هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

قوله تعالى ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ) مبينات مفصلات ، سميت محكمات من الإحكام ، كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها ( هن أم الكتاب ) أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام وإنما قال : ( هن أم الكتاب ) ولم يقل أمهات الكتاب لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد وقيل : معناه كل آية منهن أم الكتاب كما قال : " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " ( 50 - المؤمنون ) أي كل واحد منهما آية ( وأخر ) جمع أخرى ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر ، مثل : عمر وزفر ( متشابهات ) فإن قيل كيف فرق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكما في مواضع أخر؟ . فقال : " الر كتاب أحكمت آياته " ( 1 - هود ) وجعله كله متشابها [ في موضع آخر ] فقال : " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها " ( 23 - الزمر .
قيل : حيث جعل الكل محكما ، أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل ، وحيث جعل الكل متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحق والصدق وفي الحسن وجعل هاهنا بعضه محكما وبعضه متشابها
واختلف العلماء فيهما فقال ابن عباس رضي الله عنهما : المحكمات هن الآيات الثلاث في سورة الأنعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " ( 151 ) ونظيرها في بني إسرائيل " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " ( 23 - الإسراء ) الآيات وعنه أنه قال : المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور .
وقال مجاهد وعكرمة : المحكم ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضا في الحق ويصدق بعضه بعضا ، كقوله تعالى : " وما يضل به إلا الفاسقين " ( 26 - البقرة ) " ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " ( 100 - يونس .
وقال قتادة والضحاك والسدي : المحكم الناسخ الذي يعمل به ، والمتشابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ، وقيل : المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه لا سبيل لأحد إلى علمه ، نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال ، ونزول عيسى عليه السلام ، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة وفناء الدنيا .
وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد والمتشابه ما احتمل أوجها
وقيل : المحكم ما يعرف معناه وتكون حججها واضحة ودلائلها لائحة لا تشتبه ، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ، ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل وقال بعضهم : المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره
قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية [ باذان ] المتشابه حروف التهجي في أوائل السور ، وذلك أن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له حيي : بلغنا أنه أنزل عليك ( الم ) فننشدك الله أنزلت عليك؟ قال : " نعم " قال : فإن كان ذلك حقا فإني أعلم مدة ملك أمتك ، هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرها؟ قال : " نعم ( المص ) " قال : فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة سنة ، قال : فهل غيرها؟ قال : " نعم ( الر ) " . قال : هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا فأنزل الله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) .
( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) أي ميل عن الحق وقيل شك ( فيتبعون ما تشابه منه ) واختلفوا في المعني بهذه الآية . قال الربيع : هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام ، وقالوا له : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال : " بلى " قالوا : حسبنا ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجها بحساب الجمل وقال ابن جريج : هم المنافقون وقال الحسن : هم الخوارج ، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم ، وقيل : هم جميع المبتدعة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن مسلمة ، أنا يزيد بن إبراهيم التستري ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنهما قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) - إلى قوله ( أولو الألباب ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " .
قوله تعالى : ( ابتغاء الفتنة ) طلب الشرك قاله الربيع والسدي ، وقال مجاهد : ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم ( وابتغاء تأويله ) تفسيره وعلمه ، دليله قوله تعالى " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " ( 78 - الكهف ) وقيل : ابتغاؤه عاقبته ، وهو طلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل ، دليله قوله تعالى " ذلك خير وأحسن تأويلا " ( 35 - الإسراء ) أي عاقبة .
قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم : الواو في قوله والراسخون واو العطف يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم ( يقولون آمنا به ) وهذا قول مجاهد والربيع ، وعلى هذا يكون قوله " يقولون " حالا معناه : والراسخون في العلم قائلين آمنا به ، هذا كقوله تعالى : " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى " ( 7 - الحشر ) ثم قال : " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم " ( 8 - الحشر ) إلى أن قال : " والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم " ( 9 - الحشر ) ثم قال " والذين جاءوا من بعدهم " ( 10 - الحشر ) وهذا عطف على ما سبق ، ثم قال : " يقولون ربنا اغفر لنا " ( 10 - الحشر ) يعني هم مع استحقاقهم الفيء يقولون ربنا اغفر لنا ، أي قائلين على الحال .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم ، وروي عن مجاهد : أنا ممن يعلم تأويله
وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله " والراسخون " واو الاستئناف ، وتم الكلام عند قوله : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم ورواية طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وأكثر التابعين واختاره الكسائي والفراء والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحدا من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها ، والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به وفي المحكم بالإيمان به والعمل ، ومما يصدق ذلك قراءة عبد الله إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، وفي حرف أبي : ويقول الراسخون في العلم آمنا به
وقال عمر بن عبد العزيز : في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا وهذا قول أقيس في العربية وأشبه بظاهر الآية .
