأعمال . ثم قال : ولا يدينون دين الحق إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام . ثم قال : من الذين أوتوا الكتاب تأكيد للحجة ؛ لأنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . ثم قال : حتى يعطوا الجزية عن يد فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة وعين البدل الذي ترتفع به .
الثانية : وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية ، قال الشافعي رحمه الله : لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة عربا كانوا أو عجما لهذه الآية ، فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم لقوله عز وجل : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . ولم يقل : حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب . وقال : وتقبل من المجوس بالسنة ؛ وبه قال أحمد وأبو ثور . وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه . وقال الأوزاعي : تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب . وكذلك مذهب مالك ، فإنه رأى الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد ، عربيا أو عجميا ، تغلبيا أو قرشيا ، كائنا من كان ، إلا المرتد . وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون : تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها . وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستن الله فيهم جزية ، ولا يبقى على الأرض منهم أحد ، وإنما لهم القتال أو الإسلام . ويوجد لابن القاسم : أن الجزية تؤخذ منهم ، كما يقول مالك . وذلك في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص . وقال ابن وهب : لا تقبل الجزية من مجوس العرب وتقبل من غيرهم . قال : لأنه ليس في العرب مجوسي إلا وجميعهم أسلم ، فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتد يقتل بكل حال إن لم يسلم ولا تقبل منهم جزية . وقال ابن الجهم : تقبل الجزية من كل من دان بغير الإسلام إلا ما أجمع عليه من كفار قريش . وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار ، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال غيره : إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة . والله أعلم .
الثالثة : وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم . وفي الموطإ : مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم . فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سنوا بهم سنة أهل الكتاب . قال أبو عمر : يعني في الجزية خاصة . وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : سنوا بهم سنة أهل الكتاب دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب . وعلى هذا جمهور الفقهاء . وقد روي عن الشافعي أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوا . وأظنه ذهب في ذلك إلى شيء روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجه فيه ضعف ، يدور على أبي سعيد البقال ، ذكره عبد الرزاق وغيره . قال ابن عطية : وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت . والله أعلم .
الرابعة : لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارا للجزية المأخوذة منهم . وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم ، فقال عطاء بن أبي رباح : لا توقيت فيها ، وإنما هو على ما صولحوا عليه . وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري ، إلا أن الطبري قال : أقله دينار وأكثره لا حد له . واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية . وقال الشافعي : دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء واحتج بما رواه أبو داود وغيره عن معاذ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية . قال الشافعي : وهو المبين عن الله تعالى مراده . وهو قول أبي ثور . قال الشافعي : وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز ، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم . وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز ، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام ، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكن من البرد والحر . وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه : إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق ، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا . لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره . وقد قيل : إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الإمام . وقال ابن القاسم : لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى . قال أبو عمر : ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهما . وإلى هذا رجع مالك . وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل : اثنا عشر ، وأربعة وعشرون ، وأربعون . قال الثوري : جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة ، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء ، إذا كانوا أهل ذمة . وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير .
الخامسة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين ؛ لأنه تعالى قال : قاتلوا الذين إلى قوله : حتى يعطوا الجزية فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل . ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا ؛ لأنه لا مال له ، ولأنه تعالى قال : حتى يعطوا . ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي . وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين ، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني . واختلف في الرهبان ، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم . قال مطرف وابن الماجشون : هذا إذا لم يترهب بعد فرضها فإن فرضت ثم ترهب لم يسقطها ترهبه .
السادسة : إذا أعطى أهل الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا تجارتهم ولا زروعهم إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقروا فيها وصولحوا عليها . فإن خرجوا تجارا عن بلادهم التي أقروا فيها إلى غيرها أخذ منهم العشر إذا باعوا ونض ثمن ذلك بأيديهم ولو كان ذلك في السنة مرارا إلا في حملهم الطعام : الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة خاصة ، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر على ما فعل عمر . ومن أهل المدينة من لا يرى أن يؤخذ من أهل الذمة العشر في تجارتهم إلا مرة في الحول ، مثل ما يؤخذ من المسلمين . وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وجماعة من أئمة الفقهاء . والأول قول مالك وأصحابه .
