وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)

كان أناس من المنافقين من أهل قباء اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء، يريدون به المضارة والمشاقة بين المؤمنين، ويعدونه لمن يرجونه من المحاربين للّه ورسوله، يكون لهم حصنا عند الاحتياج إليه، فبين تعالى خزيهم، وأظهر سرهم فقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا‏}‏ أي‏:‏ مضارة للمؤمنين ولمسجدهم الذي يجتمعون فيه ‏{‏وَكُفْرًا‏}‏ أي‏:‏ قصدهم فيه الكفر، إذا قصد غيرهم الإيمان‏.‏
{‏وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ ليتشعبوا ويتفرقوا ويختلفوا، ‏{‏وَإِرْصَادًا‏}‏ أي‏:‏ إعدادا ‏{‏لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ إعانة للمحاربين للّه ورسوله، الذين تقدم حرابهم واشتدت عداوتهم، وذلك كأبي عامر الراهب، الذي كان من أهل المدينة، فلما قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهاجر إلى المدينة، كفر به، وكان متعبدا في الجاهلية، فذهب إلى المشركين يستعين بهم على حرب رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏.‏
فلما لم يدرك مطلوبه عندهم ذهب إلى قيصر بزعمه أنه ينصره، فهلك اللعين في الطريق، وكان على وعد وممالأة، هو والمنافقون‏.‏ فكان مما أعدوا له مسجد الضرار، فنزل الوحي بذلك، فبعث إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يهدمه ويحرقه، فهدم وحرق، وصار بعد ذلك مزبلة‏.‏
قال تعالى بعدما بين من مقاصدهم الفاسدة في ذلك المسجد ‏{‏وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا‏}‏ في بنائنا إياه ‏{‏إِلَّا الْحُسْنَى‏}‏ أي‏:‏ الإحسان إلى الضعيف، والعاجز والضرير‏.‏
{‏وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ فشهادة اللّه عليهم أصدق من حلفهم‏.‏
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)

قوله تعالى : ( والذين اتخذوا ) قرأ : أهل المدينة والشام " الذين " بلا واو ، وكذلك هو في مصاحفهم ، وقرأ الآخرون : " والذين " بالواو . ( مسجدا ضرارا ) نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين ، بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء ، وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق : وديعة بن ثابت ، وجذام بن خالد ، ومن داره أخرج هذا المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، وجارية بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ومعتب بن قشير ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، ونبتل بن الحارث ، وبجاد بن عثمان ، ورجل يقال له : بحزج ، بنوا هذا المسجد ضرارا ، يعني : مضارة للمؤمنين ، ( وكفرا ) بالله ورسوله ، ( وتفريقا بين المؤمنين ) ؛ لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء ، فبنوا مسجد الضرار ، ليصلي فيه بعضهم ، فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة ، وكان يصلي بهم مجمع بن جارية .
فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي بنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني على جناح سفر ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه " . ( وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ) أي : انتظارا وإعدادا لمن حارب الله ورسوله . يقال : أرصدت له : إذا أعددت له . وهو أبو عامر الراهب وكان أبو عامر هذا رجلا منهم ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة ، وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر : ما هذا الذي جئت به؟ قال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال أبو عامر : فإنا عليها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك لست عليها " ، قال : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية " ، فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " آمين " . وسماه أبا عامر الفاسق .
فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه ، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء ، فذلك قوله تعالى : ( وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ) وهو أبو عامر الفاسق ، ليصلي فيه إذا رجع من الشام .
قوله : ( من قبل ) يرجع إلى أبي عامر يعني حارب الله ورسوله من قبل أي : من قبل بناء مسجد الضرار .
