وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة، وعقيدتهم الفظيعة، فقال: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ْ} أي: عن الخير والإحسان والبر. { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ْ} وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم. فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم، بالبخل وعدم الإحسان. فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم. فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا، وأسوأهم ظنا بالله، وأبعدهم الله عن رحمته التي وسعت كل شيء، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي. ولهذا قال: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ْ} لا حجر عليه، ولا مانع يمنعه مما أراد، فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم. فيداه سحاء الليل والنهار، وخيره في جميع الأوقات مدرارا، يفرج كربا، ويزيل غما، ويغني فقيرا، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا, ويجيب سائلا، ويعطي فقيرا عائلا، ويجيب المضطرين، ويستجيب للسائلين. وينعم على من لم يسأله، ويعافي من طلب العافية، ولا يحرم من خيره عاصيا، بل خيره يرتع فيه البر والفاجر، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال ثم يحمدهم عليها، ويضيفها إليهم، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ما لا يدركه الوصف، ولا يخطر على بال العبد، ويلطف بهم في جميع أمورهم، ويوصل إليهم من الإحسان، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه، فسبحان من كل النعم التي بالعباد فمنه، وإليه يجأرون في دفع المكاره، وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه, بل هو كما أثنى على نفسه، وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين، بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده. وقبَّح الله من استغنى بجهله عن ربه، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله، بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة، ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم، لهلكوا، وشقوا في دنياهم، ولكنهم يقولون تلك الأقوال، وهو تعالى, يحلم عنهم، ويصفح، ويمهلهم ولا يهملهم. وقوله { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ْ} وهذا أعظم العقوبات على العبد، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله، الذي فيه حياة القلب والروح، وسعادة الدنيا والآخرة, وفلاح الدارين، الذي هو أكبر منة امتن الله بها على عباده, توجب عليهم المبادرة إلى قبولها, والاستسلام لله بها, وشكرا لله عليها, أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه، وطغيان إلى طغيانه، وكفر إلى كفره، وذلك بسبب إعراضه عنها، ورده لها، ومعاندته إياها، ومعارضته لها بالشبه الباطلة. { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ْ} فلا يتآلفون، ولا يتناصرون, ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم، بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم, متعادين بأفعالهم, إلى يوم القيامة { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ ْ} ليكيدوا بها الإسلام وأهله، وأبدوا وأعادوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم { أَطْفَأَهَا اللَّهُ ْ} بخذلانهم وتفرق جنودهم, وانتصار المسلمين عليهم. { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ْ} أي: يجتهدون ويجدون، ولكن بالفساد في الأرض، بعمل المعاصي، والدعوة إلى دينهم الباطل، والتعويق عن الدخول في الإسلام. { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ْ} بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم على ذلك.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

يخبر تعالى عن اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علوا كبيرا ، بأنه بخيل . كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء ، وعبروا عن البخل بقولهم : ( يد الله مغلولة )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : قال ابن عباس : ( مغلولة ) أي : بخيلة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) قال : لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ولكن يقولون : بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
وكذا روي عن عكرمة وقتادة والسدي ومجاهد والضحاك وقرأ : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) [ الإسراء : 29 ] . يعني : أنه ينهى عن البخل وعن التبذير ، وهو الزيادة في الإنفاق في غير محله ، وعبر عن البخل بقوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) .
وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله . وقد قال عكرمة : إنها نزلت في فنحاص اليهودي عليه لعنة الله . وقد تقدم أنه الذي قال : ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) [ آل عمران : 181 ] فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود يقال له : شاس بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء )
وقد رد الله عز وجل عليهم ما قالوه ، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه ، فقال : ( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) وهكذا وقع لهم ، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم ، كما قال تعالى : ( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ] ) [ النساء : 53 - 55 ] وقال تعالى : ( ضربت عليهم الذلة [ أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ] ) الآية [ آل عمران : 112 ] .
ثم قال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) أي : بل هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه ، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له ، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه ، في ليلنا ونهارنا ، وحضرنا وسفرنا ، وفي جميع أحوالنا ، كما قال [ تعالى ] ( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) الآية [ إبراهيم : 34 ] . والآيات في هذا كثيرة ، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه " قال : " وعرشه على الماء ، وفي يده الأخرى القبض ، يرفع ويخفض " : قال : قال الله تعالى : " أنفق أنفق عليك " أخرجاه في الصحيحين ، البخاري في " التوحيد " عن علي ابن المديني ، ومسلم فيه عن محمد بن رافع وكلاهما عن عبد الرزاق به .
