وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)

قوله تعالى : وقد مكروا مكرهم أي بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة ; عن ابن عباس وغيره .
وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " إن " بمعنى " ما " أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال لضعفه ووهنه ;
وإن بمعنى " ما " في القرآن في مواضع خمسة : أحدها هذا . الثاني : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك . الثالث : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا أي ما كنا . الرابع : قل إن كان للرحمن ولد . الخامس : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه . وقرأ الجماعة " وإن كان " بالنون . وقرأ عمرو بن علي وابن مسعود وأبي " وإن كاد " بالدال . والعامة على كسر اللام في لتزول على أنها لام الجحود وفتح اللام الثانية نصبا . وقرأ ابن محيصن وابن جريج والكسائي لتزول بفتح اللام الأولى على أنها لام الابتداء ورفع الثانية وإن مخففة من الثقيلة ، ومعنى هذه القراءة استعظام مكرهم ; أي ولقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال تزول منه ; قال الطبري : الاختيار القراءة الأولى ; لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة ; قال أبو بكر الأنباري : ولا حجة على مصحف المسلمين في الحديث الذي حدثناه أحمد بن الحسين : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن دانيل قال سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول : إن جبارا من الجبابرة قال لا أنتهي حتى أعلم من في السماوات ، فعمد إلى فراخ نسور ، فأمر أن تطعم اللحم ، حتى اشتدت وعضلت واستعلجت أمر بأن يتخذ تابوت يسع فيه رجلين ; وأن يجعل فيه عصا في رأسها لحم شديد حمرته ، وأن يستوثق من أرجل النسور بالأوتاد ; وتشد إلى قوائم التابوت ، ثم جلس هو وصاحب له في التابوت وأثار النسور ، فلما رأت اللحم طلبته ، فجعلت ترفع التابوت حتى بلغت به ما شاء الله ; فقال الجبار لصاحبه : افتح الباب فانظر ما ترى ؟ فقال : أرى الجبال كأنها ذباب ، فقال : أغلق الباب ; ثم صعدت بالتابوت ما شاء الله أن تصعد ، فقال الجبار لصاحبه : افتح الباب فانظر ما ترى ؟ فقال : ما أرى إلا السماء وما تزداد منا إلا بعدا ، فقال : نكس العصا فنكسها ، فانقضت النسور . فلما وقع التابوت على الأرض سمعت له هدة كادت الجبال تزول عن مراتبها منها ; قال : فسمعت عليا - رضي الله عنه - يقرأ " وإن كان مكرهم لتزول " بفتح اللام الأولى من " لتزول " وضم الثانية . وقد ذكر الثعلبي هذا الخبر بمعناه ، وأن الجبار هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه ، وقال عكرمة : كان معه في التابوت غلام أمرد ، وقد حمل القوس والنبل فرمى بهما فعاد إليه ملطخا بالدماء وقال : كفيت نفسك إله السماء . قال عكرمة : تلطخ بدم سمكة من السماء ، قذفت نفسها إليه من بحر في الهواء معلق . وقيل : طائر من الطير أصابه السهم ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ، فهبطت النسور بالتابوت ، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ففزعت ، وظنت أنه قد حدث بها حدث من السماء ، وأن الساعة قد قامت ، فذلك قوله : وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . قال القشيري : وهذا جائز بتقدير خلق الحياة في الجبال . وذكر الماوردي عن ابن عباس : أن النمرود بن كنعان بنى الصرح في قرية الرس من سواد الكوفة ، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع وخمسين ذراعا ، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعا ، وصعد منه مع النسور ، فلما علم أنه لا سبيل له إلى السماء اتخذه حصنا ، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه . فأتى الله بنيانه من القواعد ، فتداعى الصرح عليهم فهلكوا جميعا ، فهذا معنى وقد مكروا مكرهم وفي الجبال التي عنى زوالها بمكرهم وجهان : أحدهما : جبال الأرض . الثاني : الإسلام والقرآن ; لأنه لثبوته ورسوخه كالجبال . وقال القشيري : وعند الله مكرهم أي هو عالم بذلك فيجازيهم أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف . وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال بكسر اللام ; أي ما كان مكرهم مكرا يكون له أثر وخطر عند الله تعالى ، فالجبال مثل لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : وإن كان مكرهم في تقديرهم لتزول منه الجبال وتؤثر في إبطال الإسلام . وقرئ " لتزول منه الجبال " بفتح اللام الأولى وضم الثانية ; أي كان مكرا عظيما تزول منه الجبال ، ولكن الله حفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو كقوله تعالى : ومكروا مكرا كبارا والجبال لا تزول ولكن العبارة عن تعظيم الشيء هكذا تكون .
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)

( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم ) أي : جزاء مكرهم ( وإن كان مكرهم ) قرأ علي وابن مسعود : ( وإن كان مكرهم ) بالدال ، وقرأ العامة بالنون .
( لتزول منه الجبال ) قرأ العامة لتزول بكسر اللام الأولى ونصب الثانية .
معناه : وما كان مكرهم .
قال الحسن : إن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال .
وقيل : معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال .
وقرأ ابن جريج ، والكسائي : " لتزول " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية ، معناه : إن مكرهم وإن عظم حتى بلغ محلا يزيل الجبال لم يقدروا على إزالة أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال قتادة : معناه وإن كان شركهم لتزول منه الجبال ، وهو قوله تعالى : ( وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا ) ( مريم - 19 ) .
ويحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معنى الآية : أنها نزلت في نمرود الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه ، وذلك أنه قال : إن كان ما يقول إبراهيم حقا فلا أنتهي حتى أصعد السماء فأعلم ما فيها ، فعمد إلى أربعة أفرخ من النسور فرباها حتى شبت واتخذ تابوتا ، وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل ، وقعد نمرود مع رجل في التابوت ، ونصب خشبات في أطراف التابوت ، وجعل على رءوسها اللحم ، وربط التابوت بأرجل النسور ، فطرن وصعدن طمعا في اللحم ، حتى مضى يوم وأبعدن في الهواء ، فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى ، وانظر إلى السماء هل قربناها ، ففتح [ الباب ونظر ] فقال : إن السماء كهيئتها ثم قال : افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ؟ ففعل ، فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان ، فطارت النسور يوما آخر ، وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران ، فقال لصاحبه : افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد ؟
قال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل معه القوس والنشاب ، فرمى بسهم فعاد إليه السهم متلطخا بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء - وقيل : طائر أصابه السهم - فقال : كفيت شغل إله السماء .
قال : ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوب الخشبات وينكص اللحم ، ففعل ، فهبطت النسور بالتابوت ، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ، ففزعت وظنت أنه قد حدث حدث من السماء ، وأن الساعة قد قامت ، فكادت تزول عن أماكنها ، فذلك قوله تعالى : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) .
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)

وقد روى شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن [ بن دابيل ] أن عليا - رضي الله عنه - قال في هذه الآية : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) قال : أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين ، فرباهما حتى استغلظا واستعلجا وشبا .
قال : فأوثق رجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت قال : - ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم - قال : فطارا [ قال ] وجعل يقول لصاحبه : انظر ما ترى ؟ قال : أرى كذا وكذا ، حتى قال : أرى الدنيا كلها كأنها ذباب . قال : فقال : صوب العصا ، فصوبها ، فهبطا . قال : فهو قول الله - عز وجل - : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " . قال أبو إسحاق : وكذلك هي في قراءة عبد الله : " وإن كاد مكرهم " .
قلت : وكذا روي عن أبي بن كعب ، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - أنهما قرآ : " وإن كاد " كما قرأ علي . وكذا رواه سفيان الثوري ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أذنان عن علي ، فذكر نحوه .
وكذا روي عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان : أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر ، كما رام ذلك بعده فرعون ملك القبط في بناء الصرح ، فعجزا وضعفا . وهما أقل وأحقر ، وأصغر وأدحر .
وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر ، وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها ، نودي أيها الطاغية : أين تريد ؟ ففرق ، ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح ، فصوبت النسور ، ففزعت الجبال من هدتها ، وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك ، فذلك قوله : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال )
ونقل ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها : " لتزول منه الجبال " بفتح اللام الأولى ، وضم الثانية .
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال . وكذا قال الحسن البصري ، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من كفرهم بالله وشركهم به ، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها ، وإنما عاد وبال ذلك على أنفسهم .
قلت : ويشبه هذا - إذا - قوله تعالى : ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) [ الإسراء : 37 ] .
والقول الثاني في تفسيرها : ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) يقول شركهم ، كقوله : ( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا ) [ مريم : 90 - 91 ] وهكذا قال الضحاك وقتادة .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features