الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم. { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء: [هو] كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل منه تعالى ماء، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, [وزروع] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون, وتقوتون وتعيشون وتفكهون. { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي: نظراء وأشباها من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه. وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة من سواه, وهو [ذكر] توحيد الربوبية, المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن [الله] لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك. وقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين، ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : الذي جعل معناه هنا صير لتعديه إلى مفعولين : ويأتي بمعنى خلق ، ومنه قوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة وقوله : وجعل الظلمات والنور ويأتي بمعنى سمى ، ومنه قوله تعالى : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا . وقوله : وجعلوا له من عباده جزءا . وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أي سموهم . ويأتي بمعنى أخذ ، كما قال الشاعر :
وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة لضغمهما ها يقرع العظم نابها
وقد تأتي زائدة ، كما قال الآخر :
وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبر
وقد قيل في قوله تعالى وجعل الظلمات والنور : إنها زائدة . وجعل واجتعل بمعنى واحد ، قال الشاعر :
ناط أمر الضعاف واجتعل اللي ل كحبل العادية الممدود
فراشا أي وطاء يفترشونها ويستقرون عليها . وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها ; لأن الجبال كالأوتاد كما قال : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا . والبحار تركب إلى سائر منافعها كما قال : والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس
الثانية : قال أصحاب الشافعي : لو حلف رجل ألا يبيت على فراش أو لا يستسرج بسراج فبات على الأرض وجلس في الشمس لم يحنث ، لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفا . وأما المالكية فبنوه على أصلهم في الأيمان أنها محمولة على النية أو السبب أو البساط الذي جرت عليه اليمين ، فإن عدم ذلك فالعرف .
الثالثة : قوله تعالى : والسماء بناء السماء للأرض كالسقف للبيت ، ولهذا قال وقوله الحق وجعلنا السماء سقفا محفوظا وكل ما علا فأظل قيل له سماء ، وقد تقدم القول فيه والوقف على ( بناء ) أحسن منه على تتقون ; لأن قوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا نعت للرب . ويقال : بنى فلان بيتا ، وبنى على أهله - بناء فيهما - أي زفها . والعامة تقول : بنى بأهله ، وهو خطأ ، وكأن الأصل فيه أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها ، فقيل لكل داخل بأهله : بان . وبنى " مقصورا " شدد للكثرة ، وابتنى دارا وبنى بمعنى ، ومنه بنيان الحائط ، وأصله وضع لبنة على أخرى حتى تثبت .
وأصل الماء موه ، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها فقلت ماه ، فالتقى حرفان خفيان فأبدلت من الهاء همزة ; لأنها أجلد ، وهي بالألف أشبه ، فقلت : ماء ، الألف الأولى عين الفعل ، وبعدها الهمزة التي هي بدل من الهاء ، وبعد الهمزة ألف بدل من التنوين . قال أبو الحسن : لا يجوز أن يكتب إلا بألفين عند البصريين ، وإن شئت بثلاث ، فإذا جمعوا أو صغروا ردوا إلى الأصل فقالوا : مويه وأمواه ومياه ، مثل جمال وأجمال .
الرابعة : قوله تعالى : فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الثمرات جمع ثمرة . ويقال : ثمر مثل شجر . ويقال ثمر مثل خشب . ويقال : ثمر مثل بدن . وثمار مثل إكام ، جمع ثمر . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " الأنعام " إن شاء الله . وثمار السياط : عقد أطرافها .
والمعنى في الآية أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات ، وأنواعا من النبات . رزقا طعاما لكم ، وعلفا لدوابكم ، وقد بين هذا قوله تعالى : إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم وقد مضى الكلام في الرزق مستوفى والحمد لله .
فإن قيل : كيف أطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ؟ قيل له : لأنها معدة لأن تملك ويصح بها الانتفاع ، فهي رزق .
