فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)

وقوله : ( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ) أي : فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة وهي نخلة في المكان الذي تنحت إليه .
وقد اختلفوا فيه ، فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس .
وقال وهب بن منبه : ذهبت هاربة ، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ، ضربها الطلق . وفي رواية عن وهب : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس ، في قرية هناك يقال لها : " بيت لحم " .
قلت : وقد تقدم في حديث الإسراء ، من رواية النسائي عن أنس ، رضي الله عنه ، والبيهقي عن شداد بن أوس ، رضي الله عنه : أن ذلك ببيت لحم ، فالله أعلم ، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم ، وقد تلقاه الناس . وقد ورد به الحديث إن صح .
وقوله تعالى إخبارا عنها : ( قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا يصدقونها في خبرها ، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة ، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية ، فقالت : ( يا ليتني مت قبل هذا ) أي قبل هذا الحال ، ( وكنت نسيا منسيا ) أي لم أخلق ولم أك شيئا . قاله ابن عباس .
وقال السدي : قالت وهي تطلق من الحبل - استحياء من الناس : يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بعل ( وكنت نسيا منسيا ) نسي فترك طلبه ، كخرق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر . وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي .
وقال قتادة : ( وكنت نسيا منسيا ) أي : شيئا لا يعرف ، ولا يذكر ، ولا يدرى من أنا .
وقال الربيع بن أنس : ( وكنت نسيا منسيا ) وهو السقط .
وقال ابن زيد : لم أكن شيئا قط .
وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة ، عند قوله : ( توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) [ يوسف : 101 ]
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)

تفسير الايتين 22 و 23 :ـ
أي: لما حملت بعيسى عليه السلام، خافت من الفضيحة، فتباعدت عن الناس { مَكَانًا قَصِيًّا ْ} فلما قرب ولادها، ألجأها المخاض إلى جذع نخلة، فلما آلمها وجع الولادة، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب، ووجع قلبها من قالة الناس، وخافت عدم صبرها، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث، وكانت نسيا منسيا فلا تذكر. وهذا التمني بناء على ذلك المزعج، وليس في هذه الأمنية خير لها ولا مصلحة، وإنما الخير والمصلحة بتقدير ما حصل.
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)

قوله تعالى : فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ( أجاءها ) اضطرها ؛ وهو تعدية جاء بالهمز . يقال : جاء به وأجاءه إلى موضع كذا ، كما يقال : ذهب به وأذهبه . وقرأ شبيل ورويت عن عاصم ( فاجأها ) من المفاجأة . وفي مصحف أبي ( فلما أجاءها المخاض ) .
وقال زهير :
وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء
وقرأ الجمهور المخاض بفتح الميم . وابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها . مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا . وناقة ماخض أي دنا ولادها . إلى جذع النخلة كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به ، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق . والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن ؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة .
قالت يا ليتني مت قبل هذا تمنت مريم - عليها السلام - الموت من جهة الدين لوجهين : أحدهما : أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك . الثاني : لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنا وذلك مهلك . وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا ، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة يوسف - عليه السلام - والحمد لله .
قلت : وقد سمعت أن مريم - عليها السلام - سمعت نداء من يقول : اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك . و قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه . وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا : احفظوا أنساءكم ؛ الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى . ومنه قول الكميت - رضي الله تعالى عنه - :
أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل
وقال الفراء : النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها ؛ فقول مريم : ( نسيا منسيا ) أي حيضة ملقاة . وقرئ ( نسيا ) بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر . وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز ( نسئا ) بكسر النون . وقرأ نوف البكالي ( نسئا ) بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره . وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب . وقرأ بكر بن حبيب ( نسا ) بتشديد السين وفتح النون دون همز . وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى - عليه السلام - حملت أيضا أختها بيحيى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت : يا مريم أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها : وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك ؛ فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم ؛ قال السدي فذلك قوله : مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار ، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك . قال الكلبي : قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنا - فالآن يقتلها الملك ، فهرب بها ، فهم في الطريق بقتلها ، فأتاه جبريل - عليه السلام - وقال له : إنه من روح القدس ؛ قال ابن عطية : وهذا كله ضعيف . وهذه القصة تقتضي أنها حملت ، واستمرت حاملا على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر . قاله عكرمة ؛ ولذلك قيل : لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصة عيسى . وقيل : ولدته لتسعة . وقيل : لستة . وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر . والله أعلم .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features