وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)

يقول تعالى ذكره: ( وَاذْكُرْ ) يا محمد ( اسْمُ رَبِّكَ ) فادعه به : ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) يقول: وانقطع إليه انقطاعا لحوائجك وعبادتك دون سائر الأشياء غيره، وهو من قولهم: تبتَّلتُ هذا الأمر؛ ومنه قيل لأمّ عيسى ابن مريم البتول، لانقطاعها إلى الله، ويقال للعابد المنقطع عن الدنيا وأسبابها إلى عبادة الله: قد تبتل؛ ومنه الخبر الذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن التبتُّل ".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص له إخلاصا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى، عن ابن أبي نجيح، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص له إخلاصا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص له إخلاصا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: أخْلِصْ إليه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص إليه إخلاصا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي يحيى المكي، في قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص إليه إخلاصا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص إليه المسألة والدعاء.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن أشعث، عن الحسن، في قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: بَتِّل نفسك واجتهد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) يقول: أخلص له العبادة والدعوة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص إليه إخلاصا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أي تفرّغ لعبادته، قال: تبتل فحبذا التبتل إلى الله، وقرأ قول الله: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ قال: إذا فرغت من الجهاد فانصب في عبادة الله وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ .
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)

{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } شامل لأنواع الذكر كلها { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا } أي: انقطع إلى الله تعالى، فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرب إليه، ويدني من رضاه.
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)

قوله تعالى : واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : واذكر اسم ربك أي ادعه بأسمائه الحسنى ، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة . وقيل : أي اقصد بعملك وجه ربك ، وقال سهل : اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك ، وتقطعك عما سواه . وقيل : اذكر اسم ربك في وعده ووعيده ، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته . وقال الكلبي : صل لربك أي بالنهار .
قلت : وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار ; إذ هو قسيمه ; وقد قال الله تعالى : وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر على ما تقدم .
الثانية : قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا التبتل : الانقطاع إلى عبادة الله - عز وجل - ; أي انقطع بعبادتك إليه ، ولا تشرك به غيره . يقال : بتلت الشيء أي قطعته ، ومنه قولهم : طلقها بتة بتلة ، وهذه صدقة بتة بتلة ; أي بائنة منقطعة عن صاحبها ، أي قطع ملكه عنها بالكلية ; ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى ، ويقال للراهب متبتل ; لانقطاعه عن الناس ، وانفراده بالعبادة ، قال :
تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممسى راهب متبتل
وفي الحديث النهي عن التبتل ، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات . وقيل : إن أصله عند العرب التفرد ; قاله ابن عرفة . والأول أقوى لما ذكرنا . ويقال : كيف قال : تبتيلا ، ولم يقل تبتلا ؟ قيل له : لأن معنى تبتل بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل .
الثالثة : قد مضى في ( المائدة ) في تفسير قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية . قال ابن العربي : وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس ، وخفت أماناتهم ، واستولى الحرام على الحطام ، فالعزلة خير من الخلطة ، والعزبة أفضل من التأهل ، ولكن معنى الآية : انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله ، وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة ، ولم يرد التبتل ، فصار التبتل مأمورا به في القرآن ، منهيا عنه في السنة ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي ; فلا يتناقضان ، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم ; فالتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة ; كما قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين والتبتل المنهي عنه : هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع ، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features