لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

قال البخاري : حدثنا محمد ، أخبرني ابن عيينة ، عن عمرو ، عن ابن عباس ، قال : كانت عكاظ ومجنة ، وذو المجاز أسواق الجاهلية ، فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) في مواسم الحج .
وهكذا رواه عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وغير واحد ، عن سفيان بن عيينة ، به .
ولبعضهم : فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية . وكذلك رواه ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ ومجنة وذو المجاز ، فلما كان الإسلام كأنهم كرهوا ذلك ، حتى نزلت هذه الآية .
وروى أبو داود ، وغيره ، من حديث يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم ، والحج ، يقولون : أيام ذكر ، فأنزل الله : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنه قال : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده . وهكذا روى العوفي ، عن ابن عباس .
وقال وكيع : حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " . [ وقال عبد الرزاق : عن أبيه عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد : سمعت ابن الزبير يقول : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " ] .
ورواه عبد بن حميد ، عن محمد بن الفضل ، عن حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، سمعت ابن الزبير يقرأ فذكر مثله سواء . وهكذا فسرها مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومنصور بن المعتمر ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والربيع بن أنس ، وغيرهم .
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا شعبة ، عن أبي أميمة قال : سمعت ابن عمر وسئل عن الرجل يحج ومعه تجارة فقرأ ابن عمر : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم )
وهذا موقوف ، وهو قوي جيد . وقد روي مرفوعا . قال أحمد : حدثنا [ أحمد بن ] أسباط ، حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن أبي أمامة التيمي ، قال : قلت لابن عمر : إنا نكري ، فهل لنا من حج ، قال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون المعرف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم ؟ قال : قلنا : بلى . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه ، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أنتم حجاج " .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن العلاء بن المسيب ، عن رجل من بني تيم الله قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمر ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إنا قوم نكري ، ويزعمون أنه ليس لنا حج . قال : ألستم تحرمون كما يحرمون ، وتطوفون كما يطوفون ، وترمون كما يرمون ؟ قال : بلى . قال : فأنت حاج . ثم قال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عما سألت عنه ، فنزلت هذه الآية : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) .
ورواه عبد [ بن حميد في تفسيره ] عن عبد الرزاق به . وهكذا روى هذا الحديث ابن حذيفة ، عن الثوري ، مرفوعا . وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عباد بن العوام ، عن العلاء بن المسيب ، عن أبي أمامة التيمي ، قال : قلت لابن عمر : إنا أناس نكري في هذا الوجه إلى مكة ، وإن أناسا يزعمون أنه لا حج لنا ، فهل ترى لنا حجا ؟ قال : ألستم تحرمون ، وتطوفون بالبيت ، وتقفون المناسك ؟ قال : قلت : بلى . قال : فأنتم حجاج . ثم قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن [ مثل ] الذي سألت ، فلم يدر ما يعود عليه أو قال : فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) فدعا الرجل ، فتلاها عليه ، وقال : " أنتم حجاج " .
وكذا رواه مسعود بن سعد ، وعبد الواحد بن زياد ، وشريك القاضي ، عن العلاء بن المسيب به مرفوعا .
وقال ابن جرير : حدثني طليق بن محمد الواسطي ، حدثنا أسباط هو ابن محمد أخبرنا الحسن بن عمرو هو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي . قال : قلت لابن عمر : إنا قوم نكري ، فهل لنا من حج ؟ فقال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون المعرف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم ؟ قلنا : بلى . قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن الذي سألتني عنه ، فلم يدر ما يقول له ، حتى نزل جبريل ، عليه السلام ، بهذه الآية : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) إلى آخر الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتم حجاج " .
وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا مندل ، عن عبد الرحمن بن المهاجر ، عن أبي صالح مولى عمر ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، كنتم تتجرون في الحج ؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟
وقوله تعالى : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام )
إنما صرف " عرفات " وإن كان علما على مؤنث ; لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات ، سمي به بقعة معينة ، فروعي فيه الأصل ، فصرف . اختاره ابن جرير .
وعرفة : موضع الموقف في الحج ، وهي عمدة أفعال الحج ; ولهذا روى الإمام أحمد ، وأهل السنن ، بإسناد صحيح ، عن الثوري ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر ، فقد أدرك . وأيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه " .
ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع ، بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس ، وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " .
وقال في هذا الحديث : " فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك " وهذا مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي رحمهم الله . وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة . واحتجوا بحديث الشعبي ، عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله ، إني جئت من جبلي طيئ ، أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد صلاتنا هذه ، فوقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه " .
رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي .
ثم قيل : إنما سميت عرفات لما رواه عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج قال : قال ابن المسيب : قال علي بن أبي طالب : بعث الله جبريل ، عليه السلام ، إلى إبراهيم ، عليه السلام ، فحج به ، حتى إذا أتى عرفة قال : عرفت ، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك ، فلذلك سميت عرفة .