وقوله : ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) أي : يكون ما أتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم ، فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا ، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك ) طغيانا ) وهو : المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ) وكفرا ) أي : تكذيبا ، كما قال تعالى : ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) [ فصلت : 44 ] وقال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) [ الإسراء : 82 ] .
وقوله : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) يعني : أنه لا تجتمع قلوبهم ، بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائما لأنهم لا يجتمعون على حق ، وقد خالفوك وكذبوك .
وقال إبراهيم النخعي : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء ) قال : الخصومات والجدال في الدين . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) أي : كلما عقدوا أسبابا يكيدونك بها ، وكلما أبرموا أمورا يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم ، ويحيق مكرهم السيئ بهم .
( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) أي : من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الإفساد في الأرض ، والله لا يحب من هذه صفته .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

قوله : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين
قوله تعالى : وقالت اليهود يد الله مغلولة قال عكرمة : إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء ، لعنه الله ، وأصحابه ، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قل مالهم ; فقالوا : إن الله بخيل ، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء ; فالآية خاصة في بعضهم ، وقيل : لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا ، وقال الحسن : المعنى يد الله مقبوضة عن عذابنا ، وقيل : إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الديات قالوا : إن إله محمد فقير ، وربما قالوا : بخيل ; وهذا معنى قولهم : يد الله مغلولة فهذا على التمثيل كقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، ويقال للبخيل : جعد الأنامل ، ومقبوض الكف ، وكز الأصابع ، ومغلول اليد ; قال الشاعر :
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فاستبدلت بعده جعدا أنامله
كأنما وجهه بالخل منضوح
واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى : وخذ بيدك ضغثا وهذا محال على الله تعالى ، وتكون للنعمة ; تقول العرب : كم يد لي عند فلان ، أي : كم من نعمة لي قد أسديتها له ، وتكون للقوة ; قال الله عز وجل : واذكر عبدنا داود ذا الأيد ، أي : ذا القوة وتكون للملك والقدرة ; قال الله تعالى : قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء . وتكون بمعنى الصلة ، قال الله تعالى : مما عملت أيدينا أنعاما أي : مما عملنا نحن ، وقال : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح البقرة : 2 أي الذي له عقدة النكاح ، وتكون بمعنى التأييد والنصرة ، ومن قوله عليه السلام : يد الله مع القاضي حتى يقضي والقاسم حتى يقسم ، وتكون لإضافة الفعل إلى المخبر عنه تشريفا له وتكريما ; قال الله تعالى : يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فلا يجوز أن يحمل على الجارحة ; لأن الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض ، ولا على القوة والملك والنعمة والصلة ، لأن الاشتراك يقع حينئذ . بين وليه آدم وعدوه إبليس ، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه ; لبطلان معنى التخصيص ، فلم يبق إلا أن تحمل على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور ، لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة ; ومثله ما روي أنه عز اسمه وتعالى علاه وجده أنه كتب التوراة بيده ، وغرس دار الكرامة بيده لأهل الجنة ، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها .
قوله تعالى : غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا حذفت الضمة من الياء لثقلها ; أي : غلت في الآخرة ، ويجوز أن يكون دعاء عليهم ، وكذا ولعنوا بما قالوا والمقصود تعليمنا كما قال : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ; علمنا الاستثناء كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله : تبت يدا أبي لهب وقيل : المراد أنهم أبخل الخلق ; فلا ترى يهوديا غير لئيم ، وفي الكلام على هذا القول إضمار الواو ; أي : قالوا : يد الله مغلولة وغلت أيديهم . واللعن الإبعاد ، وقد تقدم .
