فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

قوله : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : فمن حاجك فيه أي جادلك وخاصمك يا محمد فيه ، أي في عيسى من بعد ما جاءك من العلم بأنه عبد الله ورسوله .
فقل تعالوا أي أقبلوا . وضع لمن له جلالة ورفعة ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال ، وسيأتي له مزيد بيان في ( الأنعام ) . ( ندع ) في موضع جزم . ( أبناءنا ) دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء ; وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول لهم : ( إن أنا دعوت فأمنوا ) . ثم نبتهل أي نتضرع في الدعاء ; عن ابن عباس . أبو عبيدة والكسائي : نلتعن . وأصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره . قال لبيد :
في كهول سادة من قومه نظر الدهر إليهم فابتهل
أي اجتهد في إهلاكهم . يقال : بهله الله أي لعنه . والبهل : اللعن . والبهل : الماء القليل . وأبهلته إذا خليته وإرادته . وبهلته أيضا . وحكى أبو عبيدة : بهله الله يبهله بهلة أي لعنه . قال ابن عباس : هم أهل نجران : السيد والعاقب وابن الحارث رؤساؤهم . فنجعل لعنة الله على الكاذبين
الثانية : هذه الآية من أعلام نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه دعاهم إلى المباهلة فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أعلمهم كبيرهم العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا فإن محمدا نبي مرسل ، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى ; فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حلة في صفر وألف حلة في رجب فصالحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بدلا من الإسلام .
الثالثة : قال كثير من العلماء : إن قوله عليه السلام في الحسن والحسين لما باهل ندع أبناءنا وأبناءكم وقوله في الحسن : إن ابني هذا سيد . مخصوص بالحسن والحسين أن يسميا ابني النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيرهما ; لقوله عليه السلام : كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي ولهذا قال بعض أصحاب الشافعي فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة : إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة ; وهو قول الشافعي . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " الأنعام والزخرف " إن شاء الله تعالى .
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

أي: { فمن } جادلك { وحاجك } في عيسى عليه السلام وزعم أنه فوق منزلة العبودية، بل رفعه فوق منزلته { من بعد ما جاءك من العلم } بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو، لأن الحق قد تبين، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله، قصده اتباع هواه، لا اتباع ما أنزل الله، فهذا ليس فيه حيلة، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته، فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين، هو وأحب الناس إليه من الأولاد والأبناء والنساء، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا، وعلموا أنهم إن لاعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولادهم فلم يجدوا أهلا ولا مالا وعوجلوا بالعقوبة، فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلانه، وهذا غاية الفساد والعناد، فلهذا قال تعالى { فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