الخامسة : قلت : ودلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق ، ولهذا قال عليه السلام مشيرا إلى هذا المعنى : والله لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه . أخرجه مسلم . ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا . وقال علماء الصوفية : أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر ، وهو أن تجعل الأرض وطاء والسماء غطاء ، والماء طيبا والكلأ طعاما ، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا ، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لا بد لك منه ، من غير منة فيه لأحد عليك . وقال نوف البكالي : رأيت علي بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال : يا نوف ، أراقد أنت أم رامق ؟ قلت : بل رامق يا أمير المؤمنين ، قال : طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا ، وترابها فراشا ، وماءها طيبا ، والقرآن والدعاء دثارا وشعارا ، فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام . . . وذكر باقي الخبر ، وسيأتي تمامه في هذه السورة عند قوله تعالى : أجيب دعوة الداع إن شاء الله تعالى .
السادسة : قوله تعالى : فلا تجعلوا نهي . " لله أندادا " أي أكفاء وأمثالا ونظراء ، واحدها ند ، وكذلك قرأ محمد بن السميقع " ندا " ، قال الشاعر :
نحمد الله ولا ند له عنده الخير وما شاء فعل
وقال حسان :
أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداء
ويقال : ند ونديد ونديدة على المبالغة ، قال لبيد :
لكيلا يكون السندري نديدتي وأجعل أقواما عموما عماعما
وقال أبو عبيدة أندادا أضدادا . النحاس : أندادا مفعول أول ، و " لله " في موضع الثاني . الجوهري : والند ( بفتح النون ) : التل المرتفع في السماء . والند من الطيب ليس بعربي . وند البعير يند ندا وندادا وندودا : نفر وذهب على وجهه ، ومنه قرأ بعضهم " يوم التناد " . وندد به أي شهره وسمع به .
السابعة : قوله تعالى : وأنتم تعلمون ابتداء وخبر ، والجملة في موضع الحال ، والخطاب للكافرين والمنافقين ، عن ابن عباس .
فإن قيل : كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمى . فالجواب من وجهين : أحدهما - وأنتم تعلمون يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق ، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد . الثاني - أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم ، والله أعلم . وفي هذا دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد . وقال ابن فورك : يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين ، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا
وقوله: " الذي جَعل لكم الأرض فِرَاشًا " مردود على الَّذِي الأولى في قوله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، وهما جميعًا من نَعت رَبَّكُمُ , فكأنّه قال: اعبدُوا ربكم الخالقكُم, والخالقَ الذين من قبلكم, الجاعلَ لكم الأرض فراشًا. يعني بذلك أنّه جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً (125) وقرارًا يُستقرّ عليها. يُذكِّرُ ربّنا جلّ ذكره -بذلك من قِيله- عبادَهُ نعمَه عندهم وآلاءه لديهم (126) ليذْكروا أياديَه عندهم، فينيبوا إلى طاعته -تعطُّفًا منه بذلك عليهم, ورأفةً منه بهم, ورحمةً لهم, من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم, ولكن ليُتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.
475- كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة (127) ، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " الذي جعل لكم الأرض فراشًا " فهي فراشٌ يُمشى عليها, وهي المهاد والقرار (128) .
476- حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: " الذي جَعل لكم الأرض فراشًا "، قال: مهادًا لكم.
477- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " الذي جعل لكم الأرض فراشًا " ، أي مهادًا.
