فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)

يقول تعالى ‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ‏}‏ أي‏:‏ التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين، وهي أشهر التسيير الأربعة، وتمام المدة لمن له مدة أكثر منها، فقد برئت منهم الذمة‏.‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏ في أي مكان وزمان، ‏{‏وَخُذُوهُمْ‏}‏ أسرى ‏{‏وَاحْصُرُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ضيقوا عليهم، فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد اللّه وأرضه، التي جعلها ‏[‏الله‏]‏ معبدا لعباده‏.‏ فهؤلاء ليسوا أهلا لسكناها، ولا يستحقون منها شبرا، لأن الأرض أرض اللّه، وهم أعداؤه المنابذون له ولرسله، المحاربون الذين يريدون أن يخلو الأرض من دينه، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏.‏ ‏{‏وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ‏}‏ أي‏:‏ كل ثنية وموضع يمرون عليه، ورابطوا في جهادهم وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك، ولا تزالوا على هذا الأمر حتى يتوبوا من شركهم‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا‏}‏ من شركهم ‏{‏وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ‏}‏ أي‏:‏ أدوها بحقوقها ‏{‏وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ لمستحقيها ‏{‏فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ اتركوهم، وليكونوا مثلكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ يغفر الشرك فما دونه، للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة، ثم قبولها منهم‏.‏ وفي هذه الآية، دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة، فإنه يقاتل حتى يؤديهما، كما استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه‏.‏
فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)

قوله تعالى ( فإذا انسلخ ) انقضى ومضى ( الأشهر الحرم ) قيل : هي الأشهر الأربعة : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .
وقال مجاهد وابن إسحاق : هي شهور العهد ، فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ، ومن لا عهد له : فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوما ، وقيل لها " حرم " لأن الله تعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم .
فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم والله تعالى يقول : " فإذا انسلخ الأشهر الحرم " ؟
قيل : لما كان هذا القدر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم .
قوله تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) في الحل والحرم ، ( وخذوهم ) وأسروهم ، ( واحصروهم ) أي : احبسوهم .
قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد إن تحصنوا فاحصروهم ، أي : امنعوهم من الخروج .
وقيل : امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام .
( واقعدوا لهم كل مرصد ) أي : على كل طريق ، والمرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو ، من رصدت الشيء أرصده : إذا ترقبته ، يريد : كونوا لهم رصدا لتأخذوهم من أي وجه توجهوا .
وقيل : اقعدوا لهم بطريق مكة ، حتى لا يدخلوها . ( فإن تابوا ) من الشرك ، ( وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) يقول : دعوهم فليتصرفوا في أمصارهم ويدخلوا مكة ، ( إن الله غفور ) لمن تاب ، ( رحيم ) به .
وقال الحسين بن الفضل : هذه الآية نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء .
فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)

اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا ، ما هي ؟ فذهب ابن جرير إلى أنها [ الأربعة ] المذكورة في قوله تعالى : ( منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) الآية [ التوبة : 36 ] قاله أبو جعفر الباقر ، لكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإليه ذهب الضحاك أيضا ، وفيه نظر ، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه ، وبه قال مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن إسحاق ، وقتادة ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها في قوله : ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) [ التوبة : 2 ] ثم قال ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) أي : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم ، وأجلناهم فيها ، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ؛ ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة .
وقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) أي : من الأرض . وهذا عام ، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) [ البقرة : 191 ] .
وقوله : ( وخذوهم ) أي : وأسروهم ، إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا .
وقوله : ( واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) أي : لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم ، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم ، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع ، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ؛ ولهذا قال : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم )
ولهذا اعتمد الصديق - رضي الله عنه - في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال ، وهي الدخول في الإسلام ، والقيام بأداء واجباته . ونبه بأعلاها على أدناها ، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق الله - عز وجل - وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج ، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة ، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة الحديث .
وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومن لم يزك فلا صلاة له .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا حميد الطويل ، عن أنس ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم .
ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث عبد الله بن المبارك ، به .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس [ عن أنس ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا يشرك به شيئا ، فارقها والله عنه راض - قال : وقال أنس : هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هرج الأحاديث ، واختلاف الأهواء ، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل ، قال الله تعالى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) - قال : توبتهم خلع الأوثان ، وعبادة ربهم ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ثم قال في آية أخرى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) [ التوبة : 11 ] .
ورواه ابن مردويه .
ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " له : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنبأنا حكام بن سلم حدثنا أبو جعفر الرازي ، به سواء .
وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم : إنها نسخت كل عهد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أحد من المشركين ، وكل عهد ، وكل مدة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة ، منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم ، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل أربعة أشهر ، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ، ونقض ما كان سمى لهم من العقد والميثاق ، وأذهب الشرط الأول .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان قال علي بن أبي طالب : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف : سيف في المشركين من العرب قال الله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ وخذوهم ] )
هكذا رواه مختصرا ، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب في قوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ] والسيف الثالث : قتال المنافقين في قوله : ( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ) [ واغلظ عليهم ] ) [ التوبة : 73 ، والتحريم : 9 ] والرابع : قتال الباغين في قوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) [ الحجرات : 9 ] .
ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه ، فقال الضحاك والسدي : هي منسوخة بقوله تعالى : ( فإما منا بعد وإما فداء ) [ محمد : 4 ] وقال قتادة بالعكس .
فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)

قوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم
فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم أي خرج ، وسلخت الشهر إذا صرت في أواخر أيامه ، تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجت منه . وقال الشاعر :
إذا ما سلخت الشهر أهللت قبله كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
وانسلخ الشهر وانسلخ النهار من الليل المقبل . وسلخت المرأة درعها نزعته وفي التنزيل : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار . ونخلة مسلاخ ، وهي التي ينتثر بسرها أخضر .
والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان : قيل هي الأشهر المعروفة ، ثلاثة سرد وواحد فرد . قال الأصم : أريد به من لا عقد له من المشركين ، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم ، وهو مدة خمسين يوما على ما ذكره ابن عباس ؛ لأن النداء كان بذلك يوم النحر . وقد تقدم هذا . وقيل : شهور العهد أربعة ، قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب . وقيل لها حرم لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير .
الثانية : قوله تعالى فاقتلوا المشركين عام في كل مشرك ، لكن السنة خصت منه ما تقدم بيانه في سورة ( البقرة ) من امرأة وراهب وصبي وغيرهم . وقال الله تعالى في أهل الكتاب : حتى يعطوا الجزية . إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب ، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم ، على ما يأتي بيانه . واعلم أن مطلق قوله : اقتلوا المشركين يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان ، إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة . ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار ، وبالحجارة وبالرمي من رءوس الجبال ، والتنكيس في الآبار ، تعلق بعموم الآية . وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوما من أهل الردة يجوز أن يكون ميلا إلى هذا المذهب ، واعتمادا على عموم اللفظ . والله أعلم .
الثالثة : قوله تعالى حيث وجدتموهم عام في كل موضع . وخص أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام ، كما سبق في سورة " البقرة " ثم اختلفوا ، فقال الحسين بن الفضل : نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء . وقال الضحاك والسدي وعطاء : هي منسوخة بقوله : فإما منا بعد وإما فداء . وأنه لا يقتل أسير صبرا ، إما أن يمن عليه وإما أن يفادى . وقال مجاهد وقتادة : بل هي ناسخة لقوله تعالى : فإما منا بعد وإما فداء وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل . وقال ابن زيد : الآيتان محكمتان . وهو الصحيح ؛ لأن المن والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم ، وهو يوم بدر كما سبق .
وقوله وخذوهم والأخذ هو الأسر . والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المن على ما يراه الإمام .
ومعنى واحصروهم يريد عن التصرف إلى بلادكم والدخول إليكم ، إلا أن تأذنوا لهم فيدخلوا إليكم بأمان .
الرابعة : قوله تعالى واقعدوا لهم كل مرصد المرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو ، يقال : رصدت فلانا أرصده ، أي رقبته . أي اقعدوا لهم في مواضع الغرة حيث يرصدون . قال عامر بن الطفيل :
ولقد علمت وما إخالك ناسيا أن المنية للفتى بالمرصد
وقال عدي :
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد
وفي هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة . ونصب ( كل ) على الظرف ، وهو اختيار الزجاج ، ويقال : ذهبت طريقا وذهبت كل طريق . أو بإسقاط الخافض ، التقدير : في كل مرصد وعلى كل مرصد ، فيجعل المرصد اسما للطريق . وخطأ أبو علي الزجاج في جعله الطريق ظرفا وقال : الطريق مكان مخصوص كالبيت والمسجد ، فلا يجوز حذف حرف الجر منه إلا فيما ورد فيه الحذف سماعا ، كما حكى سيبويه : دخلت الشام ودخلت البيت ، وكما قيل :
كما عسل الطريق الثعلب
الخامسة : قوله تعالى فإن تابوا أي من الشرك .
وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم هذه الآية فيها تأمل ، وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك ، ثم قال : فإن تابوا . والأصل أن القتل متى كان للشرك يزول بزواله ، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة ، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة . وهذا بين في هذا المعنى ، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين ، فلا سبيل إلى إلغائهما . نظيره قوله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال وقال ابن عباس : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه . وقال ابن العربي : فانتظم القرآن والسنة واطردا . ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر ، ومن ترك السنن متهاونا فسق ، ومن ترك النوافل لم يحرج ، إلا أن يجحد فضلها ؛ فيكفر ؛ لأنه يصير رادا على الرسول عليه السلام ما جاء به وأخبر عنه . واختلفوا فيمن ترك الصلاة من غير جحد لها ولا استحلال ، فروى يونس بن عبد الأعلى قال : سمعت ابن وهب يقول قال مالك : من آمن بالله وصدق المرسلين وأبى أن يصلي قتل ، وبه قال أبو ثور وجميع أصحاب الشافعي . وهو قول حماد بن زيد ومكحول ووكيع . وقال أبو حنيفة : يسجن ويضرب ولا يقتل ، وهو قول ابن شهاب وبه يقول داود بن علي . ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها . وقالوا : حقها الثلاث التي قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس . وذهبت جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها لغير عذر ، وأبى من أدائها وقضائها وقال لا أصلي فإنه كافر ، ودمه وماله حلالان ، ولا يرثه ورثته من المسلمين ، ويستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، وحكم ماله كحكم مال المرتد ، وهو قول إسحاق . قال إسحاق : وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا .
وقال ابن خويزمنداد : واختلف أصحابنا متى يقتل تارك الصلاة ، فقال بعضهم في آخر الوقت المختار ، وقال بعضهم : آخر وقت الضرورة ، وهو الصحيح من ذلك . وذلك أن يبقى من وقت العصر أربع ركعات إلى مغيب الشمس ، ومن الليل أربع ركعات لوقت العشاء ، ومن الصبح ركعتان قبل طلوع الشمس . وقال إسحاق : وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر .
السادسة : هذه الآية دالة على أن من قال : قد تبت أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحققة للتوبة ؛ لأن الله عز وجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ؛ ليحقق بهما التوبة . وقال في آية الربا وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم . وقال : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا وقد تقدم معنى هذا في سورة البقرة .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features