فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

أي: فإن آمن أهل الكتاب { بمثل ما آمنتم به } - يا معشر المؤمنين - من جميع الرسل, وجميع الكتب, الذين أول من دخل فيهم, وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن, وأسلموا لله وحده, ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله { فَقَدِ اهْتَدَوْا } للصراط المستقيم, الموصل لجنات النعيم، أي: فلا سبيل لهم إلى الهداية, إلا بهذا الإيمان، لا كما زعموا بقولهم: " كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه، و " الهدى " هو العلم بالحق, والعمل به, وضده الضلال عن العلم والضلال عن العمل بعد العلم, وهو الشقاق الذي كانوا عليه, لما تولوا وأعرضوا، فالمشاق: هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق، ويلزم من المشاقة المحادة, والعداوة البليغة, التي من لوازمها, بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول، فلهذا وعد الله رسوله, أن يكفيه إياهم, لأنه السميع لجميع الأصوات, باختلاف اللغات, على تفنن الحاجات, العليم بما بين أيديهم وما خلفهم, بالغيب والشهادة, بالظواهر والبواطن، فإذا كان كذلك, كفاك الله شرهم. وقد أنجز الله لرسوله وعده, وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم, وسبى بعضهم, وأجلى بعضهم, وشردهم كل مشرد. ففيه معجزة من معجزات القرآن, وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه, فوقع طبق ما أخبر.
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

قول تعالى : ( فإن آمنوا ) أي : الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ( بمثل ما آمنتم به ) أيها المؤمنون ، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ، ولم يفرقوا بين أحد منهم ( فقد اهتدوا ) أي : فقد أصابوا الحق ، وأرشدوا إليه ( وإن تولوا ) أي : عن الحق إلى الباطل ، بعد قيام الحجة عليهم ( فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله ) أي : فسينصرك عليهم ويظفرك بهم ( وهو السميع العليم )
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب ، حدثنا زياد بن يونس ، حدثنا نافع بن أبي نعيم ، قال : أرسل إلي بعض الخلفاء مصحف عثمان بن عفان ليصلحه . قال زياد : فقلت له : إن الناس يقولون : إن مصحفه كان في حجره حين قتل ، فوقع الدم على ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) فقال نافع : بصرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قدم .
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته . المعنى : فإن آمنوا مثل إيمانكم ، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا ، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين ، وقيل : إن الباء زائدة مؤكدة . وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري : فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف ، ف مثل زائدة كما هي في قوله : ليس كمثله شيء أي ليس كهو شيء . وقال الشاعر [ هو حميد الأرقط ] :
فصيروا مثل كعصف مأكول
وروى بقية حدثنا شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس قال : لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله ليس له مثل ، ولكن قولوا : بالذي آمنتم به . تابعه علي بن نصر الجهضمي عن شعبة ، ذكره البيهقي . والمعنى : أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا ، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن الدين إلى الشقاق فسيكفيكهم الله . وحكي عن جماعة من أهل النظر قالوا : ويحتمل أن تكون الكاف في قوله : ليس كمثله شيء زائدة . قال : والذي روي عن ابن عباس من نهيه عن القراءة العامة شيء ذهب إليه للمبالغة في نفي التشبيه عن الله عز وجل . وقال ابن عطية : هذا من ابن عباس على جهة التفسير ، أي هكذا فليتأول . وقد قيل : إن الباء بمعنى على ، والمعنى : فإن آمنوا على مثل إيمانكم . وقيل : مثل على بابها أي بمثل المنزل ، دليله قوله : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ، وقوله : وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم .
قوله تعالى : وإن تولوا أي عن الإيمان فإنما هم في شقاق قال زيد بن أسلم : الشقاق المنازعة . وقيل : الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي . وأصله من الشق وهو الجانب ، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه . قال الشاعر :
إلى كم تقتل العلماء قسرا وتفجر بالشقاق وبالنفاق
وقال آخر :
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
وقيل : إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب ، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه .
قوله تعالى : فسيكفيكهم الله أي فسيكفي الله رسوله عدوه . فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين ، فأنجز له الوعد ، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير . والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان . ويجوز في غير القرآن : فسيكفيك إياهم . وهذا الحرف فسيكفيكهم الله هو الذي وقع عليه دم عثمان حين قتل بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم إياه بذلك . والسميع لقول كل قائل العليم بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم . وحكي أن أبا دلامة دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة ، ودراعة مكتوب بين كتفيها فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ، وسيف معلق في وسطه ، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي ، فقال له : كيف حالك يا أبا دلامة ؟ قال : بشر يا أمير المؤمنين قال : وكيف ذاك ؟ قال : ما ظنك برجل وجهه في وسطه ، وسيفه في استه ، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره فضحك المنصور منه ، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته .
