وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)

فقال : ( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا ، وصرفت كل شر ، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي ، من عافية ، ودار رحبة ، وزوجة حسنة ، ورزق واسع ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ومركب هنيء ، وثناء جميل ، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ، ولا منافاة بينها ، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا . وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات ، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة ، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا ، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام .
وقال القاسم بن عبد الرحمن : من أعطي قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وجسدا صابرا ، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، ووقي عذاب النار .
ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء . فقال البخاري : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، عن عبد العزيز ، عن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم ربنا ، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس قال : كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يقول ] : " اللهم ربنا ، آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار " .
[ وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد السلام بن شداد يعني أبا طالوت قال : كنت عند أنس بن مالك ، فقال له ثابت : إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم . فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار . وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام ، قال : يا أبا حمزة ، إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم فقال : تريدون أن أشقق لكم الأمور ، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله .
وقال أحمد أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، [ وعبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا حميد ] عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه ؟ " قال : نعم ، كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ! لا تطيقه ، أو لا تستطيعه ، فهلا قلت : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) " . قال : فدعا الله ، فشفاه .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من حديث ابن أبي عدي به .
وقال الإمام الشافعي : أخبرنا سعيد بن سالم القداح ، عن ابن جريج ، عن يحيى بن عبيد مولى السائب عن أبيه ، عن عبد الله بن السائب : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) . ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك .
وروى ابن ماجه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك . وفي سنده ضعف والله أعلم .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي ، أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور ، حدثنا سعيد بن سليمان ، عن إبراهيم بن سليمان ، عن عبد الله بن هرمز ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكا يقول : آمين . فإذا مررتم عليه فقولوا : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)

ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق, وأن الجميع يسألونه مطالبهم, ويستدفعونه ما يضرهم, ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم: { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته, وليس له في الآخرة من نصيب, لرغبته عنها, وقصر همته على الدنيا، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء, لهم نصيب من كسبهم وعملهم, وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل, يحمد عليه أكمل حمد وأتمه، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع, مسلما أو كافرا, أو فاسقا، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه, دليلا على محبته له وقربه منه, إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين. والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد, من رزق هنيء واسع حلال, وزوجة صالحة, وولد تقر به العين, وراحة, وعلم نافع, وعمل صالح, ونحو ذلك, من المطالب المحبوبة والمباحة. وحسنة الآخرة, هي السلامة من العقوبات, في القبر, والموقف, والنار, وحصول رضا الله, والفوز بالنعيم المقيم, والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء, أجمع دعاء وأكمله, وأولاه بالإيثار, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به, والحث عليه.
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)

قوله تعالى : ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ومنهم أي من الناس ، وهم المسلمون يطلبون خير الدنيا والآخرة ، واختلف في تأويل الحسنتين على أقوال عديدة ، فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الحسنة في الدنيا المرأة الحسناء ، وفي الآخرة الحور العين . " وقنا عذاب النار " : المرأة السوء .
قلت : وهذا فيه بعد ، ولا يصح عن علي ; لأن النار حقيقة في النار المحرقة ، وعبارة المرأة عن النار تجوز ، وقال قتادة : حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال ، وقال الحسن : حسنة الدنيا العلم والعبادة ، وقيل غير هذا . والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والآخرة ، وهذا هو الصحيح ، فإن اللفظ يقتضي هذا كله ، فإن " حسنة " نكرة في سياق الدعاء ، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل . وحسنة الآخرة : الجنة بإجماع . وقيل : لم يرد حسنة واحدة ، بل أراد : أعطنا في الدنيا عطية حسنة ، فحذف الاسم .
الثانية : قوله تعالى : وقنا عذاب النار أصل " قنا " أوقنا حذفت الواو كما حذفت في يقي ويشي ; لأنها بين ياء وكسرة ، مثل يعد ، هذا قول البصريين ، وقال الكوفيون : حذفت فرقا بين اللازم والمتعدي . قال محمد بن يزيد : هذا خطأ ; لأن العرب تقول ، ورم يرم ، فيحذفون الواو ، والمراد بالآية الدعاء في ألا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة ، ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة ، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين ، كما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أنا إنما أقول في دعائي : اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار ، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : حولها ندندن خرجه أبو داود في سننه وابن ماجه أيضا .
الثالثة : هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة . قيل لأنس : ادع الله لنا ، فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . قالوا : زدنا . قال : ما تريدون قد سألت الدنيا والآخرة ! وفي الصحيحين عن أنس قال : كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . قال : فكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه ، وفي حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . ما له هجيرى غيرها ، ذكره أبو عبيد ، وقال ابن جريج : بلغني أنه كان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف هذه الآية : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وقال ابن عباس : إن عند الركن ملكا قائما منذ خلق الله السماوات والأرض يقول آمين ، فقولوا : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وسئل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني وهو يطوف بالبيت ، فقال عطاء : حدثني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وكل به سبعون ملكا فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين . . . الحديث . خرجه ابن ماجه في السنن ، وسيأتي بكماله مسندا في [ الحج ] إن شاء الله تعالى .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features