قوله تعالى ( والراسخون في العلم ) أي الداخلون في العلم هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شك ، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته يقال : رسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسخا ورسوخا وقيل : الراسخون في العلم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى " لكن الراسخون في العلم منهم " ( 162 - النساء ) يعني ( المدارسين ) علم التوراة وسئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال : العالم العامل بما علم المتبع له وقيل : الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي : بقولهم آمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم ، فرسوخهم في العلم قولهم : آمنا به ، أي بالمتشابه ( كل من عند ربنا ) المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم ( وما يذكر ) وما يتعظ بما في القرآن ( إلا أولو الألباب ) ذوو العقول
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله { منه آيات محكمات } أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال { هن أم الكتاب } أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، { و } منه آيات { أخر متشابهات } أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد { فيتبعون ما تشابه منه } أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه { ابتغاء الفتنة } لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه، وقوله { وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } للمفسرين في الوقوف على { الله } من قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها { والراسخون في العلم } وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على { إلا الله } لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله { الرحمن على العرش [استوى ] } فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب عطف { الراسخون } على { الله } فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون { كل } من المحكم والمتشابه { من عند ربنا } وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال { وما يذكر } أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا { أولوا الألباب } أي: أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة.
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

قوله : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم
فيه تسع مسائل :
الأولى : خرج مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم . وعن أبي غالب قال : كنت أمشي مع أبي أمامة وهو على حمار له ، حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق فإذا رءوس منصوبة ، فقال : ما هذه الرءوس ؟ قيل : هذه رءوس خوارج يجاء بهم من العراق فقال أبو أمامة : ( كلاب النار ، كلاب النار ، كلاب النار ، شر قتلى تحت ظل السماء ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه - يقولها ثلاثا - ثم بكى ) فقلت : ما يبكيك يا أبا أمامة ؟ قال : رحمة لهم ( إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه ، ثم قرأ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات . . . " إلى آخر الآيات . ثم قرأ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات . فقلت : يا أبا أمامة هم هؤلاء ؟ قال نعم . قلت : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : إني إذا لجريء إني إذا لجريء بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع ، ووضع أصبعيه في أذنيه ، قال : وإلا فصمتا - قالها ثلاثا - ) ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ، ولتزيدن عليهم هذه الأمة واحدة واحدة في الجنة وسائرهم في النار .
الثانية : اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة ; فقال جابر بن عبد الله - وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما - : ( المحكمات من آي القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره ، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه . قال بعضهم : وذلك مثل وقت قيام الساعة ، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى ، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور )
قلت : هذا أحسن ما قيل في المتشابه . وقد قدمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خثيم ( إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء . . . ) الحديث . وقال أبو عثمان : المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها . وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ؛ لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط . وقد قيل : القرآن كله محكم ؛ لقوله تعالى : كتاب أحكمت آياته . وقيل : كله متشابه ; لقوله : كتابا متشابها .
قلت : وليس هذا من معنى الآية في شيء ، فإن قوله تعالى : كتاب أحكمت آياته أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله ، ومعنى كتابا متشابها أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا . وليس المراد بقوله : آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات هذا المعنى ، وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه من قوله : إن البقر تشابه علينا أي التبس علينا ، أي يحتمل أنواعا كثيرة من البقر . والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا ، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدا . وقيل : إن المتشابه ما يحتمل وجوها ، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما . فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع ، والمتشابه هو الفرع . وقال ابن عباس : ( المحكمات هو قوله في سورة الأنعام قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى ثلاث آيات ، وقوله في بني إسرائيل : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا قال ابن عطية : وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات . وقال ابن عباس أيضا : ( المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ) وقال ابن مسعود وغيره : ( المحكمات الناسخات ، والمتشابهات المنسوخات ) وقاله قتادة والربيع والضحاك . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه . والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، وقاله مجاهد وابن إسحاق . قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية . قال النحاس : أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات : أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو لم يكن له كفوا أحد وإني لغفار لمن تاب . والمتشابهات نحو إن الله يغفر الذنوب جميعا يرجع فيه إلى قوله جل وعلا : وإني لغفار لمن تاب وإلى قوله عز وجل : إن الله لا يغفر أن يشرك به .
