فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)

يأمر تعالى بتقواه، التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقيد ذلك بالاستطاعة والقدرة.
فهذه الآية، تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد، أنه يسقط عنه، وأنه إذا قدر على بعض المأمور، وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع، ما لا يدخل تحت الحصر، وقوله: { وَاسْمَعُوا } أي: اسمعوا ما يعظكم الله به، وما يشرعه لكم من الأحكام، واعلموا ذلك وانقادوا له { وَأَطِيعُوا } الله ورسوله في جميع أموركم، { وَأَنْفِقُوا } من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة، يكن ذلك الفعل منكم خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله تعالى وقبول نصائحه، والانقياد لشرعه، والشر كله، في مخالفة ذلك.
ولكن ثم آفة تمنع كثيرًا من الناس، من النفقة المأمور بها، وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس، فإنها تشح بالمال، وتحب وجوده، وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة.
فمن وقاه الله شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالإنفاق النافع لها { فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } لأنهم أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب، بل لعل ذلك، شامل لكل ما أمر به العبد، ونهي عنه، فإنه إن كانت نفسه شحيحة. لا تنقاد لما أمرت به، ولا تخرج ما قبلها، لم يفلح، بل خسر الدنيا والآخرة، وإن كانت نفسه نفسًا سمحة، مطمئنة، منشرحة لشرع الله، طالبة لمرضاة، فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به، ووصول معرفته إليها، والبصيرة بأنه مرض لله تعالى، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز.
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)

قوله: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) يقول تعالى ذكره: واحذروا الله أيها المؤمنون وخافوا عقابه، وتجنبوا عذابه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، والعمل بما يقرّب إليه ما أطقتم وبلَغه وسعكم.
وذُكر أن قوله: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) نـزل بعد قوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ تخفيفًا عن المسلمين، وأن قوله: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) ناسخ قوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) هذه رخصة من الله، والله رحيم بعباده، وكان الله جلّ ثناؤه أنـزل قبل ذلك اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وحقّ تقاته أن يُطاع فلا يعصى، ثم خفَّف الله تعالى ذكره عن عباده، فأنـزل الرخصة بعد ذلك فقال: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) فيما استطعت يا ابن آدم، عليها بايع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على السمع والطاعة فيما استطعتم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال: نسختها: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) .
وقد تقدم بياننا عن معنى الناسخ والمنسوخ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ؛ وليس في قوله: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) دلالة واضحة على أنه لقوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ناسخ، إذ كان محتملا قوله: اتقوا الله حقّ تقاته فيما استطعتم، ولم يكن بأنه له ناسخ عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فإذا كان ذلك كذلك، فالواجب استعمالهما جميعًا على ما يحتملان من وجوه الصحة.
وقوله: ( وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) يقول: واسمعوا لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه ( وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ ) يقول: وأنفقوا مالا من أموالكم لأنفسكم تستنقذوها من عذاب الله، والخير في هذا الموضع المال.
وقوله: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) يقول تعالى ذكره: ومن يَقِه الله شحَ نفسه، وذلك اتباع هواها فيما نهى الله عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني أَبو معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) يقول: هوى نفسه حيث يتبع هواه ولم يقبل الإيمان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جامع بن شدّاد، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) قال: أن يعمد إلى مال غيره فيأكله، وقوله: ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) يقول: فهؤلاء الذين وُقُوا شحّ أنفسهم، المُنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features