إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئلاك هم الكافرون
قوله تعالى : أنزلنا التوراة فيها هدى ونور أي : بيان وضياء وتعريف أن محمدا صلى الله عليه وسلم حق . هدى في موضع رفع بالابتداء ونور عطف عليه يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا قيل : المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، وعبر عنه بلفظ الجمع ، وقيل : كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة ، وأن اليهود قالت : إن الأنبياء كانوا يهودا . وقالت النصارى : كانوا نصارى ; فبين الله عز وجل كذبهم . ومعنى أسلموا صدقوا بالتوراة من لدن موسى إلى زمان عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي ; ويقال : أربعة آلاف ، ويقال : أكثر من ذلك ، كانوا يحكمون بما في التوراة ، وقيل : معنى أسلموا خضعوا وانقادوا لأمر الله فيما بعثوا به ، وقيل : أي : يحكم بها النبيون الذين هم على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم والمعنى واحد . ومعنى ( للذين هادوا ) على الذين هادوا فاللام بمعنى " على " ، وقيل : المعنى يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وعليهم ، فحذف " عليهم " . الذين أسلموا هاهنا نعت فيه المدح مثل بسم الله الرحمن الرحيم . هادوا أي : تابوا من الكفر ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ; أي : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار ; أي : ويحكم بها الربانيون وهم الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره ; عن ابن عباس وغيره ، وقد تقدم في آل عمران ، وقال أبو رزين : الربانيون العلماء الحكماء والأحبار . قال ابن عباس : هم الفقهاء : والحبر والحبر الرجل العالم وهو مأخوذ من التحبير وهو التحسين ، فهم يحبرون العلم أي : يبينونه ويزينونه ، وهو محبر في صدورهم . قال مجاهد : الربانيون فوق العلماء ، والألف واللام للمبالغة . قال الجوهري : والحبر والحبر واحد أحبار اليهود ، وبالكسر أفصح : لأنه يجمع على أفعال دون الفعول ; قال الفراء : هو حبر بالكسر يقال ذلك للعالم ، وقال الثوري : سألت الفراء لم سمي الحبر حبرا ؟ فقال : يقال للعالم حبر وحبر فالمعنى مداد حبر ثم حذف كما قال : واسأل القرية أي : أهل القرية . قال : فسألت الأصمعي فقال : ليس هذا بشيء ; إنما سمي حبرا لتأثيره ، يقال : على أسنانه حبر أي : صفرة أو سواد ، وقال أبو العباس : سمي الحبر الذي يكتب به حبرا لأنه يحبر به أي : يحقق به ، وقال أبو عبيد : والذي عندي في واحد الأحبار الحبر بالفتح ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه . قال : وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح ، والحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر . والحبر أيضا الأثر والجمع حبور . عن يعقوب . بما استحفظوا من كتاب الله أي استودعوا من علمه ، والباء متعلقة ب " الربانيين والأحبار " كأنه قال : والعلماء بما استحفظوا . أو تكون متعلقة ب ( يحكم ) أي : يحكمون بما استحفظوا . وكانوا عليه شهداء أي : على الكتاب أنه من عند الله . ابن عباس : شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة . فلا تخشوا الناس أي : في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإظهار الرجم . واخشون أي : في كتمان ذلك ; فالخطاب لعلماء اليهود ، وقد يدخل بالمعنى كل من كتم حقا وجب عليه ولم يظهره ، وتقدم معنى ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا مستوفى .
قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون نزلت كلها في الكفار ; ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء ، وقد تقدم ، وعلى هذا المعظم . فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة . وقيل : فيه إضمار ; أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن ، وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر ; قاله ابن عباس ومجاهد ، فالآية عامة على هذا . قال ابن مسعود والحسن : هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي : معتقدا ذلك ومستحلا له ; فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين ، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له ، وقال ابن عباس في رواية : ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار ، وقيل : أي : ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ; فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية ، والصحيح الأول ، إلا أن الشعبي قال : هي في اليهود خاصة ، واختاره النحاس ; قال : ويدل على ذلك ثلاثة أشياء ; منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله : للذين هادوا ; فعاد الضمير عليهم ، ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك ; ألا ترى أن بعده وكتبنا عليهم فهذا الضمير لليهود بإجماع ; وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص . فإن قال قائل : " من " إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها ؟ قيل له : " من " هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الأدلة ; والتقدير : واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ; فهذا من أحسن ما قيل في هذا ; ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل ؟ قال : نعم هي فيهم ، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل ، وقيل : الكافرون للمسلمين ، والظالمون لليهود ، والفاسقون للنصارى ; وهذا اختيار أبي بكر بن العربي ، قال : لأنه ظاهر الآيات ، وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعبي أيضا . قال طاوس وغيره : ليس بكفر ينقل عن الملة ، ولكنه كفر دون كفر ، وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله ، فهو تبديل له يوجب الكفر ; وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين . قال القشيري : ومذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بغير حكم الله فهو كافر ، وعزي هذا إلى الحسن والسدي ، وقال الحسن أيضا : أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء : ألا يتبعوا الهوى ، وألا يخشوا الناس ويخشوه ، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا .
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

قوله عز وجل : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا ) أي : أسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى ، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام : " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " ( سورة البقرة ، 131 ) ، وكما قال : وله أسلم من في السماوات والأرض ( سورة آل عمران ، 83 ) ، وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة ، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة منهم عيسى عليه السلام ، قال الله سبحانه وتعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ( سورة المائدة 48 ) .
وقال الحسن والسدي : أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم ، ذكر بلفظ الجمع كما قال : " إن إبراهيم كان أمة قانتا " ( سورة النحل 120 ) .
وقوله تعالى : ( للذين هادوا ) فيه تقديم وتأخير ، تقديره : فيها هدى ونور للذين هادوا . ثم قال : يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون ، وقيل : هو على موضعه ، ومعناه : يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا ، كما قال : " وإن أسأتم فلها " ( سورة الإسراء 7 ) أي : فعليها ، وقال : " أولئك لهم اللعنة " ( سورة الرعد ، 25 ) أي : عليهم ، وقيل : فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا فحذف أحدهما اختصارا .
( والربانيون والأحبار ) يعني العلماء : واحدهم حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، والكسر أفصح ، وهو العالم المحكم للشيء ، قال الكسائي وأبو عبيد : هو من الحبر الذي يكتب به وقال قطرب هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال بفتح الحاء وكسرها ، وفي الحديث " يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره " أي : حسنه وهيئته ، ومنه التحبير وهو التحسين ، فسمي العالم حبرا لما عليه من جمال العلم وبهائه ، وقيل : الربانيون هاهنا من النصارى ، والأحبار من اليهود ، وقيل : كلاهما من اليهود .
قوله عز وجل : ( بما استحفظوا من كتاب الله ) أي : استودعوا من كتاب الله ، ( وكانوا عليه شهداء ) أنه كذلك .
( فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال قتادة والضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة . روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين ، وقيل : هي على الناس كلهم .
وقال ابن عباس وطاوس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، بل إذا فعله فهو به كافر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر .
قال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، وقال عكرمة معناه : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق .
وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات ، فقال : إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه ، فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك ، ثم لم يحكم بجميع ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات . وقال العلماء : هذا إذا رد نص حكم الله عيانا عمدا ، فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا .
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) أي : لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها ( والربانيون والأحبار ) أي : وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء ، والأحبار وهم العلماء ( بما استحفظوا من كتاب الله ) أي : بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به ( وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ) أي : لا تخافوا منهم وخافوني ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) فيه قولان سيأتي بيانهما .
سبب آخر لنزول هذه الآيات الكريمة .
قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) و ( فأولئك هم الظالمون ) [ المائدة : 45 ] ( فأولئك هم الفاسقون ) [ المائدة : 47 ] قال : قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فذلت الطائفتان كلتاهما ، لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويومئذ لم يظهر ، ولم يوطئهما عليه ، وهو في الصلح ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فأرسلت العزيزة إلى الذليلة : أن ابعثوا لنا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد : دية بعضهم نصف دية بعض . إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، وفرقا منكم ، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، ثم ذكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم ، فدسوا إلى محمد : من يخبر لكم رأيه ، إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه . فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله ، وما أرادوا ، فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) إلى قوله : ( الفاسقون ) ففيهم - والله - أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل .
ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه ، بنحوه .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا : حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآيات في " المائدة " ، قوله : ( فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) إلى ( المقسطين ) إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف ، تؤدى الدية كاملة ، وأن قريظة كانوا يودون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء - والله أعلم ؛ أي ذلك كان .
ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق .
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير وكانت النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق تمر . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت : ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط )
ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك ، من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه .
وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وابن زيد وغير واحد .
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس : أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، كما تقدمت الأحاديث بذلك . وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله ، والله أعلم .
ولهذا قال بعد ذلك : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ) إلى آخرها ، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم : نزلت في أهل الكتاب - زاد الحسن البصري : وهي علينا واجبة .
وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها . رواه ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال : من السحت : قال : فقالا وفي الحكم ؟ قال : ذاك الكفر ! ثم تلا ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )
وقال السدي : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) يقول : ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا ، أو جار وهو يعلم ، فهو من الكافرين [ به ]
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر . ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق . رواه ابن جرير .
ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب .
وقال عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا عن الشعبي : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) قال : للمسلمين .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر عن الشعبي : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : هذا في المسلمين ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) قال : هذا في اليهود ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) قال : هذا في النصارى .
وكذا رواه هشيم والثوري عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي .
وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله : ( ومن لم يحكم [ بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ] ) قال : هي به كفر - قال ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .
وقال الثوري عن ابن جريج عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . رواه ابن جرير .
وقال وكيع عن سفيان عن سعيد المكي عن طاوس : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : ليس بكفر ينقل عن الملة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس في قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه .
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن حديث سفيان بن عيينة وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ } على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام. { فِيهَا هُدًى } يهدي إلى الإيمان والحق، ويعصم من الضلالة { وَنُورٌ } يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك، والشبهات والشهوات، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ } { يَحْكُمُ بِهَا } بيـن الذيـن هـادوا، أي: اليـهود فـي القضايـا والفتـاوى { النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } لله وانقادوا لأوامره، الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم، وهم صفوة الله من العباد. فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام والسادة للأنام قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود من الاقتداء بها؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن، إلا بتلك العقيدة؟ هل لهم إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس، والتأكل بكتمان الحق، وإظهار الباطل، أولئك أئمة الضلال الذين يدعون إلى النار. وقوله: { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } أي: وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادواأئمة الدين من الربانيين، أي: العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية، ويسلكون معهم مسلك الأنبياء المشفقين. والأحبار أي: العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم، وترمق آثارهم، ولهم لسان الصدق بين أممهم. وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } أي: بسبب أن الله استحفظهم على كتابه، وجعلهم أمناء عليه، وهو أمانة عندهم، أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والكتمان، وتعليمه لمن لا يعلمه. وهم شهداء عليه، بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه، وفيما اشتبه على الناس منه، فالله تعالى قد حمل أهل العلم، ما لم يحمله الجهال، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا. وأن لا يقتدوا بالجهال، بالإخلاد إلى البطالة والكسل، وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة، من أنواع الذكر، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، ونحو ذلك من الأمور، التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا. وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم، فإنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، خصوصا الأمور الأصولية والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم، ولهذا قال: { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } فتكتمون الحق، وتظهرون الباطل، لأجل متاع الدنيا القليل، وهذه الآفات إذا سلم منها العالم فهو من توفيقه وسعادته، بأن يكون همه الاجتهاد في العلم والتعليم، ويعلم أن الله قد استحفظه ما أودعه من العلم واستشهده عليه، وأن يكون خائفا من ربه، ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم من القيام بما هو لازم له، وأن لا يؤثر الدنيا على الدين. كما أن علامة شقاوة العالم أن يكون مخلدا للبطالة، غير قائم بما أمر به، ولا مبال بما استحفظ عليه، قد أهمله وأضاعه، قد باع الدين بالدنيا، قد ارتشى في أحكامه، وأخذ المال على فتاويه، ولم يعلم عباد الله إلا بأجرة وجعالة. فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة، كفرها ودفع حظا جسيما، محروما منه غيره، فنسألك اللهم علما نافعا، وعملا متقبلا، وأن ترزقنا العفو والعافية من كل بلاء يا كريم. { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } من الحق المبين، وحكم بالباطل الذي يعلمه، لغرض من أغراضه الفاسدة { فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه. وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features