( وليحلفن إن أردنا ) ما أردنا ببنائه ، ( إلا الحسنى ) إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( والله يشهد إنهم لكاذبون ) في قيلهم وحلفهم . روي لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوان موضع قريب من المدينة أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم ، فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبر مسجد الضرار وما هموا به ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ، ومعن بن عدي ، وعامر بن السكن ، ووحشيا قاتل حمزة ، وقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه ، فخرجوا سريعا حتى أتوا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك : أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي ، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ، ثم خرجوا يشتدون ، حتى دخلوا المسجد وفيه أهله ، فحرقوه وهدموه ، وتفرق عنه أهله ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والنتن والقمامة . ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا فريدا غريبا . وروي أن بني عمرو بن عوف ، الذين بنوا مسجد قباء ، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم ، فقال : لا ولا نعمة عين ، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين : لا تعجل علي ، فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاما قارئا للقرآن ، وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى ، ولم أعلم ما في أنفسهم ، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء .
وقال عطاء : لما فتح الله على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وأمرهم أن لا يبنوا في مدينتهم مسجدين يضار أحدهما صاحبه .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين ابتنوا مسجدًا ضرارًا, وهم، فيما ذكر، اثنا عشر نفسًا من الأنصار.
* ذكر من قال ذلك:
17186- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن الزهريّ، ويزيد بن رومان, وعبد الله بن أبي بكر, وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم = يعني: من تبوك = حتى نـزل بذي أوان = بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهّز إلى تبوك, فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلّة والحاجة والليلة المطِيرة والليلة الشاتية, وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ! فقال: إني على جناح سفر وحال شُغْلٍ = أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم = ولو قَدْ قَدمنا أتيناكم إن شاء الله، فصلَّينا لكم فيه. فلما نـزل بذي أوان، أتاه خبرُ المسجد, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم، أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي = أو أخاه: عاصم بن عدي = أخا بني العجلان فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه ! فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف, وهم رهط مالك بن الدخشم, فقال مالك لمعن: أنْظِرني حتى أخرج إليك بنارٍ من أهلي ! فدخل [إلى] أهله، فأخذ سَعفًا من النخل, فأشعل فيه نارًا, ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله, فحرّقاه وهدماه, وتفرقوا عنه. ونـزل فيهم من القرآن ما نـزل: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا)، إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا خِذَام بن خالد، من بني عبيد بن زيد، (1) أحد بني عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشقاق = وثعلبة بن حاطب، من بني عبيد، وهو إلى بني أمية بن زيد = ومعتب بن قشير، من بني ضبيعة بن زيد = وأبو حبيبة بن الأزعر، من بني ضبيعة بن زيد = وعباد بن حنيف، أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف = وجارية بن عامر، وابناه: مجمع بن جارية, وزيد بن جارية, ونبتل بن الحارث، وهم من بني ضبيعة = وبَحْزَج، (2) وهو إلى بني ضبيعة = وبجاد بن عثمان، وهو من بني ضبيعة = ووديعة بن ثابت، وهو إلى بني أمية، رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. (3)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: والذين ابتنوا مسجدًا ضرارًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرًا بالله لمحادّتهم بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ويفرِّقوا به المؤمنين، ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا =(وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل)، يقول: وإعدادًا له, لأبي عامر الكافر الذي خالف الله ورسوله, وكفر بهما، وقاتل رسول الله =(من قبل)، يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد. وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزَّب الأحزاب = يعني: حزّب الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم = فلما خذله الله, لحق بالروم يطلب النَّصْر من ملكهم على نبي الله, وكتب إلى أهل مسجد الضِّرار (4) يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه، فيما ذكر عنه، ليصلي فيه، فيما يزعم، إذا رجع إليهم. ففعلوا ذلك. وهذا معنى قول الله جل ثناؤه: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل).
=(وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى)، يقول جل ثناؤه: وليحلفن بانوه: " إن أردنا إلا الحسنى "، ببنائناه، إلا الرفق بالمسلمين، والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة ومن عجز عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، (5) وتلك هي الفعلة الحسنة =(والله يشهد إنهم لكاذبون)، في حلفهم ذلك, وقيلهم: " ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى!"، ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السُّوآى، ضرارًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرًا بالله، وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لأبي عامر الفاسق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17187- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن ابن عباس قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا)، وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا, فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم, واستعدُّوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح, فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه ! فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا, فنحبُّ أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة! فأنـزل الله فيه: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ، إلى قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .
17188- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين)، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قُباء, خرج رجالٌ من الأنصار، منهم: بحزج، (6) جدُّ عبد الله بن حنيف, (7) ووديعة بن حزام, ومجمع بن جارية الأنصاري, فبَنوا مسجد النفاق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبحزج (8) ويلك! ما أردت إلى ما أرى! فقال: يا رسول الله, والله ما أردت إلا الحسنى ! وهو كاذب، فصدَّقه رسول الله وأراد أن يعذِره, فأنـزل الله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله)، يعني رجلا منهم يقال له " أبو عامر " كان محاربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان قد انطلق إلى هرقل, فكانوا يرصدون [إذا قدم] أبو عامر أن يصلي فيه, (9) وكان قد خرج من المدينة محاربًا لله ولرسوله =(وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون).
17189- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل)، قال: أبو عامر الراهب، انطلق إلى قيصر, فقالوا: " إذا جاء يصلي فيه "، كانوا يرون أنه سيظهر على محمد صلى الله عليه وسلم.
17190- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا )، قال المنافقون =(لمن حارب الله ورسوله)، لأبي عامر الراهب.
17191- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
17192-...... قال، حدثنا أبو إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين)، قال: نـزلت في المنافقين = وقوله: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل)، قال: هو أبو عامر الراهب.
17193- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
17194- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن سعيد بن جبير: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا)، قال: هم بنو غنم بن عوف.
17195- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن سعيد بن جبير: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا)، قال: هم حيّ يقال لهم: " بنو غنم ".
17196- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا)، قال: هم حي يقال لهم: " بنو غنم " = قال أخبرنا معمر, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة قالت: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله)، أبو عامر الراهب انطلق إلى الشأم, فقال الذين بنوا مسجد الضرار: إنما بنيناه ليصلي فيه أبو عامر.
17197- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا)، الآية, عمد ناسٌ من أهل النفاق, فابتنوا مسجدًا بقباء، ليضاهوا به مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم بعثوا إلى رسول الله ليصلِّي فيه. ذكر لنا أنه دعا بقميصه ليأتيهم، حتى أطلعه الله على ذلك = وأما قوله: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله)، فإنه كان رجلا يقال له: " أبو عامر ", فرّ من المسلمين فلحق بالمشركين، فقتلوه بإسلامه. (10) قال: إذا جاء صلى فيه, فأنـزل الله: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ، الآية.
17198- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا)، هم ناس من المنافقين، بنوا مسجدًا بقباء يُضارُّون به نبيّ الله والمسلمين =(وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله)، كانوا يقولون: إذا رجع أبو عامر من عند قيصر من الروم صلى فيه! وكانوا يقولون: إذا قدم ظهر على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
17199- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل)، قال: مسجد قباء, كانوا يصلون فيه كلهم. وكان رجل من رؤساء المنافقين يقال له: " أبو عامر "، أبو: " حنظلة غسيل الملائكة "، و " صيفي", [واحق]. (11) وكان هؤلاء الثلاثة من خيار المسلمين، فخرج أبو عامر هاربًا هو وابن عبد ياليل، من ثقيف، (12) وعلقمة بن علاثة، من قيس، من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بصاحب الروم. فأما علقمة وابن عبد ياليل، (13) فرجعا فبايعا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلما. وأما أبو عامر، فتنصر وأقام. قال: وبنى ناسٌ من المنافقين مسجد الضرار لأبي عامر, قالوا: " حتى يأتي أبو عامر يصلي فيه "، وتفريقًا بين المؤمنين، يفرقون به جماعتهم، (14) لأنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء. وجاءوا يخدعون النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ربما جاء السيلُ، فيقطع بيننا وبين الوادي، (15) ويحول بيننا وبين القوم، ونصلي في مسجدنا، (16) فإذا ذهب السيل صلينا معهم ! قال: وبنوه على النفاق. قال: وانهار مسجدهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وألقى الناس عليه التِّبن والقُمامة، (17) فأنـزل الله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين)، لئلا يصلي في مسجد قباء جميعُ المؤمنين =(وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل)، أبي عامر =(وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون).
