أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)

أمرهم أن يعتبروا بالأمم السالفة فقال: { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي: كم تتابع إهلاكنا للأمم المكذبين، وأمهلناهم قبل ذلك الإهلاك، بأن { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ } لهؤلاء من الأموال والبنين والرفاهية. { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } فينبت لهم بذلك ما شاء الله، من زروع وثمار، يتمتعون بها، ويتناولون منها ما يشتهون، فلم يشكروا الله على نعمه، بل أقبلوا على الشهوات، وألهتهم أنواع اللذات، فجاءتهم رسلهم بالبينات، فلم يصدقوها، بل ردوها وكذبوها فأهلكهم الله بذنوبهم وأنشأ { مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } فهذه سنة الله ودأبه، في الأمم السابقين واللاحقين، فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)

قوله عز وجل : ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) يعني : الأمم الماضية ، والقرن : الجماعة من الناس ، وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدة من الزمان ، يقال ثمانون سنة ، وقيل : ستون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ثلاثون سنة ، ويقال : مائة سنة ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بسر المازني : " إنك تعيش قرنا " ، فعاش مائة سنة
فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن ، ( مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) أي : أعطيناهم ما لم نعطكم ، وقال ابن عباس : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعاد وثمود ، يقال : مكنته ومكنت له ، ( وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ) يعني : المطر ، مفعال ، من الدر ، قال ابن عباس : مدرارا أي : متتابعا في أوقات الحاجات ، وقوله : " ما لم نمكن لكم " من خطاب التلوين ، رجع من الخبر من قوله : " ألم يروا " إلى خطاب ، كقوله : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) [ يونس ، 22 ] .
وقال أهل البصرة : أخبر عنهم بقوله " ألم يروا " وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم خاطبهم معهم ، والعرب تقول : قلت لعبد الله : ما أكرمه ، وقلت لعبد الله : ما أكرمك ، ( وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا ) خلقنا وابتدأنا ، ( من بعدهم قرنا آخرين )
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)

القول في تأويل قوله : أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ألم يرَ هؤلاء المكذبون بآياتي، الجاحدون نبوّتك, كثرةَ من أهلكت من قبلهم من القُرون = وهم الأمم = الذين وطَّأت لهم البلادَ والأرض توطئة لم أوطِّئها لهم, (20) وأعطيتهم فيها ما لم أعطهم؟ كما:-
13072 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم " ، يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم .
* * *
قال أبو جعفر: أمطرت فأخرجت لهم الأشجارُ ثمارها, وأعطتهم الأرض رَيْع نَباتها, وجابوا صخورَ جبالها, ودرَّت عليهم السماء بأمطارها, وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني, فغمَطُوا نعمة ربهم، وعصوا رسولَ خالقهم، وخالفوا أمرَ بارئهم, وبغَوْا حتى حقَّ عليهم قَوْلي, فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم، وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم, وأهلكت بعضهم بالرَّجفة، وبعضهم بالصيحة، وغير ذلك من أنواع العذاب .
* * *
ومعنى قوله: " وأرسلنا السماء عليهم مدرارًا " ، المطرَ. ويعني بقوله: " مدرارًا "، غزيرة دائمةً =" وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " ، يقول: وأحدثنا من بعد الذين أهلكناهم قرنًا آخرين، فابتدأنَا سِواهم .
* * *
فإن قال قائل: فما وجهُ قوله: " مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم " ؟ ومن المخاطب بذلك؟ فقد ابتدأ الخبر في أول الآية عن قوم غَيَبٍ بقوله: " ألم يروا كم أهلكنا من قَبَلهم من قرن " ؟
قيل: إن المخاطب بقوله: " ما لم نمكن لكم " ، هو المخبر عنهم بقوله: " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن " ، ولكن في الخبر معنى القول = ومعناه: قُلْ، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين كذبوا بالحقِّ لما جاءهم: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قَرْن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم.
والعرب إذا أخبرت خبرًا عن غائبٍ ، وأدخلت فيه " قولا "، فعلت ذلك، فوجهت الخبرَ أحيانًا إلى الخبر عن الغائب, وأحيانًا إلى الخطاب, فتقول: " قلت لعبد الله: ما أكرمه ", و " قلت لعبد الله: ما أكرمك ", وتخبر عنه أحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، ثم تعود إلى الخطاب. وتخبر على وجه الخطاب له، ثم تعود إلى الخبر عن الغائب. وذلك في كلامها وأشعارها كثيرٌ فاشٍ. وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . (21)
* * *
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك: كأنه أخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خاطبه معهم. وقال: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [سورة يونس: 22] ، فجاء بلفظ الغائب، وهو يخاطب, لأنه المخاطَب .
---------------------
الهوامش :
(20) في المطبوعة: "وطأة لم أوطئها" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(21) انظر ما سلف 1: 153 - 154/ 2 : 293 ، 294 ، 357 ، 388/ 3 : 170/ 6 : 564.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)

