فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما واختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء ، وهي :
الثالثة : قال المفسرون : كان شركا في التسمية والصفة ، لا في العبادة والربوبية . وقال أهل المعاني : إنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحارث ، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد فسمياه به كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له ، لا على أن الضيف ربه ; كما قال حاتم :
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا وما في إلا تيك من شيمة العبد
وقال قوم : إن هذا راجع إلى جنس الآدميين والتبيين عن حال المشركين من ذرية آدم عليه السلام ، وهو الذي يعول عليه . فقوله : جعلا له يعني الذكر والأنثى الكافرين ، ويعني به الجنسين . ودل على هذا فتعالى الله عما يشركون ولم يقل يشركان . وهذا قول حسن . وقيل : المعنى هو الذي خلقكم من نفس واحدة من هيئة واحدة وشكل واحد وجعل منها زوجها أي من جنسها فلما تغشاها يعني الجنسين . وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية ; فإذا آتاهما الولد صالحا سليما سويا كما أراداه صرفاه عن الفطرة إلى الشرك ، فهذا فعل المشركين . قال صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية : على هذه الملة - وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه . قال عكرمة : لم يخص بها آدم ، ولكن جعلها عامة لجميع الخلق بعد آدم . وقال الحسين بن الفضل : وهذا أعجب إلى أهل النظر ; لما في القول الأول من المضاف من العظائم بنبي الله آدم . وقرأ أهل المدينة وعاصم " شركا " على التوحيد . وأبو عمرو وسائر أهل الكوفة بالجمع ، على مثل فعلاء ، جمع شريك . وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى ، وهي صحيحة على حذف المضاف ، أي جعلا له ذا شرك ; مثل " واسأل القرية " فيرجع المعنى إلى أنهم جعلوا له شركاء .
الرابعة : ودلت الآية على أن الحمل مرض من الأمراض . روى ابن القاسم ويحيى عن مالك قال : أول الحمل يسر وسرور ، وآخره مرض من الأمراض . وهذا الذي قاله مالك : " إنه مرض من الأمراض " يعطيه ظاهر قوله : دعوا الله ربهما وهذه الحالة مشاهدة في الحمال ، ولأجل عظم الأمر وشدة الخطب جعل موتها شهادة ; كما ورد في الحديث . وإذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حال المريض في أفعاله . ولا خلاف بين علماء الأمصار أن فعل المريض فيما يهب ويحابي في ثلثه . وقال أبو حنيفة والشافعي : وإنما يكون ذلك في الحامل بحال الطلق ، فأما قبل ذلك فلا . واحتجوا بأن الحمل عادة والغالب فيه السلامة . قلنا : كذلك أكثر الأمراض غالبه السلامة ، وقد يموت من لم يمرض . الخامسة : قال مالك : إذا مضت للحامل ستة أشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء في مالها إلا في الثلث . ومن طلق زوجته وهي حامل طلاقا بائنا فلما أتى عليها ستة أشهر فأراد ارتجاعها لم يكن له ذلك ; لأنها مريضة ونكاح المريضة لا يصح . قال يحيى : وسمعت مالكا يقول في الرجل يحضر القتال : إنه إذا زحف في الصف للقتال لم يجز له أن يقضي في ماله شيئا إلا في الثلث ، وإنه بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه ما كان بتلك الحال . ويلتحق بهذا المحبوس للقتل في قصاص . وخالف في هذا أبو حنيفة والشافعي وغيرهما . قال ابن العربي : وإذا استوعبت النظر لم ترتب في أن المحبوس على القتل أشد حالا من المريض ، وإنكار ذلك غفلة في النظر ; فإن سبب الموت موجود عندهما ، كما أن المرض سبب الموت ، قال الله تعالى : ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون . وقال رويشد الطائي :
يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت
ومما يدل على هذا قوله تعالى : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر . فكيف يقول الشافعي وأبو حنيفة : الحال الشديدة إنما هي المبارزة ; وقد أخبر الله عز وجل عن مقاومة العدو وتداني الفريقين بهذه الحالة العظمى من بلوغ القلوب الحناجر ، ومن سوء الظنون بالله ، ومن زلزلة القلوب واضطرابها ; هل هذه حالة ترى على المريض أم لا ؟ هذا ما لا يشك فيه منصف ، وهذا لمن ثبت في اعتقاده ، وجاهد في الله حق جهاده ، وشاهد الرسول وآياته ; فكيف بنا ؟
السابعة : وقد اختلف علماؤنا في راكب البحر وقت الهول ; هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل . فقال ابن القاسم : حكمه حكم الصحيح . وقال ابن وهب وأشهب : حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر . قال القاضي أبو محمد : وقولهما أقيس ; لأنها حالة خوف على النفس كإثقال الحمل . قال ابن العربي : وابن القاسم لم يركب البحر ، ولا رأى دودا على عود . ومن أراد أن يوقن بالله أنه الفاعل وحده لا فاعل معه ، وأن الأسباب ضعيفة لا تعلق لموقن بها ، ويتحقق التوكل والتفويض فليركب البحر .
