فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

قوله تعالى : في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم
قوله تعالى : " ويسألونك عن اليتامى " إلى قوله " حكيم " فيه ثمان مسائل :
الأولى : روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : ( لما أنزل الله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن و إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية ، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له ، حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير الآية ، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه ) ، لفظ أبي داود . والآية متصلة بما قبل ؛ لأنه اقترن بذكر الأموال الأمر بحفظ أموال اليتامى . وقيل : إن السائل عبد الله بن رواحة . وقيل : كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم ، فنزلت هذه الآية .
الثانية : لما أذن الله جل وعز في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم وفيهم كان ذلك دليلا على جواز التصرف في مال اليتيم ؛ تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك ، على الإطلاق لهذه الآية . فإذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله وإن لم يقدمه وال عليه ؛ لأن الآية مطلقة والكفالة ولاية عامة . لم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمتهم ، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم .
الثالثة : تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه ، وفي جواز خلط ماله بماله دلالة على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح ، وجواز دفعه مضاربة ، إلى غير ذلك على ما نذكره مبينا . واختلف في عمله هو قراضا ، فمنعه أشهب ، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشتري لها . وقال غيره : إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه أمضي ، كشرائه شيئا لليتيم بتعقب فيكون أحسن لليتيم . قال محمد بن عبد الحكم : وله أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرا . قال ابن كنانة : وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب ، ومصلحته بقدر حاله وحال من يزوج إليه ، وبقدر كثرة ماله . قال : وكذلك في ختانه ، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان فيأمره بالقصد ، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز ، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز . ودل الظاهر على أن ولي اليتيم يعلمه أمر الدنيا والآخرة ، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات . وإذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " النساء " إن شاء الله تعالى .
الرابعة : ولما ينفقه الوصي والكفيل من مال اليتيم حالتان : حالة يمكنه الإشهاد عليه ، فلا يقبل قوله إلا ببينة . وحالة لا يمكنه الإشهاد عليه فقوله مقبول بغير بينة ، فمهما اشترى من العقار وما جرت العادة بالتوثق فيه لم يقبل قوله بغير بينة . قال ابن خويزمنداد : ولذلك فرق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصي ينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته وكسوته ؛ لأنه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ويلبسه في كل وقت ، ولكن إذا قال : أنفقت نفقة لسنة قبل منه ، وبين أن يكون عند أمه أو حاضنته فيدعي الوصي أنه كان ينفق عليه ، أو كان يعطي الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة .
الخامسة : واختلف العلماء في الرجل ينكح نفسه من يتيمته ، وهل له أن يشتري لنفسه من مال يتيمه أو يتيمته ؟ فقال مالك : ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة ، حتى قال في الأعراب الذين يسلمون أولادهم في أيام المجاعة : إنهم ينكحونهم إنكاحهم ، فأما إنكاح الكافل والحاضن لنفسه فيأتي في " النساء " بيانه ، إن شاء الله تعالى . وأما الشراء منه فقال مالك : يشتري في مشهور الأقوال ، وكذلك قال أبو حنيفة : له أن يشتري مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن المثل ؛ لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن . وقال الشافعي : لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع ؛ لأنه لم يذكر في الآية التصرف ، بل قال : إصلاح لهم خير من غير أن يذكر فيه الذي يجوز له النظر . وأبو حنيفة يقول : إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه . والشافعي لا يرى في التزويج إصلاحا إلا من جهة دفع الحاجة ، ولا حاجة قبل البلوغ . وأحمد بن حنبل يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح . والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي ، وللأب في حق ولده الذي ماتت أمه لا بحكم هذه الآية . وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن . وهذه المذاهب نشأت من هذه الآية ، فإن ثبت كون التزويج إصلاحا فظاهر الآية يقتضي جوازه . ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى : ويسألونك عن اليتامى أي يسألك القوام على اليتامى الكافلون لهم ، وذلك مجمل لا يعلم منه عين الكافل والقيم وما يشترط فيه من الأوصاف .