قلت : ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية ، وهو الجاري على وضع اللسان ؛ وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم ، والإحكام الإتقان ، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى - لا إشكال فيه ولا تردد - إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها ، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال ، والله أعلم . وقال ابن خويزمنداد : للمتشابه وجوه ، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء : أي الآيتين نسخت الأخرى كقول علي وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها ( تعتد أقصى الأجلين ) فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون ( وضع الحمل ) ويقولون : ( سورة النساء القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا ) وكان علي وابن عباس يقولان لم تنسخ . وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ . وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه ، كقوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم يقتضي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين ، وقوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف يمنع ذلك . ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعارض الأقيسة ، فذلك المتشابه . وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير ؛ لأن الواجب منه قدر ما يتناول الاسم أو جميعه . والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا كما قرئ : وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم بالفتح والكسر ، على ما يأتي بيانه " في المائدة " إن شاء الله تعالى .
الثالثة : روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ، قال : ما هو ؟ قال : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون وقال : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وقال : ولا يكتمون الله حديثا وقال : والله ربنا ما كنا مشركين فقد كتموا في هذه الآية ، وفي النازعات أم السماء بناها إلى قوله دحاها فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ، ثم قال : أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين . . . إلى : طائعين فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء . وقال : وكان الله غفورا رحيما وكان الله عزيزا حكيما . وكان الله سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس : ( فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون . وأما قوله : ما كنا مشركين ولا يكتمون الله حديثا فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، وقال المشركون : تعالوا نقول : لم نكن مشركين ; فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . وخلق الله الأرض في يومين ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين ، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى ، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين ; فذلك قوله : والأرض بعد ذلك دحاها . فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام ، وخلقت السماء في يومين . وقوله : وكان الله غفورا رحيما يعني نفسه ذلك ، أي لم يزل ولا يزال كذلك ; فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد . ويحك فلا يختلف عليك القرآن ؛ فإن كلا من عند الله )
الرابعة : قوله تعالى : وأخر متشابهات لم تصرف ( أخر ) لأنها عدلت عن الألف واللام ; لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر ، فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منعت الصرف . أبو عبيد : لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة . وأنكر ذلك المبرد وقال : يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش . الكسائي : لم تنصرف لأنها صفة ، وأنكره المبرد أيضا وقال : إن لبدا وحطما صفتان وهما منصرفان . سيبويه : لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الألف واللام ; لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة ، ألا ترى أن سحر معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر ، وأمس في قول من قال : ذهب أمس معدولا عن الأمس ; فلو كان أخر معدولا أيضا عن الألف واللام لكان معرفة ، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة .
الخامسة : قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ الذين رفع بالابتداء ، والخبر فيتبعون ما تشابه منه ، والزيغ الميل ، ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار . ويقال : زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد ، ومنه قوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم . وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة ، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران . وقال قتادة في تفسير قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ : إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم .
قلت : قد مر هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعا ، وحسبك .
السادسة قوله تعالى : فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه : متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام ، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن ، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه ، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع ، تعالى الله عن ذلك ، أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها ، أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال . فهذه أربعة أقسام : ( الأول ) لا شك في كفرهم ، وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة . ( الثاني ) الصحيح : القول بتكفيرهم ، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور ، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد . ( الثالث ) اختلفوا في جواز ذلك بناءا على الخلاف في جواز تأويلها . وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها ، فيقولون أمروها كما جاءت . وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها .
( الرابع ) الحكم فيه الأدب البليغ ، كما فعله عمر بصبيغ . وقال أبو بكر الأنباري : وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن ؛ لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير ، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب ، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل . فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء ، فبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل . فلما حضر قال له عمر : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله صبيغ . فقال عمر - رضي الله عنه - : وأنا عبد الله عمر ، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي . وقد اختلفت الروايات في أدبه ، وسيأتي ذكرها في ( الذاريات ) . ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته .
ومعنى ابتغاء الفتنة طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم ، ويردوا الناس إلى زيغهم .
وقال أبو إسحاق الزجاج : معنى وابتغاء تأويله أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله . قال : والدليل على ذلك قوله تعالى : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب يقول الذين نسوه من قبل أي تركوه - قد جاءت رسل ربنا بالحق أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل . قال : فالوقف على قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله .
السابعة : وما يعلم تأويله إلا الله يقال : إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : بلغنا أنه نزل عليك الم فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة ; لأن الألف في حساب الجمل واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فنزل وما يعلم تأويله إلا الله . والتأويل يكون بمعنى التفسير ، كقولك : تأويل هذه الكلمة على كذا . ويكون بمعنى ما يئول الأمر إليه . واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يئول إليه ، أي صار . وأولته تأويلا أي صيرته . وقد حده بعض الفقهاء فقالوا : هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه . فالتفسير بيان اللفظ ، كقوله لا ريب فيه أي لا شك . وأصله من الفسر وهو البيان ، يقال : فسرت الشيء ( مخففا ) أفسره ( بالكسر ) فسرا . والتأويل بيان المعنى ، كقوله لا شك فيه عند المؤمنين أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك . وكقول ابن عباس في الجد أبا لأنه تأول قول الله عز وجل : يابني آدم .
