يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)

وقوله : ( يتجرعه ) أي : يتغصصه ويتكرهه ، أي : يشربه قهرا وقسرا ، لا يضعه في فيه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد ، كما قال تعالى : ( ولهم مقامع من حديد ) [ الحج : 21 ] .
( ولا يكاد يسيغه ) أي : يزدرده لسوء لونه وطعمه وريحه ، وحرارته أو برده الذي لا يستطاع .
( ويأتيه الموت من كل مكان ) أي : يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه .
قال ميمون بن مهران : من كل عظم ، وعرق ، وعصب .
وقال عكرمة : حتى من أطراف شعره .
وقال إبراهيم التيمي : من موضع كل شعرة ، أي : من جسده ، حتى من أطراف شعره .
وقال ابن جرير : ( ويأتيه الموت من كل مكان ) أي : من أمامه وورائه ، وعن يمينه وشماله ، ومن فوقه ومن تحت أرجله ومن سائر أعضاء جسده .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : ( ويأتيه الموت من كل مكان ) قال : أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم ، وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت ، ولكن لا يموت; لأن الله تعالى قال : ( لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ) [ كذلك نجزي كل كفور ] ) [ فاطر : 36 ] .
ومعنى كلام ابن عباس ، رضي الله عنه : أنه ما من نوع من هذه الأنواع من [ هذا ] العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت ، ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال; ولهذا قال : ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت )
وقوله : ( ومن ورائه عذاب غليظ ) أي : وله من بعد هذا الحال عذاب آخر غليظ ، أي : مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر . وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم : ( إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ) [ الصافات : 64 - 68 ] فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم ، وتارة في شرب حميم ، وتارة يردون إلى الجحيم عياذا بالله من ذلك ، وهكذا قال تعالى : ( هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن ) [ الرحمن : 43 ، 44 ] ، وقال تعالى : ( إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون ) [ الدخان : 43 - 50 ] ، وقال : ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ) [ الواقعة : 41 - 44 ] ، وقال تعالى : ( هذا وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج ) [ ص : 55 - 58 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم ، وتكراره وأنواعه وأشكاله ، مما لا يحصيه إلا الله ، عز وجل ، جزاء وفاقا ، ( وما ربك بظلام للعبيد ) [ فصلت : 46 ] .
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)

يتجرعه أي يتحساه جرعا لا مرة واحدة لمرارته وحرارته .
ولا يكاد يسيغه أي يبتلعه ; يقال : جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى . وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا إذا كان سلسا سهلا ، وأساغه الله إساغة . و يكاد صلة ; أي يسيغه بعد إبطاء ، قال الله تعالى : وما كادوا يفعلون أي فعلوا بعد إبطاء ، ولهذا قال : يصهر به ما في بطونهم والجلود فهذا يدل على الإساغة . وقال ابن عباس : يجيزه ولا يمر به .
ويأتيه الموت من كل مكان قال ابن عباس : أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله ، ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه ، كقول : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل . وقال إبراهيم التيمي : يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره ; للآلام التي في كل مكان من جسده . وقال الضحاك : إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه . وقال الأخفش : يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا ، وهي من أعظم الموت . وقيل : إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب ; لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة ; إما حية تنهشه ; أو عقرب تلسبه ، أو نار تسفعه ، أو قيد برجليه ، أو غل في عنقه ، أو سلسلة يقرن بها ، أو تابوت يكون فيه ، أو زقوم أو حميم ، أو غير ذلك من العذاب ، وقال محمد بن كعب : إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتات ، فإذا دنا منه مات موتات ، فإذا شرب منه مات موتات ; فذلك قوله : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت . قال الضحاك : لا يموت فيستريح . وقال ابن جريج : تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة ; ونظيره قوله : لا يموت فيها ولا يحيا . وقيل : يخلق الله في جسده آلاما كل واحد منها كألم الموت . وقيل :
وما هو بميت لتطاول شدائد الموت به ، وامتداد سكراته عليه ; ليكون ذلك زيادة في عذابه . قلت : ويظهر من هذا أنه يموت ، وليس كذلك ; لقوله تعالى : لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها وبذلك وردت السنة ; فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائما ، والله أعلم .
ومن ورائه أي من أمامه .
عذاب غليظ أي شديد متواصل الآلام غير فتور ; ومنه قوله : وليجدوا فيكم غلظة أي شدة وقوة . وقال فضيل بن عياض في قول الله تعالى : ومن ورائه عذاب غليظ قال : حبس الأنفاس .
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)

( يتجرعه ) أي : يتحساه ويشربه ، لا بمرة واحدة ، بل جرعة جرعة ، لمرارته وحرارته ( ولا يكاد يسيغه ) و " يكاد " : صلة ، أي : لا يسيغه ، كقوله تعالى : ( لم يكد يراها ) ( النور - 40 ) أي : لم يرها .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لا يجيزه .
وقيل : معناه يكاد لا يسيغه ، ويسيغه فيغلي في جوفه .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن بسر ، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " ويسقى من ماء صديد يتجرعه " ، قال : يقرب إلى فيه فيتكرهه ، فإذا أدني منه شوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه ، حتى يخرج من دبره، يقول الله عز وجل : ( وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) ( محمد - 15 ) ، ويقول : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ) ( الكهف - 29 ) .
وقوله عز وجل : ( ويأتيه الموت من كل مكان ) يعني : يجد هم الموت وألمه من كل مكان من أعضائه .
قال إبراهيم التيمي : حتى من تحت كل شعرة من جسده .
وقيل : يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه ، ومن فوقه ومن تحته ، وعن يمينه وعن شماله .
( وما هو بميت ) فيستريح ، قال ابن جريج : تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة . نظيرها (ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) ( الأعلى - 13 ) .
( ومن ورائه ) أمامه ( عذاب غليظ ) شديد ، وقيل : العذاب الغليظ الخلود في النار .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features