يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

قوله تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين فيه أربع مسائل :
الأولى : العامل في ( يوم ) فعل مضمر ، دل عليه مبعوثون والمعنى يبعثون يوم يقوم الناس لرب العالمين . ويجوز أن يكون بدلا من يوم في ليوم عظيم ، وهو مبني . وقيل : هو في موضع خفض ; لأنه أضيف إلى غير متمكن . وقيل : هو منصوب على الظرف أي في يوم ، ويقال : أقم إلى يوم يخرج فلان ، فتنصب يوم ، فإن أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون : أقم إلى يوم خروج فلان . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم .
الثانية : وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابيا قال له : قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين ; أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن . وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن ، ووصف اليوم بالعظيم ، وقيام الناس فيه لله خاضعين ، ووصف ذاته برب العالمين بيان بليغ لعظم الذنب ، وتفاقم الإثم في التطفيف ، وفيما كان في مثل حاله من الحيف ، وترك القيام بالقسط ، والعمل على التسوية والعدل في كل أخذ وإعطاء ، بل في كل قول وعمل .
الثالثة : قرأ ابن عمر : ويل للمطففين حتى بلغ يوم يقوم الناس لرب العالمين فبكى حتى سقط ، وامتنع من قراءة ما بعده ، ثم قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يوم يقوم الناس لرب العالمين ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه ، ومنهم من يبلغ ركبتيه ، ومنهم من يبلغ حقويه ، ومنهم من يبلغ صدره ، ومنهم من يبلغ أذنيه ، حتى إن أحدهم ليغيب في رشحه كما يغيب الضفدع " . وروى ناس عن ابن عباس قال : يقومون مقدار ثلاثمائة سنة . قال : ويهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة . وروي عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقومون ألف عام في الظلة " . وروى مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى إن أحدهم ليقوم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " . وعنه أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يقوم مائة سنة " . وقال أبو هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبشير الغفاري : " كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلاثمائة سنة لرب العالمين ، لا يأتيهم فيه خبر ، ولا يؤمر فيه بأمر " قال بشير : المستعان الله .
قلت : قد ذكرناه مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنه ليخفف عن المؤمن ، حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا " في ( سأل سائل ) . وعن ابن عباس : يهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة . وقيل : إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس ; والدليل على هذا من الكتاب قوله الحق : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ثم وصفهم فقال : الذين آمنوا وكانوا يتقون جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده . ومنه آمين . وقيل : المراد بالناس جبريل - عليه السلام - يقوم لرب العالمين ; قاله ابن جبير وفيه بعد ; لما ذكرنا من الأخبار في ذلك ، وهي صحيحة ثابتة ، وحسبك بما في صحيح مسلم ، والبخاري والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم يقوم الناس لرب العالمين قال : " يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه " . ثم قيل : هذا القيام يوم يقومون من قبورهم . وقيل : في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا . وقال يزيد الرشك : يقومون بين يديه للقضاء .
الرابعة : القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالإضافة إلى عظمته وحقه ، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس ; فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه . وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه ، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ : " قوموا إلى سيدكم " . وقال أيضا : " من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار " . وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته ، فإن انتظر ذلك واعتقده لنفسه ، فهو ممنوع ، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز ، وخاصة عند الأسباب ، كالقدوم من السفر ونحوه . وقد مضى في آخر سورة ( يوسف ) شيء من هذا .
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

وقوله: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) فيوم يقوم تفسير عن اليوم الأول المخفوض، ولكنه لما لم يعد عليه اللام ردّ إلى " مبعوثون "، فكأنه قال: ألا يظنّ أولئك &; 24-279 &; أنهم مبعوثون يوم يقوم الناس وقد يجوز نصبه وهو بمعنى الخفض، لأنها إضافة غير محضة، ولو خفض ردّا على اليوم الأوّل لم يكن لحنا، ولو رفع جاز، كما قال الشاعر:
وكُـنتُ كَـذي رِجْلَينِ: رِجلٍ صَحِيحةٍ
وَرِجْـلٍ رمَـى فِيهـا الزَّمـان فشُلَّتِ (3)
وذُكر أن الناس يقومون لربّ العالمين يوم القيامة حتى يلجمهم العرق، فبعض يقول: مقدار ثلثمائة عام، وبعض يقول: مقدار أربعين عاما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " .
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا ابن عون، عن نافع، قال: قال ابن عمر: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) حتى يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ النَّاس يُوقَفُون يَوْمَ الْقِيامَةِ لِعَظَمَةِ اللهِ، حتى إنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إلى أنْصَافِ آذَانِهِمْ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) يَوْم الْقِيامَةِ لِعَظَمَة الرَّحْمَنِ"، ثم ذكر مثله.
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا آدم، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر قال: " تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: يَقُومُونَ حتى يَبْلُغَ الرَّشْحُ إلى أنْصَاف آذانِهِمْ ".
حدثنا أحمد بن محمد بن حبيب، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبي، عن صالح، قال: ثنا نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) يَوْمَ الْقِيامَةِ، حتى يَغِيبَ أحَدُهُمْ إلى أنصَافِ أذُنَيْهِ فِي رَشْحِهِ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة بن سعيد، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، في قوله: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: يقومون مئة سنة.
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) يَوْمَ الْقِيامَةِ، حتَّى إنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُ الرجل إلى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى وابن وكيع، قالا ثنا يحيى، عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " يَقُومُ النَّاسُ لِربّ الْعالمِين حتى يَقُومَ أحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إلى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ".
حدثني محمد بن إبراهيم السليمي المعروف بابن صدران، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق قال: ثنا عبد السلام بن عجلان، قال: ثنا يزيد المدني، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبشير الغفاري: " كَيْفَ أنْتَ صَانِعٌ فِي: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِربّ الْعَالمِين مِقْدَارَ ثَلثِمائَةِ سَنَةٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيا، لا يأتِيُهْم خَبرٌ مِنَ السَّماءِ، وَلا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بأمْر " ، قال بشير: المستعان الله يا رسول الله، قال: " إذَا أنْتَ أوَيْتَ إلى فِراشِكَ فَتَعَوَّذْ بالله مِنْ كُرَب يَوْمِ القِيامَة، وَسُوءِ الْحِساب ".
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: يمكثون أربعين عاما رافعي رءوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق كلّ برّ وفاجر، قال: فينادي مناد: أليس عدلا من ربكم أن خلقكم ثم صوّركم، ثم رزقكم، ثم توليتم غيره أن يولي كلّ عبد منكم ما تولى في الدنيا؟ قالوا: بلى، ثم ذكر الحديث بطوله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن سكن، قال: حدث عبد الله، وهو عند عمر ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: إذا كان يوم القيامة يقوم الناس بين يدي ربّ العالمين أربعين عاما، شاخصة أبصارهم إلى السماء حفاة عراة يلجمهم العرق، ولا يكلّمهم بشر أربعين عاما، ثم ذكر نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: ذُكر لنا أن كعبا كان يقول: يقومون ثلثمائة سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران وسعيد، عن قتادة ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: كان كعب يقول: يقومون مقدار ثلثمائة سنة.
قال: قتادة: وحدثنا العلاء بن زياد العدويّ، قال: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المومن حتى يكون كإحدى صلاته المكتوبة.
قال: ثنا مهران، قال: ثنا العمريّ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: يَقُومُ الرَّجُلُ فِي رَشْحِهِ إلى أنْصَافِ أُذُنَيهِ".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) حتى يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
قال يعقوب، قال إسماعيل: قلت لابن عون: ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: " نَعَمْ إنْ شاءَ اللهُ ".
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثني عمي، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، حتى إنَّ أحَدَهُمْ لَيَغِيبُ فِي رَشْحِهِ إلى نِصْف أُذُنَيْهِ".
------------------------
الهوامش:
(3) البيت لكثير عزة وقد استشهد به المؤلف في الجزء ( 3 : 194 ) وأنشده الفراء في معاني القرآن ( 361 ) قال : وقوله : { يوم يقوم الناس } هو تفسير اليوم المخفوض ، لما ألقى اللام من الثاني رده إلى " مبعوثون " يوم يقوم الناس ؛ فلو خفضت يوم بالرد على البيت الأول ؛ كان صوابا وقد يكون في موضع خفض ، إلا أنها أضيفت إلى " يفعل " فنصبت إذا أضيفت إلى غير مخفوض ولو رفع على ذلك يوم يقوم كما قال الشاعر " وكنت كذى رجلين ... " ا هـ . وانظر ديوان كثير طبع بالجزائر ( 1 : 49 )
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features