الثامنة قوله تعالى : والراسخون في العلم اختلف العلماء في والراسخون في العلم هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله ، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع . فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله ، وأن الكلام تم عند قوله إلا الله هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد وغيرهم . قال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة . وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم آمنا به كل من عند ربنا . وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز ، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس . و ( يقولون ) على هذا خبر ( الراسخون ) . قال الخطابي : وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين : محكما ومتشابها ، فقال عز من قائل : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . . . إلى قوله : كل من عند ربنا فاعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه ، فلا يعلم تأويله أحد غيره ، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به . ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه . ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله وأن ما بعده استئناف كلام آخر ، وهو قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به . وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة . وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخون على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه . واحتج له بعض أهل اللغة فقال : معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا ، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال . وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه ; لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا ، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل ، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال . ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : عبد الله راكبا ، بمعنى أقبل عبد الله راكبا ; وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله : عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ، فكان ( يصلح ) حالا ، كقول الشاعر - أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب - :
أرسلت فيها قطما لكالكا يقصر يمشي ويطول باركا
أي يقصر ماشيا ، فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده . وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك . ألا ترى قوله عز وجل : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وقوله : لا يجليها لوقتها إلا هو وقوله : كل شيء هالك إلا وجهه فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره . وكذلك قوله تبارك وتعالى : وما يعلم تأويله إلا الله . ولو كانت الواو في قوله : والراسخون للنسق لم يكن لقوله : كل من عند ربنا فائدة ، والله أعلم .
قلت : ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل ، وأنهم داخلون في علم المتشابه ، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به . وقال الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم : و يقولون على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين ، كما قال :
الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامه
وهذا البيت يحتمل المعنيين ; فيجوز أن يكون ( والبرق ) مبتدأ ، والخبر ( يلمع ) على التأويل الأول ، فيكون مقطوعا مما قبله ، ويجوز أن يكون معطوفا على الريح ، و ( يلمع ) في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعا . واحتج قائلو هذه المقالة أيضا بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم ، فكيف يمدحهم وهم جهال وقد قال ابن عباس : ( أنا ممن يعلم تأويله ) وقرأ مجاهد هذه الآية وقال : أنا ممن يعلم تأويله ، حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي .
قلت : وقد رد بعض العلماء هذا القول إلى القول الأول فقال : وتقدير تمام الكلام ( عند الله ) أن معناه وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل المتشابهات ، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا بما نصب من الدلائل في المحكم ومكن من رده إليه . فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا ، وما لم يحط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصالح فعلمه عند ربنا . فإن قال قائل : قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس : ( لا أدري ما الأواه ولا ما غسلين ) قيل له : هذا لا يلزم ; لأن ابن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه . وجواب أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل : وكل راسخ فيجب هذا ، فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر . ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك . وفي قوله عليه السلام لابن عباس : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ما يبين لك ذلك ، أي علمه معاني كتابك .
والوقف على هذا يكون عند قوله والراسخون في العلم . قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وهو الصحيح ; فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب . وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع .
لكن المتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بغيبه ، وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره . فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع ، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم ، كقوله في عيسى : وروح منه إلى غير ذلك فلا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له .
وأما من يقول : إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل ، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح .
والرسوخ : الثبوت في الشيء ، وكل ثابت راسخ . وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض ، قال الشاعر :
لقد رسخت في الصدر مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا
ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا . وحكى بعضهم : رسخ الغدير : نضب ماؤه ، حكاه ابن فارس فهو من الأضداد . ورسخ ورضخ ورصن ورسب كله ثبت فيه . وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الراسخين في العلم فقال : هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه . فإن قيل : كيف كان في القرآن متشابه والله يقول : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم فكيف لم يجعله كله واضحا ؟ قيل له : الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يظهر فضل العلماء ; لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض . وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا ، ويترك للجثوة موضعا ; لأن ما هان وجوده قل بهاؤه ، والله أعلم .
التاسعة : قوله تعالى : كل من عند ربنا فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه ; والتقدير : كله من عند ربنا . وحذف الضمير لدلالة ( كل ) عليه ; إذ هي لفظة تقتضي الإضافة . ثم قال : وما يذكر إلا أولو الألباب أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب ، وهو العقل . ولب كل شيء خالصه ; فلذلك قيل للعقل لب . و أولو جمع ذو .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features