القول في تأويل قوله : وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
قال أبو جعفر: وإنما سُميت السماءُ سماءً لعلوها على الأرض وعلى سُكانها من خلقه, وكل شيء كان فوق شيء آخرَ فهو لما تحته سَمَاءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت: سَمَاوةٌ (129) ، لأنه فوقه مرتفعٌ عليه. ولذلك قيل: سَمَا فلان لفلان، إذا أشرف له وقَصَد نحوه عاليًا عليه, كما قال الفرزدق:
سَــمَوْنَا لِنَجْــرَانَ الْيَمَـانِي وَأَهْلِـهِ
وَنَجْــرَانُ أَرْضٌ لَـمْ تُـدَيَّثْ مَقَاوِلُـهْ (130)
وكما قال نابغة بني ذُبيانَ:
سَــمَتْ لِـي نَظْـرَةٌ, فَـرَأيتُ مِنْهَـا
تُحَــيْتَ الْخِــدْرِ وَاضِعَـةَ الْقِـرَامِ (131)
يريد بذلك: أشرفتْ لي نظرةٌ وبدت, فكذلك السماء سُميت للأرض: سماءً، لعلوها وإشرافها عليها.
478- كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " والسّماء بناء ", فبناءُ السماء على الأرض كهيئة القبة, وهي سقف على الأرض. (132)
479- حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة في قول الله: " والسماءَ بناءً"، قال: جعل السماء سَقفًا لكَ.
وإنما ذكر تعالى ذكره السماءَ والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم, لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم, وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خَلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجبُ منهم الشكرَ والعبادةَ، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضرُّ ولا تنفع.
القول في تأويل قول الله جلّ ثناؤه: وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ
يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنـزل من السماء مطرًا, فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغَرْسهم ثمرات (133) - رزقًا لهم، غذاءً وأقواتًا. فنبههم بذلك على قدرته وسُلطانه, وذكَّرهم به آلاءَه لديهم, وأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يَرزقهم ويكفُلُهم، دون من جعلوه له نِدًّا وعِدْلا من الأوثان والآلهة. ص[1-368 ] ثم زَجَرهم عن أن يجعلوا له ندًّا، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم, وأنه لا نِدَّ له ولا عِدْل, ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ ولا خالقٌ ولا رازقٌ سِواه.
القول في تأويل قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
قال أبو جعفر: والأنداد جمع نِدّ, والنِّدّ: العِدْلُ والمِثل, كما قال حسان بن ثابت:
أَتَهْجُـــوهُ وَلَسْــتَ لَــهُ بِنِــدٍّ?
فَشَـــرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَـــا الْفِــدَاءُ (134)
يعني بقوله: " ولستَ له بند "، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهو له ند (135) .
480- كما حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، أي عُدَلاء (136) .
481- حدثني المثنى, قال: حدثني أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبل, عن ابن أبي نَحيح, عن مجاهد: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، أي عُدَلاء (137) .
482- حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، قال: أكفاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله (138) .
483- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (139) في قول الله: " فلا تَجعلوا لله أندادًا "، قال: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.
484- حُدِّثت عن المنجاب, قال: حدثنا بِشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، قال: أشباهًا (140) .
485- حدثني محمد بن سنان, قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَبيب، عن عكرمة: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، أن تقولوا: لولا كلبنا لَدَخل علينا اللصّ الدارَ, لولا كلبنا صَاح في الدار، ونحو ذلك (141) .
فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه, أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة, فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم, ونعمي التي أنعمتها عليكم (142) - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة, ص[ 1-370 ] وأخلصُوا ليَ العبادة, ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي, فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي (143) .
القول في تأويل قوله : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية:
فقال بعضهم: عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب.
وقال بعضهم: عنى بذَلك أهلَ الكتابين، أهلَ التوراة والإنجيل (144) .
ذكر من قال: عنى بها جميعَ عبَدَة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين:
486- حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: نَـزَل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنى تعالى ذكره بقوله: " فلا تَجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون "، أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ, وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره, وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه (145) .
487- حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد، عن سعيد, عن قتادة في قوله: " وأنتمْ تعلمون " أي تعلمون أنّ الله خَلقكم وخلق السموات والأرض, ثم تجعلون له أندادًا (146) .
ذكر من قال: عني بذلك أهلَ الكتابين:
488- حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: " فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون "، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل.
489- حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا قَبيصة, قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، مثله (147) .
490- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: " وأنتم تعلمون "، يقول: وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل (148) .
قال أبو جعفر: وأحسَِب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل, وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها, وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته, غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها, فقال جل ثناؤه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة الزخرف: 87]، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [سورة يونس: 31].
فالذي هو أولى بتأويل قوله: " وأنتم تعلمون " - إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله, وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم, نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله جل ص[ 1-373 ] ثناؤه عني بقوله: " وأنتم تعلمون " أحدَ الحزبين, بل مُخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم, لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ - أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة, من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله (149) ، وأنه لا شريكَ له في خلقه، يُشرِك معه في عبادته غيرَه, كائنًا من كان من الناس, عربيًّا كان أو أعجميًّا, كاتبًا أو أميًّا, وإن كان الخطابُ لكفار أهل الكتابِ الذين كانوا حَواليْ دَار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأهل النفاق منهم، وممن بينَ ظَهرانيهم ممّن كان مشركًا فانتقل إلى النفاق بمقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
--------------------
الهوامش :
(125) في المطبوعة : "مهادًا وموطئًا" ، وفي المخطوطة"مهادًا توتطا" ، وكأن الصواب ما أثبتناه . والموطأ : المهيأ الملين الممهد . وسيأتي أن الفراش هو المهاد .
(126) في المطبوعة"زيادة نعمه عندهم ، وآلائه لديهم" ، والصواب ما في المخطوطة . وقوله"عباده" مفعول : "يذكر ربنا . . " .
(127) قوله"وعن مرة" ، ساقطة من المطبوعة ، وهذا هو الصواب .
(128) الخبر 475- في الدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 38 .
(129) في المطبوعة"سماؤه" ، وكلتاهما صواب ، سماء البيت ، وسماوته : سقفه .
(130) ديوانه : 735 ، والنقائض : 600 . ونجران : أرض في مخاليف اليمن من ناحية مكة . وذكر نجران ، على لفظه وأصل معناه ، والنجران في كلام العرب : الخشبة التي يدور عليها رتاج الباب . وديث البعير : ذلـله بعض الذل حتى تذهب صعوبته . والمقاول : جمع مقول . والمقول والقيل : الملك من ملوك حمير . يقول : هي أرض عز عزيز ، لم يلق ملوكها ضيما يذلهم ويحني هاماتهم .
(131) ديوانه : 86 ، وروايته : "صفحت بنظرة" . وقوله"صفحت" ، أي تصفحت الوجوه بنظرة ، أو رميت بنظرة متصفحًا . والقرام : ستر رقيق فيه رقم ونقوش . والخدر : خشبات تنصب فوق قتب البعير مستورة بثوب ، وهو الهودج . ووضع الشيء : ألقاه . وتحيت : تصغير"تحت" ، وصغر"تحت" ، لأنه أراد أن ستر الخدر بعد وضع القرام لا يبدى منها إلا قليلا ، وهذا البيت متعلق بما قبله وما بعده . وقبله :
فَلَــوْ كَــانَتْ غَـدَاةَ الْبَيْـنِ مَنَّـتْ
وَقَـدْ رَفَعُـوا الْخُـدُورَ عَـلَى الْخِيَـامِ
صَفَحْـــــتُ بنظــــرةٍ . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تَــرَائِبَ يســتضئُ الحــليُ فيهـا
كَجــمْرِ النـارِ بُـذِّرَ فِـي الـظَّـلامِ
(132) الخبر 478- في الدر المنثور 1 : 34 ، جمعه مع الخبر : 475 خبرًا واحدًا .
(133) في المخطوطة : "زرعهم وغروسهم" ، وهما سواء .
(134) ديوانه : 8 ، روايته"بكفء" ، وكذلك في رواية الطبري الآتية (18 : 69 - 70 بولاق) وقصيدة حسان هذه ، يهاجى بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ، قبل إسلامه ، وكان هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(135) في المطبوعة : "كان نظيرًا لشيء وشبيهًا" .