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به "، فإن صدّق اليهودُ والنصارَى بالله، ومَا أنـزل إليكم، وما أنـزل إلى إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ, ومَا أوتي مُوسى وعيسى, وما أوتي النبيون من ربهم, وأقروا بذلك، مثلَ ما صدّقتم أنتم به أيّها المؤمنون وأقررتم, فقد وُفِّقوا ورَشِدوا، ولزموا طريق الحق، واهتدوا, وهم حينئذ منكم وأنتم منهم، بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك.
فدلّ تعالى ذكره بهذه الآية، على أنه لم يقبل من أحد عَملا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدَّها قَبلها، كما:-
2108- حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: " فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا " ونحو هذا, قال: أخبر الله سبحانه أنّ الإيمان هو العروة الوثقى, وَأنه لا يقبل عملا إلا به, ولا تحرُم الجنة إلا على مَن تركه.
* * *
وقد روي عن ابن عباس في ذلك قراءةٌ، جاءت مصاحفُ المسلمين بخلافها, وأجمعت قَرَأة القرآن على تركها. وذلك ما:-
2109- حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن أبي حمزة, قال: قال ابن عباس: لا تقولوا: " فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا " -فإنه ليس لله مثل- ولكن قولوا: " فإن آمنوا بالذي آمنتم به فَقد اهتدوا "- أو قال: " فإن آمنوا بما آمنتم به ".
* * *
فكأن ابن عباس -في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه- يوجِّه تأويل قراءة من قرأ: " فإن آمنُوا بمثل مَا آمنتم به "، فإن آمنوا بمثل الله, وبمثل ما أنـزل على إبراهيم وإسماعيل. وذلك إذا صرف إلى هذا الوجه، شِركٌ لا شكَّ بالله العظيم. لأنه لا مثل لله تعالى ذكرُه, فنؤمن أو نكفر به.
* * *
ولكن تأويل ذلك على غير المعنى الذي وَجّه إليه تأويله. وإنما معناه ما وصفنا, وهو: فإن صدّقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به -من جميع ما عددنا عليكم من كتُب الله وأنبيائه- فقد اهتدوا. فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والإقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء. كقول القائل: " مرّ عمرو بأخيك مثلَ ما مررتُ به ", يعني بذلك مرّ عمرو بأخيك مثل مُروري به. والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين, لا بين عمرو وبين المتكلم. فكذلك قوله: " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به "، إنما وقع التمثيل بين الإيمانين، لا بين المؤمَنِ به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله: " وإن تَوَلَّوْا "، وإن تولى -هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى - فأعرضوا، (31) = فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيّها المؤمنون بالله, وبما جاءت به الأنبياءُ, وابتُعِثت به الرسل, وفرّقوا بين رُسُل الله وبين الله ورسله, فصدّقوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ = فاعلموا، أيها المؤمنون، أنهم إنما هُمْ في عصيان وفِرَاق وحَربٍ لله ولرسوله ولكم، كما:-
2110- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد, عن سعيد، عن قتادة: " وإنما هُم في شقاق "، أي: في فراق (32)
2111- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " فإنما هُمْ في شقاق "، يعني فراق.
2112- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: " وإن توَلوا فإنما هم في شقاق " قال: الشقاق: الفراقُ والمحاربة. إذا شَاقَّ فقد حارب, وإذا حَارب فقد شاقَّ, وهما واحدٌ في كلام العرب، وقرأ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [سورة النساء: 115].
* * *
قال أبو جعفر: وأصل " الشقاق " عندنا، والله أعلم، مأخوذٌ من قول القائل: " شَقَّ عليه هذا الأمر "، إذا كرَبه وآذاه. ثم قيل: " شاقَّ فلانٌ فلانًا "، بمعنى: نال كل واحد منهما من صاحبه ما كرَبه وآذاه، وأثقلته مَساءَته. ومنه قول الله تعالى ذكره: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا [سورة النساء: 35] بمعنى: فراقَ بينهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فسيكفيكهمُ الله "، فسيكفيكَ الله يا محمد، هؤلاء الذين قالوا لَكَ ولأصحابك: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ، من اليهود والنصارى, إنْ هم تولوْا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله, وبما أنـزل إليك, وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء غيرهم, وفرقوا بين الله ورُسُله - إما بقتل السيف, وإما بجلاء عن جوارك, وغير ذلك من العقوبات؛ فإن الله هو " السميع " لما يقولون لك بألسنتهم، ويبدون لك بأفواههم، من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضّالة -" العليمُ" بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء.
ففعل الله بهم ذلك عَاجلا وأنجزَ وَعْده, فكفى نبيّه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إيّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا، وأذلّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار.
---------
(31) انظر معنى"تولى" فيما سلف ، 2 : 162 ، 163 / ثم 298 ، 299 .
(32) الأثر : 2110- سقط من المطبوعة في إسناده : "عن سعيد" ، وهو إسناد دائر في التفسير ، أقر به فيما سلف : 2104 .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features