القول في تأويل قوله : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " فمن حاجك فيه "، فمن جادلك، يا محمد، في المسيح عيسى ابن مريم. (31)
* * *
والهاء في قوله: " فيه "، عائدة على ذكر عيسى. وجائز أن تكون عائدة على " الحق " الذي قال تعالى ذكره: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ .
* * *
ويعني بقوله: " من بعد ما جاءك من العلم "، من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بيَّنته لك في عيسى أنه عبد الله =" فقل تعالوا "، هلموا فلندع = (32) " أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل "، يقول: ثم نلتعن.
* * *
يقال في الكلام: " ما لهُ؟ بَهَله الله " أي: لعنه الله =" وما له؟ عليه بُهْلةُ الله "، يريد اللعن، وقال لبيد، وذكر قومًا هلكوا فقال:
* نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهِلْ * (33)
يعني: دعا عليهم بالهلاك.
* * *
=" فنجعل لعنة الله على الكاذبين " منا ومنكم في أنه عيسى، (34) كما:-
7171 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم "، أي: في عيسى: أنه عبدُ الله ورسوله، من كلمة الله وروحه =" فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم "، إلى قوله: " على الكاذبين ".
7172 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم "، أي: من بعد ما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره =" فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم "، الآية. (35)
7173 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم "، يقول: من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم.
7174 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: " ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين "، قال: منا ومنكم.
7175 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، وحدثني ابن لهيعة، عن سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليتَ بيني وبيني أهل نجرانَ حجابًا فلا أراهم ولا يروني! من شْدّة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم. (36)
* * *
------------------------
الهوامش :
(31) انظر تفسير"حاج" فيما سلف 3: 120 ، 121 / 5: 429 / 6: 280.
(32) انظر تفسير"تعالوا" فيما يلي ص: 483 ، 485.
(33) ديوانه قصيدة 39 ، البيت: 81 وأساس البلاغة (بهل) ، وأمالي الشريف المرتضي 1: 45 ، من قصيدة مضى بعض أبياتها ، وهي من شعره الذي رثى فيه أربد:
وَأَرَى أَرْبَـــدَ قَـــدْ فَـــارَقَـنِي
وَمِـــنَ الأَرْزَاءِ رُزْءٌ ذُو جَــــلَلْ
مُمْقِـــرٌ مُــرٌّ عَــلَى أَعْدَائِــهِ,
وَعَــلَى الأَدْنَيْــنَ حُــلْوٌ كَالْعَسَـلْ
فِــي قُــرُومٍ سَــادَةٍ مِـنْ قَوْمِـهِ
نَظَــر الدَّهْــرُ إِلَيْهِــمْ فَــابْتَهَلْ
وهذا التفسير الذي ذكره الطبري لمعنى بيت لبيد ، جيد. وجيد أيضًا تفسير الزمخشري في أساس البلاغة قال: "فاجتهد في إهلاكهم". وكأن أجود تفسير للابتهال أن يقال: هو الاسترسال في الأمر ، والاجتهاد فيه ، ومعنى البيت: فاسترسل في أمرهم ، واجتهد في إهلاكهم فأفناهم. وأما قوله: "نظر الدهر إليهم" ، فقد قال الجوهري وغيره: "نظر الدهر إلى بني فلان فأهلكهم" ، فقال ابن سيده: "هو على المثل ، وقال: ولست على ثقة منه". وقال الزمخشري: "ونظر الدهر إليهم: أهلكهم" ، وهو تفسير سيئ ، إذا لم يكن في نسخة الأساس تحريف. وصواب المعنى أن يقال: "نظر الدهر إليهم" ، نظر إليهم مكبرًا أفعالهم ، فحسدهم على مآثرهم وشرفهم. كما يقال: "هو سيد منظور" ، أي: ترمقه الأبصار إجلالا. وإكبارًا. وإنما فسرته بالحسد ، لأنهم سموا الحسد"العين" ، فيقال: "عان الرجل يعينه عينًا ، فهو معين ومعيون" ، والنظر بالعين لا يزال مستعملا في الناس بمعنى الحسد ، وإنما أغفل شارحو بيت لبيد هذا المعنى.
(34) في المطبوعة: "في آية عيسى" ، وهذا لا معنى له هنا والصواب ما في المخطوطة ، وإنما أراد: الكاذبين منا ومنكم في أنه عيسى عبد الله ورسوله ، لا أنه"الله" تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ، وقد مضى في الأثر رقم 7164 ، قولهم: "ولكنه الله".
(35) الأثر: 7172- سيرة ابن هشام 2: 232 ، وهو من تتمة الآثار التي آخرها: 7169.
(36) الحديث: 7175- سليمان بن زياد الحضرمي المصري: تابعي ثقة ، وثقه ابن معين وغيره. وقال أبو حاتم: "شيخ صحيح الحديث".
عبد الله بن الحارث بن جزء بن عبد الله الزبيدي: صحابي نزل مصر ، وهو آخر من مات بها من الصحابة.
و"جزء": بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة. و"الزبيدي": بضم الزاي ، نسبة إلى القبيلة.
ووقع هنا في الإسناد قول ابن وهب: "وحدثني ابن لهيعة" - ومثل هذا يكون كثيرًا في الأسانيد: يحدث الرجل عن شيوخه بالأحاديث ، فيذكرها بحرف العطف ، عطف حديث على حديث ، وإسناد على إسناد ، فإذا حدث السامع عن الشيخ ، فقد يحذف حرف العطف وقد يذكره. والأمر قريب.
والحديث رواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر ، ص: 301 ، بنحوه ، عن عبد الملك بن مسلمة ، وأبي الأسود النضر بن عبد الجبار - كلاهما عن ابن لهيعة ، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي 2: 38 ، عن ابن جرير وحده.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features