فإن قيل : يلزم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع إذ جوز له الشراء من يتيمه ، فالجواب أن ذلك لا يلزم ، وإنما يكون ذلك ذريعة فيما يؤدى من الأفعال المحظورة إلى محظورة منصوص عليها ، وأما هاهنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة ، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله : والله يعلم المفسد من المصلح وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال فيه : إنه يتذرع إلى محظور به فيمنع منه ، كما جعل الله النساء مؤتمنات على فروجهن ، مع عظيم ما يترتب على قولهن في ذلك من الأحكام ، ويرتبط به من الحل والحرمة والأنساب ، وإن جاز أن يكذبن . وكان طاوس إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ : والله يعلم المفسد من المصلح . وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه في مال اليتيم أن يجتمع نصحاؤه فينظرون الذي هو خير له ، ذكره البخاري . وفي هذا دلالة على جواز الشراء منه لنفسه ، كما ذكرنا . والقول الآخر أنه لا ينبغي للولي أن يشتري مما تحت يده شيئا ، لما يلحقه في ذلك من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملإ من الناس . وقال محمد بن عبد الحكم : لا يشتري من التركة ، ولا بأس أن يدس من يشتري له منها إذا لم يعلم أنه من قبله .
السادسة : قوله تعالى : وإن تخالطوهم فإخوانكم هذه المخالطة كخلط المثل بالمثل كالتمر بالتمر . وقال أبو عبيد : مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه ، ولا يجد بدا من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله ، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان ، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه . قال أبو عبيد : وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية ، وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته ، وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه ، فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعا كان في غيرهم أوسع ، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس .
السابعة : قوله تعالى : فإخوانكم خبر لمبتدإ محذوف ، أي فهم إخوانكم ، والفاء جواب الشرط . وقوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح تحذير ، أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح لها ، فيجازي كلا على إصلاحه وإفساده .
الثامنة : قوله تعالى : ولو شاء الله لأعنتكم روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس : ولو شاء الله لأعنتكم قال : ( لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا ) . وقيل : لأعنتكم لأهلككم ، عن الزجاج وأبي عبيدة . وقال القتبي : لضيق عليكم وشدد ، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم . وقيل : أي لكلفكم ما يشتد عليكم أداؤه وأثمكم في مخالطتهم ، كما فعل بمن كان قبلكم ، ولكنه خفف عنكم . والعنت : المشقة ، وقد عنت وأعنته غيره . ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه : قد أعنته ، فهو عنت ومعنت . وعنتت الدابة تعنت عنتا : إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه جري . وأكمة عنوت : شاقة المصعد . وقال ابن الأنباري : أصل العنت التشديد ، فإذا قالت العرب : فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادها يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه ، ثم نقلت إلى معنى الهلاك . والأصل ما وصفنا .
قوله تعالى : إن الله عزيز أي لا يمتنع عليه شيء . حكيم يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه ، جل وتعالى علوا كبيرا .
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

وقوله : ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) أي : كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها ، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ، ووعيده ، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو أسامة ، عن الصعق العيشي قال : شهدت الحسن وقرأ هذه الآية من البقرة : ( لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) قال : هي والله لمن تفكر فيها ، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ، ثم دار فناء ، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ، ثم دار بقاء .
وهكذا قال قتادة ، وابن جريج ، وغيرهما .
وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة : لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا . وفي رواية عن قتادة : فآثروا الآخرة على الأولى .
[ وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) [ آل عمران : 190 ] آثارا كثيرة عن السلف في معنى التفكر والاعتبار ] .
وقوله : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم ) الآية : قال ابن جرير :
حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الإسراء : 34 ] و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه من طرق ، عن عطاء بن السائب ، به . وكذا رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وكذا رواه السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود بمثله . وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
قال وكيع بن الجراح : حدثنا هشام الدستوائي عن حماد ، عن إبراهيم قال : قالت عائشة :
إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عرة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي .
فقوله : ( قل إصلاح لهم خير ) أي : على حدة ( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) أي : وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ، فلا بأس عليكم ; لأنهم إخوانكم في الدين ; ولهذا قال : ( والله يعلم المفسد من المصلح ) أي : يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح .
وقوله : ( ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ) أي : ولو شاء لضيق عليكم وأحرجكم ولكنه وسع عليكم ، وخفف عنكم ، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، كما قال : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الأنعام : 152 ] ، ، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجانا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features