إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)

ثم استثنى الله ، سبحانه من هؤلاء فقال : ( إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ) أي : إلا الذين لجئوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة ، فاجعلوا حكمهم كحكمهم . وهذا قول السدي ، وابن زيد ، وابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان ، عن الحسن : أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر - يعني صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر وأحد ، وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي - بني مدلج - فأتيته فقلت : أنشدك النعمة . فقالوا : صه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوه ، ما تريد ؟ " . قال : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال : " اذهب معه فافعل ما يريد " . فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، [ ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم ] فأنزل الله : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء )
ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة ، وقال فأنزل الله : ( إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ) فكان وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم وهذا أنسب لسياق الكلام .
وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم .
وقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسخها قوله : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين [ حيث وجدتموهم ] ) [ التوبة : 5 ] .
وقوله : ( أو جاءوكم حصرت صدورهم [ أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ] ) الآية ، هؤلاء قوم آخرون من المستثنين عن الأمر بقتالهم ، وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حصرة صدورهم أي : ضيقة صدورهم مبغضين أن يقاتلوكم ، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم ، بل هم لا لكم ولا عليكم . ( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ) أي : من لطفه بكم أن كفهم عنكم ( فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم ) أي : المسالمة ( فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) أي : فليس لكم أن تقتلوهم ، ما دامت حالهم كذلك ، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين ، فحضروا القتال وهم كارهون ، كالعباس ونحوه ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره .
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)

فقال إلا الذين يصلون أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف ؛ المعنى : فلا تقتلوا قوما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا . هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم ، وهو أصح ما قيل في معنى الآية . قال أبو عبيد : يصلون ينتسبون ؛ ومنه قول الأعشى :
إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد إذا انتسبت . قال المهدوي : وأنكره العلماء ؛ لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم . وقال النحاس : وهذا غلط عظيم ؛ لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب ، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب ، وأشد من هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ ؛ لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له " براءة " وإنما نزلت " براءة " بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب . وقال معناه الطبري .
قلت : حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان ؛ أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمن إذا أمن الكل منهم ، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة . واختلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق ؛ فقيل : بنو مدلج . عن الحسن : كان بينهم وبين قريش عقد ، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد . وقال عكرمة : نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد . وقيل : خزاعة . وقال الضحاك عن ابن عباس : أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة ، كانوا في الصلح والهدنة .
الثالثة : في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين ، على ما يأتي بيانه في " الأنفال " " وبراءة " إن شاء الله تعالى .
الرابعة : أو جاءوكم حصرت صدورهم أي ضاقت . وقال لبيد :
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة جرداء يحصر دونها جرامها
أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة ؛ ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم . والحصر الكتوم للسر ؛ قال جرير :
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنينا
ومعنى " حصرت " " قد حصرت " فأضمرت " قد " ، قال الفراء : وهو حال من المضمر المرفوع في جاءوكم كما تقول : جاء فلان ذهب عقله ، أي قد ذهب عقله . وقيل : هو خبر بعد خبر قاله الزجاج . أي جاءوكم ثم أخبر فقال : حصرت صدورهم فعلى هذا يكون حصرت بدلا من جاءوكم كما قيل : حصرت في موضع خفض على النعت لقوم . وفي حرف أبي " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم " ليس فيه أو جاءوكم . وقيل : تقديره أو جاءوكم رجالا أو قوما حصرت صدورهم ؛ فهي صفة موصوف منصوب على الحال . وقرأ الحسن " أو جاءوكم حصرة صدورهم " نص على الحال ، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر . وحكى " أو جاءوكم حصرات صدورهم " ، ويجوز الرفع . وقال محمد بن يزيد : حصرت صدورهم هو دعاء عليهم ؛ كما تقول : لعن الله الكافر ؛ وقاله المبرد . وضعفه بعض المفسرين وقال : هذا يقتضي ألا يقاتلوا قومهم ؛ وذلك فاسد ؛ لأنهم كفار وقومهم كفار . وأجيب بأن معناه صحيح ، فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزا لهم ، وفي حق قومهم تحقيرا لهم . وقيل : أو بمعنى الواو ؛ كأنه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين . ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من العهد ، أو قالوا نسلم ولا نقاتل ؛ فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام . والأول أظهر . والله أعلم . أو يقاتلوا في موضع نصب ؛ أي عن أن يقاتلوكم .
الخامسة : قوله تعالى : ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي ، وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ، وإما تمحيصا للذنوب كما قال تعالى : وليمحص الله الذين آمنوا ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء . ووجه النظم والاتصال بما قبل أي اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا ، وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم ، وإلا الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features