(136) الأثر 481- في الدر المنثور 1 : 35 ، والعدلاء : جمع عديل ، وهو النظير والمثيل ، كالعدل .
(137) الأثر- 481- في الدر المنثور 1 : 35 ، والعدلاء : جمع عديل ، وهو النظير والمثيل ، كالعدل .
(138) الخبر 482- في الدر المنثور 1 : 34 - 35 ، والشوكاني 1 : 39 .
(139) في المطبوعة : "ابن يزيد" ، وهو خطأ .
(140) الخبر 484- في الدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 39 .
(141) الأثر 485- جاء مثله في خبر عن ابن عباس في ابن كثير 1 : 105 ، والشوكاني 1 : 39 . وفي المطبوعة : "أي تقولوا : لولا كلبنا . . " ، وليست بشيء . وفي المخطوطة"ونحو هذا" مكان"ونحو ذلك" . والخبر الذي في ابن كثير ، ساقه مطولا بالإسناد من تفسير ابن أبي حاتم ، من طريق الضحاك بن مخلد ، وهو أبو عاصم النبيل الذي في هذا الإسناد ، عن شبيب ، وهو ابن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ولعل الطبري قصر بهذا الإسناد ، لأنه يروي مثل هذه الروايات ، بهذا الإسناد إلى عكرمة ، عن ابن عباس ، كما مضى برقم : 157 . وعن ذلك إعراض ابن كثير عن نقل رواية الطبري ، واختياره رواية ابن أبي حاتم . وسياق رواية ابن أبي حاتم -عن ابن عباس- فيها فوائد جمة . ولفظها : "قال : الأنداد ، هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل . وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت . وقول الرجل : لولا الله وفلان . لا تجعل فيها"فلان" . هذا كله به شرك" . ثم قال ابن كثير : "وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت! قال : أجعلتني لله ندًّا؟!" . والحديث الذي يشير إليه ابن كثير ، رواه أحمد في المسند بأسانيد صحاح ، عن ابن عباس : 1839 ، 1964 ، 2561 ، 3247 . وكذلك رواه البخاري في الأدب المفرد ص : 116 ونسبه الحافظ ابن حجر في الفتح 11 : 470 للنسائي وابن ماجه .
(142) في المطبوعة : "ونعمتي" بالإفراد .
(143) في المطبوعة : " . . كل نعمة عليكم مني" . وهذه أجود .
(144) في المطبوعة : "أهل الكتابين التوراة والإنجيل" .
(145) الخبر 486- مضى صدره في رقم : 472 ، وتمامه في ابن كثير 1 : 105 ، والدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 39 .
(146) الأثر 487- في الدر المنثور 1 : 35 .
(147) الإسناد 489- قبيصة ، بفتح القاف : هو ابن عقبة بن محمد السوائي الكوفي ، وهو ثقة معروف ، من شيوخ البخاري ، وأخرج له أصحاب الكتب الستة ، تكلم بعضهم في روايته عن سفيان الثوري ، بأنه يخطئ في بعض روايته ، بأنه سمع من الثوري صغيرًا ، ولكن لم يجرحه البخاري في الكبير 4/1/177 ، وقال ابن سعد في الطبقات 6 : 281 : "كان ثقة صدوقًا ، كثير الحديث عن سفيان الثوري" . وسأل ابن أبي حاتم (الجرح 3/2/126) أباه عن قبيصة وأبي حذيفة ، فقال : "قبيصة أجل عندي ، وهو صدوق . لم أر أحدًا من المحدثين يأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره ، سوى قبيصة بن عقبة ، وعلي بن الجعد ، وأبي نعيم - في الثوري" .
(148) الأثر 490- ذكره ابن كثير 1 : 105 ، والدر المنثور 1 : 35 ، بنحوه .
(149) في المخطوطة : "من أنه معنى بذلك . . " ، وهما سواء .
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features