قوله تعالى : بل يداه مبسوطتان ابتداء وخبر ; أي : بل نعمته مبسوطة ; فاليد بمعنى النعمة . قال بعضهم : هذا غلط ; لقوله : بل يداه مبسوطتان فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان ؟ وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد ; فيكون مثل قوله عليه السلام : مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين . فأحد الجنسين نعمة الدنيا ، والثاني نعمة الآخرة . وقيل : نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة ; كما قال : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة . وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال فيه : النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك ، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك ، وقيل : نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما ومنهما . وقيل : إن النعمة للمبالغة ; كقول العرب : ( لبيك وسعديك ) وليس يريد الاقتصار على مرتين ; وقد يقول القائل : ما لي بهذا الأمر يد أي : قوة . قال السدي ; معنى قوله يداه قوتاه بالثواب والعقاب ، بخلاف ما قالت اليهود : إن يده مقبوضة عن عذابهم ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى قال لي أنفق أنفق عليك ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يمين الله ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض . السح الصب الكثير ، ويغيض ينقص ; ونظير هذا الحديث قوله جل ذكره : والله يقبض ويبسط . وأما هذه الآية ففي قراءة ابن مسعود " بل يداه بسطان " حكاه الأخفش ، وقال يقال : يد بسطة ، أي : منطلقة منبسطة . ينفق كيف يشاء أي : يرزق كما يريد ، ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة ; أي : قدرته شاملة ، فإن شاء وسع وإن شاء قتر . وليزيدن كثيرا منهم لام قسم . ما أنزل إليك من ربك أي : بالذي أنزل إليك . طغيانا وكفرا أي : إذا نزل شيء من القرآن فكفروا ازداد كفرهم . وألقينا بينهم قال مجاهد : أي : بين اليهود والنصارى ; لأنه قال قبل هذا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، وقيل : أي : ألقينا بين طوائف اليهود ، كما قال : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى فهم متباغضون غير متفقين ; فهم أبغض خلق الله إلى الناس . كلما أوقدوا نارا للحرب يريد اليهود . وكلما ظرف أي : كلما جمعوا وأعدوا شتت الله جمعهم ، وقيل : إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله - التوراة - أرسل الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين ; فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله فكلما أوقدوا نارا أي : أهاجوا شرا ، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم أطفأها الله وقهرهم ووهن أمرهم فذكر النار مستعار . قال قتادة : أذلهم الله عز وجل ; فلقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي المجوس ، ثم قال جل وعز : ويسعون في الأرض فسادا أي : يسعون في إبطال الإسلام ، وذلك من أعظم الفساد ، والله أعلم وقيل : المراد بالنار هنا نار الغضب ، أي : كلما أوقدوا نار الغضب في أنفسهم وتجمعوا بأبدانهم وقوة النفوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها الله حتى يضعفوا ; وذلك بما جعله من الرعب نصرة بين يدي نبيه صلى الله عليه وسلم .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة : إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء : يد الله مغلولة ، أي : محبوسة مقبوضة عن الرزق نسبوه إلى البخل ، تعالى الله عن ذلك .
قيل : إنما قال هذه المقالة فنحاص ، فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله أشركهم الله فيها .
وقال الحسن : معناه " يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا ما تبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل . والأول أولى لقوله : " ينفق كيف يشاء " .
( غلت أيديهم ) أي : [ أمسكت ] أيديهم عن الخيرات . وقال الزجاج : أجابهم الله تعالى فقال : أنا الجواد وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسكة . وقيل : هو من الغل في النار يوم القيامة لقوله تعالى : " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل " ( غافر ، 71 ) . ) ( ولعنوا ) عذبوا ، ) ( بما قالوا ) فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة والمسكنة في الدنيا وفي الآخرة بالنار ، ( بل يداه مبسوطتان ) ويد الله صفة من [ صفاته ] كالسمع ، والبصر والوجه ، وقال جل ذكره : " لما خلقت بيدي " ( ص ، 75 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلتا يديه يمين " والله أعلم بصفاته ، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم .
وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات : " أمروها كما جاءت بلا كيف " .
) ( ينفق ) يرزق ، ( كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) أي : كلما نزلت آية كفروا بها وازدادوا طغيانا وكفرا ، [ كلما نزلت آية ] ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء ) يعني : بين اليهود والنصارى ، قاله الحسن ومجاهد : وقيل بين طوائف اليهود جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين ( إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) يعني : اليهود أفسدوا وخالفوا حكم التوراة ، فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين .
وقيل : كلما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأوقدوا نار المحاربة أطفأها الله ، فردهم وقهرهم ونصر نبيه ودينه ، هذا معنى قول الحسن ، وقال قتادة : هذا عام في كل حرب طلبته اليهود فلا تلقى اليهود في البلد إلا وجدتهم من أذل الناس ، ( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features