وقال ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : إنما سميت عرفة ، أن جبريل كان يري إبراهيم المناسك ، فيقول : عرفت عرفت . فسمي " عرفات " . وروي نحوه عن ابن عباس ، وابن عمر وأبي مجلز ، فالله أعلم .
وتسمى عرفات المشعر الحلال ، والمشعر الأقصى ، وإلال على وزن هلال ويقال للجبل في وسطها : جبل الرحمة . قال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له إلال إلى تلك الشراج القوابل
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حماد بن الحسن بن عنبسة ، حدثنا أبو عامر ، عن زمعة هو ابن صالح عن سلمة هو ابن وهرام عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال ، كأنها العمائم على رؤوس الرجال ، دفعوا ، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس .
ورواه ابن مردويه ، من حديث زمعة بن صالح ، وزاد : ثم وقف بالمزدلفة ، وصلى الفجر بغلس ، حتى إذا أسفر كل شيء وكان في الوقت الآخر ، دفع . وهذا حسن الإسناد .
وقال ابن جريج ، عن محمد بن قيس ، عن المسور بن مخرمة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بعرفات ، فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال : " أما بعد وكان إذا خطب خطبة قال : أما بعد فإن هذا اليوم الحج الأكبر ، ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس ، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال ، كأنها عمائم الرجال في وجوهها ، وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس ، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس ، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ، مخالفا هدينا هدي أهل الشرك " .
هكذا رواه ابن مردويه وهذا لفظه ، والحاكم في مستدركه ، كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي ، عن عبد الوارث بن سعيد ، عن ابن جريج ، به . وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . قال : وقد صح وثبت بما ذكرناه سماع المسور من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا كما يتوهمه رعاع أصحابنا أنه ممن له رؤية بلا سماع .
وقال وكيع ، عن شعبة ، عن إسماعيل بن رجاء [ الزبيدي ] عن المعرور بن سويد ، قال : رأيت عمر ، رضي الله عنه ، حين دفع من عرفة ، كأني أنظر إليه رجلا أصلع على بعير له ، يوضع وهو يقول : إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع .
وفي حديث جابر بن عبد الله الطويل ، الذي في صحيح مسلم ، قال فيه : فلم يزل واقفا يعني بعرفة حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : " أيها الناس ، السكينة السكينة " . كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئا ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعا الله وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس وفي الصحيح عن أسامة بن زيد ، أنه سئل كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفع ؟ قال : " كان يسير العنق ، فإذا وجد فجوة نص " . والعنق : هو انبساط السير ، والنص ، فوقه .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو محمد ابن بنت الشافعي ، فيما كتب إلي ، عن أبيه أو عمه ، عن سفيان بن عيينة قوله : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) وهي الصلاتين جميعا .
وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن عمرو بن ميمون : سألت عبد الله بن عمرو عن المشعر الحرام ، فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ هذا المشعر الحرام .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم قال : قال ابن عمر : المشعر الحرام المزدلفة كلها .
وقال هشيم ، عن حجاج عن نافع ، عن ابن عمر : أنه سئل عن قوله : ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) قال : فقال : هو الجبل وما حوله .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن المغيرة ، عن إبراهيم قال : رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح ، فقال : علام يزدحم هؤلاء ؟ كل ما هاهنا مشعر .
وروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والسدي ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة أنهم قالوا : هو ما بين الجبلين .
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أين المزدلفة ؟ قال : إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر . قال : وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة ، ولكن مفاضاهما . قال : فقف بينهما إن شئت ، قال : وأحب أن تقف دون قزح ، هلم إلينا من أجل طريق الناس .
قلت : والمشاعر هي المعالم الظاهرة ، وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام ; لأنها داخل الحرم ، وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به ، كما ذهب إليه طائفة من السلف ، وبعض أصحاب الشافعي ، منهم : القفال ، وابن خزيمة ، لحديث عروة بن مضرس ؟ أو واجب ، كما هو أحد قولي الشافعي يجبر بدم ؟ أو مستحب لا يجب بتركه شيء كما هو القول الآخر ؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء ، لبسطها موضع آخر غير هذا ، والله أعلم .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن سفيان الثوري ، عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عرفة كلها موقف ، وارفعوا عن عرنة ، وجمع كلها موقف إلا محسرا " .
هذا حديث مرسل . وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، حدثني سليمان بن موسى ، عن جبير بن مطعم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : " كل عرفات موقف ، وارفعوا عن عرنة . وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر ، وكل فجاج مكة منحر ، وكل أيام التشريق ذبح " .