السابعة : إذا أدى أهل الجزية جزيتهم التي ضربت عليهم أو صولحوا عليها خلي بينهم وبين أموالهم كلها ، وبين كرومهم وعصرها ما ستروا خمورهم ولم يعلنوا بيعها من مسلم ، ومنعوا من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين ، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم ، وأدب من أظهر الخنزير . وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدى ، ويجب عليه الضمان . وقيل : لا يجب ولو غصبها وجب عليه ردها . ولا يعترض لهم في أحكامهم ولا متاجرتهم فيما بينهم بالربا . فإن تحاكموا إلينا فالحاكم مخير ، إن شاء حكم بينهم بما أنزل الله وإن شاء أعرض . وقيل : يحكم بينهم في المظالم على كل حال ، ويؤخذ من قويهم لضعيفهم ؛ لأنه من باب الدفع عنهم . وعلى الإمام أن يقاتل عنهم عدوهم ويستعين بهم في قتالهم . ولا حظ لهم في الفيء ، وما صولحوا عليه من الكنائس لم يزيدوا عليها ، ولم يمنعوا من إصلاح ما وهى منها ، ولا سبيل لهم إلى إحداث غيرها . ويأخذون من اللباس والهيئة بما يبينون به من المسلمين ، ويمنعون من التشبه بأهل الإسلام . ولا بأس باشتراء أولاد العدو منهم إذا لم تكن لهم ذمة . ومن لد في أداء جزيته أدب على لدده وأخذت منه صاغرا .
الثامنة : اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه ، فقال علماء المالكية : وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر . وقال الشافعي : وجبت بدلا عن الدم وسكنى الدار . وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا وجبت بدلا عن القتل فأسلم سقطت عنه الجزية لما مضى ، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند مالك . وعند الشافعي أنها دين مستقر في الذمة فلا يسقطه الإسلام كأجرة الدار . وقال بعض الحنفية بقولنا . وقال بعضهم : إنما وجبت بدلا عن النصر والجهاد . واختاره القاضي أبو زيد وزعم أنه سر الله في المسألة . وقول مالك أصح ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ليس على مسلم جزية . قال سفيان : معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت الجزية عليه بطلت عنه . أخرجه الترمذي وأبو داود . قال علماؤنا : وعليه يدل قوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون لأن بالإسلام يزول هذا المعنى . ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون . والشافعي لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى . وإنما يقول : إن الجزية دين ، وجبت عليه بسبب سابق وهو السكنى أو توقي شر القتل ، فصارت كالديون كلها .
التاسعة : لو عاهد الإمام أهل بلد أو حصن ثم نقضوا عهدهم وامتنعوا من أداء ما يلزمهم من الجزية وغيرها وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا وكان الإمام غير جائر عليهم ؛ وجب على المسلمين غزوهم وقتالهم مع إمامهم . فإن قاتلوا وغلبوا حكم فيهم بالحكم في دار الحرب سواء . وقد قيل : هم ونساؤهم فيء ولا خمس فيهم ، وهو مذهب .
العاشرة : فإن خرجوا متلصصين قاطعين الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية . ولو خرجوا متظلمين نظر في أمرهم وردوا إلى الذمة وأنصفوا من ظالمهم ولا يسترق منهم أحد وهم أحرار . فإن نقض بعضهم دون بعض فمن لم ينقض على عهده ، ولا يؤخذ بنقض غيره وتعرف إقامتهم على العهد بإنكارهم على الناقضين .
الحادية عشرة : الجزية وزنها فعلة ، من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالقعدة والجلسة . ومن هذا المعنى قول الشاعر :
يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
الثانية عشرة : روى مسلم عن هشام بن حكيم بن حزام ومر على ناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس - في رواية : وصب على رءوسهم الزيت - فقال : ما شأنهم ؟ فقال يحبسون في الجزية . فقال هشام : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا . في رواية : وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين ، فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا . قال علماؤنا : أما عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التمكين فجائز ، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم ؛ لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه . ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء . وروى أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : عن يد قال ابن عباس : يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحدا روى أبو البختري عن سلمان قال : مذمومين . وروى معمر عن قتادة قال : عن قهر . وقيل : عن يد عن إنعام منكم عليهم ؛ لأنهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك . عكرمة : يدفعها وهو قائم والآخذ جالس وقاله سعيد بن جبير . ابن العربي : وهذا ليس من قوله : عن يد وإنما هو من قوله : وهم صاغرون .
الرابعة عشرة : روى الأئمة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا : المنفقة ، والسفلى : السائلة . وروي : " واليد العليا هي المعطية " . فجعل يد المعطي في الصدقة عليا ، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى . ويد الآخذ عليا ; ذلك بأنه الرافع الخافض ، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء ، لا إله غيره .
الخامسة عشرة : عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأؤدي خراجها ؟ فقال : لا . وجاءه آخر فقال له ذلك فقال : لا وتلا قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله : وهم صاغرون أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينتزعه فيجعله في عنقه وقال كليب بن وائل : قلت لابن عمر اشتريت أرضا قال الشراء حسن . قلت : فإني أعطي عن كل جريب أرض درهما وقفيز طعام . قال : لا تجعل في عنقك صغارا . وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ما يسرني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها بالصغار على نفسي .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features