لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة - ( المقلاة من النساء ) لا يعيش لها ولد - وكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا : هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت هذه الآية ( لا إكراه في الدين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خيروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم " .
وقال مجاهد : كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبن معهم ولندينن بدينهم فمنعهم أهلوهم فنزلت ( لا إكراه في الدين ) .
وقال مسروق : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال : لا أدعكما حتى تسلما فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فأنزل الله تعالى ( لا إكراه في الدين ) فخلى سبيلهما .
وقال قتادة وعطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام فلما أسلموا طوعا أو كرها أنزل الله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام وقيل كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه ( قد تبين الرشد من الغي ) أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل ( فمن يكفر بالطاغوت ) يعني الشيطان وقيل : كل ما عبد من دون الله تعالى فهو طاغوت ، وقيل كل ما يطغي الإنسان فاعول من الطغيان زيدت التاء فيه بدلا من لام الفعل كقولهم حانوت وتابوت فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث ( ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة ) أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين والوثقى تأنيث الأوثق ، وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى : ( لا انفصام لها ) لا انقطاع لها ( والله سميع ) قيل : لدعائك إياهم إلى الإسلام ( عليم ) بحرصك على إيمانهم .
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

قوله تعالى : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم
قوله تعالى : لا إكراه في الدين فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : لا إكراه في الدين الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله : قد تبين الرشد من الغي . والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه ، وإنما يجيء في تفسير قوله : إلا من أكره . وقرأ أبو عبد الرحمن " قد تبين الرشد من الغي " وكذا روي عن الحسن والشعبي ، يقال : رشد يرشد رشدا ، ورشد يرشد رشدا : إذا بلغ ما يحب . وغوى ضده ، عن النحاس . وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ " الرشاد " بالألف . وروي عن الحسن أيضا " الرشد " بضم الراء والشين . " الغي " مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي ، ولا يقال الغي في الضلال على الإطلاق .
الثانية : اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال :
( الأول ) قيل إنها منسوخة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام ، قاله سليمان بن موسى ، قال : نسختها يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين . وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين .
( الثاني ) ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية ، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين . هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك . والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية : أسلمي أيتها العجوز تسلمي ، إن الله بعث محمدا بالحق . قالت : أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب! فقال عمر : اللهم اشهد ، وتلا لا إكراه في الدين .
( الثالث ) ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال : نزلت هذه في الأنصار ، كانت تكون المرأة مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي . قال أبو داود : والمقلات التي لا يعيش لها ولد . في رواية : إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه ، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت : لا إكراه في الدين من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام . وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال : كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع . قال النحاس : قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده ، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي .
( الرابع ) قال السدي : نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام ، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيا أمرهما ، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما فنزلت : لا إكراه في الدين ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب ، وقال : ( أبعدهما الله هما أول من كفر ) فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية ثم إنه نسخ لا إكراه في الدين فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة ( براءة ) . والصحيح في سبب قوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السقي ، على ما يأتي في ( النساء ) بيانه إن شاء الله تعالى .
( وقيل ) معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها ، وهو القول الخامس .
( وقول سادس ) وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارا ، وإن كانوا مجوسا صغارا أو كبارا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام ؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين ، ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم ، ويدينون بأكل الميتة والنجاسات وغيرهما ، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار . ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك . وأما أشهب فإنه قال : هم على دين من سباهم ، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام ، والصغار لا دين لهم فلذلك أجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل . فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربا أم عجما قريشا أو غيرهم . وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في ( براءة ) إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله جزم بالشرط . والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى . - وحكى الطبري يطغو - إذا جاوز الحد بزيادة عليه . ووزنه فعلوت ، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير . ومذهب أبي علي أنه مصدر كرهبوت وجبروت ، وهو يوصف به الواحد والجمع ، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجبذ وجذب ، فقلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت ، واختار هذا القول النحاس . وقيل : أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق ، كما قيل : لآل من اللؤلؤ . وقال المبرد : هو جمع . وقال ابن عطية : وذلك مردود . قال الجوهري : والطاغوت الكاهن والشيطان ، وكله رأس في الضلال ، وقد يكون واحدا ، قال الله تعالى : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به . وقد يكون جمعا ، قال الله تعالى : أولياؤهم الطاغوت والجمع الطواغيت . ( ويؤمن بالله ) عطف . فقد استمسك بالعروة الوثقى جواب الشرط ، وجمع الوثقى الوثق مثل الفضلى والفضل ، فالوثقى فعلى من الوثاقة ، وهذه الآية تشبيه . واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه به ، فقال مجاهد : العروة الإيمان . وقال السدي : الإسلام . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ، لا إله إلا الله ، وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد . ثم قال : لا انفصام لها قال مجاهد : أي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، أي لا يزيل عنهم اسم الإيمان حتى يكفروا . والانفصام : الانكسار من غير بينونة . والقصم : كسر ببينونة ، وفي صحيح الحديث فيفصم عنه الوحي وإن جبينه ليتفصد عرقا أي يقلع . قال الجوهري : فصم الشيء كسره من غير أن يبين ، تقول : فصمته فانفصم ، قال الله تعالى : لا انفصام لها وتفصم مثله ، قاله ذو الرمة يذكر غزالا يشبهه بدملج فضة :
كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من جواري الحي مفصوم
وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام . ولم يقل " مقصوم " بالقاف فيكون بائنا باثنين . وأفصم المطر : أقلع . وأفصمت عنه الحمى ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات " سميع " من أجل النطق " عليم " من أجل المعتقد .
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب، كما هو قول كثير من العلماء، فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي: بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه، وكان المتمسك به على ثقة من أمره، لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي { لا انفصام لها } وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت، فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة، واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم { والله سميع عليم } فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features