وهذا أيضا منقطع ، فإن سليمان بن موسى هذا وهو الأشدق لم يدرك جبير بن مطعم . ولكن رواه الوليد بن مسلم ، وسويد بن عبد العزيز ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن سليمان ، فقال الوليد : عن ابن لجبير بن مطعم ، عن أبيه . وقال سويد : عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، والله أعلم .
وقوله : ( واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) تنبيه لهم على ما أنعم به عليهم ، من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج ، على ما كان عليه إبراهيم الخليل ، عليه السلام ; ولهذا قال : ( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) قيل : من قبل هذا الهدي ، وقبل القرآن ، وقبل الرسول ، والكل متقارب ، ومتلازم ، وصحيح .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

قوله تعالى : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا علي بن عبد الله أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله تعالى ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) في مواسم الحج قرأ ابن عباس كذا ، وروي عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر : إنا قوم نكري في هذا الوجه يعني إلى مكة فيزعمون أن لا حج لنا فقال ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون قلت بلى قال أنت حاج جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه بشيء حتى نزل جبريل بهذه الآية ( ليس عليكم جناح ) أي حرج ( أن تبتغوا فضلا ) أي رزقا ( من ربكم ) يعني بالتجارة في مواسم الحج ( فإذا أفضتم ) دفعتم والإفاضة دفع بكثرة وأصله من قول العرب أفاض الرجل ماء أي صبه ( من عرفات ) هي جمع عرفة جمع بما حولها وإن كانت بقعة واحدة كقولهم ثوب أخلاق
واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف عرفات واليوم عرفة فقال عطاء : كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم عليه السلام المناسك ويقول عرفت فيقول : عرفت فسمي ذلك المكان عرفات واليوم عرفة وقال الضحاك : إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم يوم عرفة والموضع عرفات وقال السدي لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها له ، فخرج فلما بلغ الجمرة عند العقبة استقبله الشيطان ليرده فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبر ، فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه ، وكبر فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع أي قرب إلى جمع فسمي المزدلفة .
وروي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه أن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روى يومه أجمع أي فكر أمن الله تعالى هذه الرؤيا أم من الشيطان فسمي اليوم يوم التروية ، ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي اليوم يوم عرفة وقيل سمي بذلك لأن الناس يعترفون في ذلك اليوم بذنوبهم وقيل سمي بذلك من العرف وهو الطيب وسمي منى لأنه يمنى فيه الدم أي يصب فيكون فيه الفروث والدماء ولا يكون الموضع طيبا وعرفات طاهرة عنها فتكون طيبة
قوله تعالى : ( فاذكروا الله ) بالدعاء والتلبية ( عند المشعر الحرام ) ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى المحسر وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر وسمي مشعرا من الشعار وهي العلامة لأنه من معالم الحج وأصل الحرام من المنع فهو ممنوع أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه وسمي المزدلفة جمعا لأنه يجمع فيه بين صلاتي العشاء والإفاضة من عرفات تكون بعد غروب الشمس ومن جمع قبل طلوعها من يوم النحر
قال طاووس كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن مزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير فأخر الله هذه وقدم هذه
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول : " دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء فقلت له الصلاة يا رسول الله قال فقال الصلاة أمامك فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا " .
وقال جابر : " دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ، ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا زهير بن حرب أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أسامة بن زيد كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى قال فكلاهما قال لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة " .
قوله تعالى : ( واذكروه كما هداكم ) أي واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه ( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) أي وقد كنتم وقيل وما كنتم من قبله إلا من الضالين كقوله تعالى : " وإن نظنك لمن الكاذبين " ( 186 - الشعراء ) أي وما نظنك إلا من الكاذبين والهاء في قوله من قبله راجعة إلى الهدى ، وقيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كناية عن غير مذكور .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

لما أمر تعالى بالتقوى, أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره, ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج, وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله, لا منسوبا إلى حذق العبد, والوقوف مع السبب, ونسيان المسبب, فإن هذا هو الحرج بعينه. وفي قوله: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } دلالة على أمور: أحدها: الوقوف بعرفة, وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات, لا تكون إلا بعد الوقوف. الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام, وهو المزدلفة, وذلك أيضا معروف, يكون ليلة النحر بائتا بها, وبعد صلاة الفجر, يقف في المزدلفة داعيا, حتى يسفر جدا, ويدخل في ذكر الله عنده, إيقاع الفرائض والنوافل فيه. الثالث: أن الوقوف بمزدلفة, متأخر عن الوقوف بعرفة, كما تدل عليه الفاء والترتيب. الرابع, والخامس: أن عرفات ومزدلفة, كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها, وإظهارها. السادس: أن مزدلفة في الحرم, كما قيده بالحرام. السابع: أن عرفة في الحل, كما هو مفهوم التقييد بـ " مزدلفة " { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال, وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم, التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features