وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

يقول تعالى ناهيا لليهود عما كانوا يتعمدونه ، من تلبيس الحق بالباطل ، وتمويهه به وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) فنهاهم عن الشيئين معا ، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به ؛ ولهذا قال الضحاك ، عن ابن عباس ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب .
وقال أبو العالية : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) يقول : ولا تخلطوا الحق بالباطل ، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس ، نحوه .
وقال قتادة : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) [ قال ] ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام ؛ إن دين الله الإسلام ، واليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله .
وروي عن الحسن البصري نحو ذلك .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) أي : لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم . وروي عن أبي العالية نحو ذلك .
وقال مجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس : ( وتكتموا الحق ) يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم .
[ قلت : ( وتكتموا ) يحتمل أن يكون مجزوما ، ويجوز أن يكون منصوبا ، أي : لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . قال الزمخشري : وفي مصحف ابن مسعود : وتكتمون الحق أي : في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضا ، ومعناه : وأنتم تعلمون الحق ، ويجوز أن يكون المعنى : وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروجوه عليهم ، والبيان : الإيضاح ، وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل ] .
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

ثم قال: { وَلَا تَلْبِسُوا } أي: تخلطوا { الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } فنهاهم عن شيئين, عن خلط الحق بالباطل, وكتمان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم, تمييز الحق, وإظهار الحق, ليهتدي بذلك المهتدون, ويرجع الضالون, وتقوم الحجة على المعاندين؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته, ليميز الحق من الباطل, ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمن عمل بهذا من أهل العلم, فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم. ومن لبس الحق بالباطل, فلم يميز هذا من هذا, مع علمه بذلك, وكتم الحق الذي يعلمه, وأمر بإظهاره, فهو من دعاة جهنم, لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم, فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين.
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

قوله تعالى : ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون
ولا تلبسوا الحق بالباطل اللبس : الخلط لبست عليه الأمر ألبسه ، إذا مزجت بينه بمشكله ، وحقه بباطله قال الله تعالى وللبسنا عليهم ما يلبسون وفي الأمر لبسة أي ليس بواضح ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط يا حارث ( إنه ملبوس عليك ، إن الحق لا يعرف بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله . ) وقالت الخنساء :
ترى الجليس يقول الحق تحسبه رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا صدق مقالته واحذر عداوته
والبس عليه أمورا مثل ما لبسا
وقال العجاج :
لما لبسن الحق بالتجني غنين واستبدلن زيدا مني
روى سعيد عن قتادة في قوله : ولا تلبسوا الحق بالباطل ، يقول : لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله - الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به - الإسلام وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله . والظاهر من قول عنترة :
وكتيبة لبستها بكتيبة
أنه من هذا المعنى ، ويحتمل أن يكون من اللباس . وقد قيل هذا في معنى الآية ، أي لا تغطوا ومنه لبس الثوب يقال لبست الثوب ألبسه ولباس الرجل زوجته وزوجها لباسها قال الجعدي
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت عليه فكانت لباسا
وقال الأخطل :
وقد لبست لهذا الأمر أعصره حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا
واللبوس : كل ما يلبس من ثياب ودرع قال الله تعالى وعلمناه صنعة لبوس لكم ولابست فلانا حتى عرفت باطنه وفي فلان ملبس أي مستمتع قال :
ألا إن بعد العدم للمرء قنوة وبعد المشيب طول عمر وملبسا
ولبس الكعبة والهودج : ما عليهما من لباس ( بكسر اللام ) .
قوله تعالى : " بالباطل " الباطل في كلام العرب خلاف الحق ومعناه الزائل قال لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وبطل الشيء يبطل بطلا وبطولا وبطلانا ذهب ضياعا وخسرا وأبطله غيره ويقال ذهب دمه بطلا أي هدرا والباطل الشيطان والبطل الشجاع سمي بذلك لأنه يبطل شجاعة صاحبه قال النابغة
لهم لواء بأيدي ماجد بطل لا يقطع الخرق إلا طرفه سامي
والمرأة بطلة وقد بطل الرجل ( أي بالضم ) يبطل بطولة وبطالة أي صار شجاعا وبطل الأجير ( بالفتح ) بطالة أي تعطل فهو بطال واختلف أهل التأويل في المراد بقوله " الحق بالباطل " فروي عن ابن عباس وغيره لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل وهو التغيير والتبديل ، وقال أبو العالية قالت اليهود محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل .
وقال ابن زيد : المراد بالحق التوراة ، والباطل ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام وغيره .
وقال مجاهد لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقاله قتادة ، وقد تقدم .
قلت : وقول ابن عباس أصوب ؛ لأنه عام فيدخل فيه جميع الأقوال والله المستعان
قوله تعالى : وتكتموا الحق يجوز أن يكون معطوفا على تلبسوا فيكون مجزوما ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن ، التقدير لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه أي وأن تكتموه قال ابن عباس : يعني كتمانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه . وقال محمد بن سيرين نزل عصابة من ولد هارون يثرب لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدو عليهم والذلة ، وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ فأقاموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم وهم مؤمنون مصدقون بنبوته فمضى أولئك الآباء وهم مؤمنون وخلف الأبناء وأبناء الأبناء فأدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفونه وهو معنى قوله تعالى فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به
قوله تعالى : وأنتم تعلمون جملة في موضع الحال أي أن محمدا عليه السلام حق ، فكفرهم كان كفر عناد ولم يشهد تعالى لهم بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل ، وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى أتأمرون الناس بالبر الآية
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features