17200- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون, عن أبي جعفر, عن ليث: أن شقيقًا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر, فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلُّوا بعدُ ! فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بُني على ضرار, وكل مسجد بُنِيَ ضرارًا أو رياءً أو سمعة، فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني على ضرار.
--------------------
الهوامش :
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " خذام بن خالد بن عبيد " ، وأثبت ما في سيرة ابن هشام .
(2) في المطبوعة : " وبخدج " ، والصواب ما في المخطوطة وسيرة ابن هشام .
(3) الأثر : 17186 - سيرة ابن هشام 4 : 173 ، 174 .
(4) انظر تفسير " الضرار " فيما سلف 5 : 7 ، 8 ، 46 ، 53 / 6 : 85 - 91 .
(5) في المطبوعة : " ومن عجز عن المسير " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .
(6) في المطبوعة : " بخدج " ، وأثبت ما في سيرة ابن هشام 4 : 174 ، كما سلف في رقم : 17186 . ورأيت بعد في المحبر : 47 : " بخدج " ولم أتمكن من تصحيحه . ثم انظر جمهرة الأنساب لابن حزم : 316 في نسب " سهل بن حنيف " ، و " عثمان بن حنيف " ، و " عباد بن حنيف " . وانظر التعليق التالي .
(7) ما أدري قوله : " جد عبد الله بن حنيف " ، ولست أدري أهو من كلام ابن عباس أو من كلام غيره ، وإن كنت أرجح أنه من كلام غيره ، لأني لم أجد في الصحابة ولا التابعين " عبد الله بن حنيف " ، وجده " بحزج " . والمذكور في المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار : " عباد بن حنيف " ، أخو " سهل بن حنيف " . فأخشى أن يكون سقط من الخبر شيء ، فاختلط الكلام . وفي نسب " سهل بن حنيف " " عمرو ، وهو بحزج ، بن حنش بن عوف بن عمرو " ( انظر ابن سعد 3 / 2 / 39 ، ثم : 5 : 59 ) ، وجمهرة الأنساب لابن حزم : 316 ، ولكن هذا قديم جدا في الجاهلية ، وهو بلا شك غير " بحزج " ، الذي كان من أمره ما كان في مسجد الضرار .
فهذا الذي هنا يحتاج إلى فضل تحقيق ، لم أتمكن من بلوغه .
(8) في المطبوعة : " لبخدج " ، وانظر التعليقات السالفة .
(9) في المطبوعة ، ساق الكلام سياقا واحدا هكذا: " وكانوا يرصدون أبو عامر أن يصلي فيه " ، وفي المخطوطة: "وكانوا يرصدون أبو عامر أن يصلي فيه"، وبين الكلامين بياض ، وفي الهامش حرف ( ط ) دلالة على الخطأ ، وأثبت ما بين القوسين من الدر المنثور 1 : 276 ، وروى الخبر من طريق ابن مردويه ، وابن أبي حاتم . وهذا الذي أثبته يطابق في معناه ما سيأتي في الآثار التالية .
(10) قوله : " فقتلوه بإسلامه " ، كلام صحيح ، وإن ظن بعضهم أنه لا يستقيم ، وذلك أن أبا عامر الراهب ، لما خرج إلى الروم مات هناك سنة تسع أو عشر . ( الإصابة في ترجمة ولده : حنظلة غسيل الملائكة بن أبي عامر ) . فكأنه يقال أيضا أن الروم قتلته بإسلامه ، كما جاء في هذا الخبر . وأما قوله بعد : " قال : إذا جاء صلى فيه " ، فهو من كلام قتادة . وانظر الأخبار التالية ، فإنه يقال إنه تنصر .