قوله تعالى : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين
قوله تعالى : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن كم في موضع نصب بأهلكنا لا بقوله ألم يروا لأن لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وإنما يعمل فيه ما بعده ، من أجل أن له صدر الكلام . والمعنى : ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم ، أي ألم يعرفوا ذلك ، والقرن الأمة من الناس . والجمع القرون ; قال الشاعر :
إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب
فالقرن كله عالم في عصره مأخوذ من الاقتران ، أي : عالم مقترن به بعضهم إلى بعض ; وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خير الناس قرني - يعني أصحابي - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم هذا أصح ما قيل فيه . وقيل : المعنى من أهل قرن فحذف كقوله : واسأل القرية . فالقرن على هذا مدة من الزمان ; قيل : ستون عاما وقيل سبعون ، وقيل : ثمانون ; وقيل : مائة ; وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القرن مائة سنة ; واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بسر : تعيش قرنا فعاش مائة سنة ; ذكره النحاس . وأصل القرن الشيء الطالع كقرن ما له قرن من الحيوان . مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم خروج من الغيبة إلى الخطاب ; عكسه حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة . وقال أهل البصرة أخبر عنهم بقوله ألم يروا وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه ; ثم خاطبهم معهم ; والعرب تقول : قلت لعبد الله ما أكرمه : وقلت لعبد الله ما أكرمك ; ولو جاء على ما تقدم من الغيبة لقال : ما لم نمكن لهم . ويجوز مكنه ومكن له ; فجاء باللغتين جميعا ; أي : أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا . وأرسلنا السماء عليهم مدرارا يريد المطر الكثير ; عبر عنه بالسماء لأنه من السماء ينزل ; ومنه قول الشاعر : ( وهو معاوية بن مالك )
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
مدرارا بناء دال على التكثير ; كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور ; ومئناث للمرأة التي تلد الإناث ; يقال : در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة . وانتصب مدرارا على الحال . وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم أي : من تحت أشجارهم ومنازلهم ; ومنه قول فرعون : وهذه الأنهار تجري من تحتي والمعنى : وسعنا عليهم النعم فكفروها . فأهلكناهم بذنوبهم أي : بكفرهم فالذنوب سبب الانتقام وزوال النعم . وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين أي : أوجدنا ; فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا .
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)

ثم قال تعالى واعظا ومحذرا لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة ، وأكثر جمعا ، وأكثر أموالا وأولادا واستغلالا للأرض وعمارة لها ، فقال ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) أي : من الأموال والأولاد والأعمار ، والجاه العريض ، والسعة والجنود ( وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ) أي : شيئا بعد شيء ( وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ) أي : أكثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض ، أي : استدراجا وإملاء لهم ( فأهلكناهم بذنوبهم ) أي : بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها ( وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) أي : فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث ( وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) أي : جيلا آخر لنختبرهم ، فعملوا مثل أعمالهم فهلكوا كهلاكهم . فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم [ مثل ] ما أصابهم ، فما أنتم بأعز على الله منهم ، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم ، فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم ، لولا لطفه وإحسانه .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features