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

( فلما آتاهما صالحا ) بشرا سويا ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) قرأ أهل المدينة وأبو بكر : " شركا " بكسر الشين والتنوين ، أي : شركة . قال أبو عبيدة : أي حظا ونصيبا ، وقرأ الآخرون : " شركاء " بضم الشين ممدودا على جمع شريك ، يعني : إبليس ، أخبر عن الواحد بلفظ الجمع . أي : جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث ، ولم يكن هذا إشراكا في العبادة ولا أن الحارث ربهما ، فإن آدم كان نبيا معصوما من الشرك ، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه ، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك ، كما يطلق اسم الرب على ما لا يراد به أنه معبود هذا ، كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف ، على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه ، ويقول للغير : أنا عبدك . وقال يوسف لعزيز مصر : إنه ربي ، ولم يرد به أنه معبوده ، كذلك هذا .
وقوله : ( فتعالى الله عما يشركون ) قيل : هذا ابتداء كلام وأراد به إشراك أهل مكة ، ولئن أراد به ما سبق فمستقيم من حيث أنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم .
وفي الآية قول آخر : وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم ، وهو قول الحسن وعكرمة ، ومعناه : جعل أولادهما شركاء ، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم ، كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم بفعل الآباء فقال : " ثم اتخذتم العجل " ، " وإذ قتلتم نفسا " خاطب به اليهود الذين كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ذلك الفعل من آبائهم . وقيل : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا ، وقال ابن كيسان : هم الكفار سموا أولادهم عبد العزى وعبد اللات وعبد مناة ونحوه . وقال عكرمة : خاطب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم أي خلق كل واحد من أبيه وجعل منها زوجها ، أي : جعل من جنسها زوجها ، وهذا قول حسن ، لولا قول السلف مثل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة المفسرين أنه في آدم وحواء .
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

تفسير الآيتين 190 و191:ـ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا على وفق ما طلبا، وتمت عليهما النعمة فيه جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا أي: جعلا للّه شركاء في ذلك الولد الذي انفرد اللّه بإيجاده والنعمة به، وأقرَّ به أعين والديه، فَعَبَّدَاه لغير اللّه. إما أن يسمياه بعبد غير اللّه كـ "عبد الحارث" و "عبد العزيز" و "عبد الكعبة" ونحو ذلك، أو يشركا باللّه في العبادة، بعدما منَّ اللّه عليهما بما منَّ من النعم التي لا يحصيها أحد من العباد. وهذا انتقال من النوع إلى الجنس، فإن أول الكلام في آدم وحواء، ثم انتقل إلى الكلام في الجنس، ولا شك أن هذا موجود في الذرية كثيرا، فلذلك قررهم اللّه على بطلان الشرك، وأنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم، سواء كان الشرك في الأقوال، أم في الأفعال، فإن الخالق لهم من نفس واحدة، الذي خلق منها زوجها وجعل لهم من أنفسهم أزواجا، ثم جعل بينهم من المودة والرحمة ما يسكن بعضهم إلى بعض، ويألفه ويلتذ به، ثم هداهم إلى ما به تحصل الشهوة واللذة والأولاد والنسل. ثم أوجد الذرية في بطون الأمهات، وقتا موقوتا، تتشوف إليه نفوسهم، ويدعون اللّه أن يخرجه سويا صحيحا، فأتم اللّه عليهم النعمة وأنالهم مطلوبهم. أفلا يستحق أن يعبدوه، ولا يشركوا به في عبادته أحدا، ويخلصوا له الدين. ولكن الأمر جاء على العكس، فأشركوا باللّه من لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features