(11) في المطبوعة : " وأخيه " ، والذي في المخطوطة كما أثبته غير مقروء قراءة ترتضي . وممكن أن تكون " وأخوه " ، ولكنه عندئذ خطأ ، صوابه أن يكون و " أخيه " ، كما أثبته ناشر المطبوعة .
بيد أن السياق يدل على أن ما بين القوسين اسم ثالث ، وهو اسم أخي حنظلة ، وصيفي ، ولم استطع أن أجد خبر ذلك .
وأما " صيفي " ، فقد ذكره ابن حجر في الإصابة في ترجمة " صيفي " ، وأنه كان ممن شهد أحدا ، ونسب ذلك إلى ابن سعد والطبراني ، ولم أجده في المطبوع من طبقات ابن سعد .
(12) الذي جاء في المخطوطة والمطبوعة : " ابن بالين " ، وإن كان في المخطوطة غير منقوط .
وهو خطأ لا شك فيه عندي ، وأن صوابه : " وابن عبد ياليل " كما أثبته . فإن ابن عبد البر في الاستيعاب : 105 ، في ترجمة " حنظلة الغسيل " ، ذكر أن أبا عمر الفاسق لما فتحت مكة ، لحق بهرقل هاربا إلى الروم ، فمات كافرا عند هرقل ، وكان معه هناك " كنانة بن عبد ياليل " و " علقمة بن علاثة " ، فاختصما في ميراثه إلى هرقل ، فدفعه إلى كنانة بن عبد ياليل ، وقال لعلقمة : هما من أهل المدر ، وأنت من أهل الوبر .
و " كنانة بن عبد ياليل الثقفي " ، ترجم له ابن حجر في القسم الرابع ، وذكره ابن سلام الجمحي ، في طبقات فحول الشعراء ص : 217 ، في شعراء الطائف ، ولم يورد له خبرا بعد ذكره .
(13) في المطبوعة والمخطوطة : " وابن بالين " ، وفي المخطوطة غير منقوطة . انظر التعليق السالف .
(14) في المطبوعة : " بين جماعتهم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(15) في المطبوعة : " يقطع " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(16) في المطبوعة : " فنصلي " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(17) في المطبوعة : " النتن والقامة " والصواب ما في المخطوطة . و " التبن " عصيفة الزرع ، فهو الذي يلقى . وأما " النتن " فالرائحة الكريهة ، فكأنه ظن أن " النتن " مجاز لمعنى " الأقذار " ، لنتن رائحتها ! وهو باطل .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)

قوله تعالى والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون فيه عشر مسائل :
الأولى والذين اتخذوا مسجدا معطوف ، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ، عطف جملة على جملة . ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء والخبر محذوف ك " إنهم يعذبون " أو نحوه . ومن قرأ " الذين " بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء ، والخبر ( لا تقم ) التقدير : الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا ; أي لا تقم في مسجدهم ; قاله الكسائي . وقال النحاس : يكون خبر الابتداء لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم . وقيل : الخبر ( يعذبون ) كما تقدم . ونزلت الآية فيما روي في أبي عامر الراهب ; لأنه كان خرج إلى قيصر وتنصر ووعدهم قيصر أنه سيأتيهم ، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه ; قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم ، وقد تقدمت قصته في الأعراف وقال أهل التفسير : إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه ; فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجدا ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا ، ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام ; فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله ، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة ، والعلة والليلة المطيرة ، ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلينا لكم فيه فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد ، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار ; فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة ، فقال : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا مسرعين ، وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة نار ، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه ، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار ، ومعتب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وعباد بن الأزعر ، وعبادة بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف . وجارية بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية ، ونبتل بن الحارث ، وبحزج ، وبجاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت ، وثعلبة بن حاطب مذكور فيهم . قال أبو عمر بن عبد البر : وفيه نظر ; لأنه شهد بدرا . وقال عكرمة : سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد ؟ فقال : أعنت فيه بسارية . فقال : أبشر بها سارية في عنقك من نار جهنم .
الثانية : قوله تعالى ( ضرارا ) مصدر مفعول من أجله . وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا عطف كله . وقال أهل التأويل : ضرارا بالمسجد ، وليس للمسجد ضرار ، إنما هو لأهله . وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار ، من ضار ضار الله به ، ومن شاق شاق الله عليه . قال بعض العلماء : الضرر : الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة . والضرار : الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة . وقد قيل : هما بمعنى واحد ، تكلم بهما جميعا على جهة التأكيد .
الثالثة : قال علماؤنا : لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد ، ويجب هدمه ; والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا ، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ . وكذلك قالوا . لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة ، ويجب منع الثاني ، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه . وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه . وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته ، فقيل له : إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد ; فقال : لا أحب أن أصلي فيه ; لأنه بني على ضرار . قال علماؤنا : وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه . وقال النقاش : يلزم من هذا ألا يصلى في كنيسة ونحوها ; لأنها بنيت على شر .
قلت : هذا لا يلزم ; لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير ، وإن كان أصل بنائها على شر ، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا . وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة . وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل . وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم .
الرابعة : قال العلماء : إن من كان إماما لظالم لا يصلى وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم ; فقال : لا ولا نعمة عين‍‍‍‍‍‍‍!‍‍‍‍‍‍‍ أليس بإمام مسجد الضرار!فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت بهم فيه ، كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم . فعذره عمر رضي الله عنهما وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء .
الخامسة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال : من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره ، فما ظنك بسواه ، بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم . وذلك كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير . وضابط هذا الباب : أن من أدخل على أخيه ضررا منع . فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل ; فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول . مثال ذلك : رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل ، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن ، ومعلوم أن الاطلاع على العورات محرم وقد ورد النهي فيه ، فلحرمة الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين ، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما ، وهكذا الحكم في هذا الباب ، خلافا للشافعي ومن قال بقوله . قال أصحاب الشافعي : لو حفر رجل في ملكه بئرا وحفر آخر في ملكه بئرا يسرق منها ماء البئر الأولة جاز ; لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك . ومثله عندهم : لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفا يفسده عليه لم يكن له منعه ; لأنه تصرف في ملكه . والقرآن والسنة يردان هذا القول . وبالله التوفيق .
ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه ، كدخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب ، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه . وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب ; فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه ، وليس مما يستحق به شيء ; فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعة خفيفة . وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه .
السادسة : ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها ، يعني مسا من الجن ، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أو دنا منها يشتد ذلك بها . فقال مالك : لا أرى أن يقربها ، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها .
السابعة : قوله تعالى ( وكفرا ) لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد ; قاله ابن العربي . وقيل : ( وكفرا ) أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ; قاله القشيري وغيره .
الثامنة : قوله تعالى وتفريقا بين المؤمنين أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة ، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة ، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد .
التاسعة : تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال : لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين ; خلافا لسائر العلماء . وقد روي عن الشافعي المنع ; حيث كان تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول : من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام ، وخفي ذلك عليهم . قال ابن العربي : وهذا كان شأنه معهم ، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة .
العاشرة : قوله تعالى وإرصادا لمن حارب الله ورسوله يعني أبا عامر الراهب ; وسمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافرا بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ; فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ; فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين . فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم يستنصر ، وأرسل إلى المنافقين وقال : استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمدا من المدينة ; فبنوا مسجد الضرار . وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل الملائكة . والإرصاد : الانتظار ; تقول : أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبا له به . قال أبو زيد : يقال رصدته وأرصدته في الخير ، وأرصدت له في الشر . وقال ابن الأعرابي : لا يقال إلا أرصدت ، ومعناه ارتقبت .
وقوله تعالى ( من قبل ) أي من قبل بناء مسجد الضرار .
وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى ، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة . وهذا يدل على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات ; ولذلك قال : وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى . والله يشهد إنهم لكاذبون أي يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features