ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

قوله تعالى : ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ثم قفينا أي : أتبعنا على آثارهم أي : على آثار الذرية . وقيل : على آثار نوح وإبراهيم برسلنا موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم وقفينا بعيسى ابن مريم فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه وآتيناه الإنجيل وهو الكتاب المنزل عليه . وتقدم اشتقاقه في أول سورة ( آل عمران ) .
الثانية : قوله تعالى : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه على دينه يعني الحواريين وأتباعهم رأفة ورحمة أي : مودة فكان يواد بعضهم بعضا . وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس ، وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه . والرأفة : اللين ، والرحمة : الشفقة . وقيل : الرأفة : تخفيف الكل ، والرحمة : تحمل الثقل . وقيل : الرأفة أشد الرحمة . وتم الكلام . ثم قال : ورهبانية ابتدعوها أي : من قبل أنفسهم . والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل ، قال أبو علي : وابتدعوها رهبانية ابتدعوها . وقال الزجاج : أي : ابتدعوها رهبانية ، كما تقول : رأيت زيدا وعمرا كلمت . وقيل : إنه معطوف على الرأفة والرحمة ، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها . قال الماوردي : وفيها قراءتان ، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف ، من الرهب . الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان ؛ وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع ، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا . قال الضحاك : إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع . وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع . وفي خبر مرفوع : هي لحوقهم بالبراري والجبال . ما كتبناها عليهم أي : ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها ؛ قاله ابن زيد . وقوله تعالى : إلا ابتغاء رضوان الله أي : ما أمرناهم إلا بما يرضي الله ؛ قاله ابن مسلم . وقال الزجاج : ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة . ويكون ابتغاء رضوان الله بدلا من الهاء والألف في كتبناها والمعنى : ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . وقيل : إلا ابتغاء الاستئناء منقطع ، والتقدير : ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله . فما رعوها حق رعايتها أي : فما قاموا بها حق القيام . وهذا خصوص ، لأن الذين لم يرعوها بعض القوم ، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم ، كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللهوهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر . وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : ورهبانية ابتدعوها قال : كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى ، فقال أناس لملكهم : لو قتلت هذه الطائفة . فقال المؤمنون : نحن نكفيكم أنفسنا . فطائفة قالت : ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها ، وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم . وقالت طائفة : دعونا نهيم في الأرض ونسيح ، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية ، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا . وطائفة قالت : ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحفر الآبار ونحترث البقول فلا تروننا . وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا ، فمضى أولئك على منهاج عيسى ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا : نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله تعالى : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله الآية .
يقول : ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها المتأخرون حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها وكثير منهم فاسقون يعني المتأخرين ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل ، جاءوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
الثالثة : وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية . وعن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدي بن عجلان - قال : أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ، ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ، فعابهم الله بتركها فقال : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها .
الرابعة : وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت ، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان . وقد مضى بيان هذا في سورة ( الكهف ) مستوفى والحمد لله . وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال : مر رجل بغار فيه شيء من ماء ، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار ، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا . قال : لو أني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل ، فأتاه فقال : يا نبي الله ! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل ، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا . قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ، ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة . وروى الكوفيون عن ابن مسعود ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تدري أي الناس أعلم قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه ، هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ؟ ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا : إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه ، فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر - وتلا ورهبانية الآية - أتدري ما رهبانية أمتي ؟ الهجرة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة ، وهلك سائرها ، فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودينعيسى - عليه السلام - حتى قتلوا ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ، أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك - ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم : ورهبانية ابتدعوها - الآية - فمن آمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون ، يعني الذي تهودوا وتنصروا . وقيل : هؤلاء الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون . وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي : إن الأولين أصروا على الكفر أيضا ، فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر . والله أعلم .
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

يقول تعالى ذكره: ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات على آثار نوح وإبراهيم برسلنا، وأتبعنا بعيسى ابن مريم، ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته، ( رَأْفَةٌ ) وهو أشدّ الرحمة، ( وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ) يقول: أحدثوها( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم، ( إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ) يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) .
واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها، فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، لم يقوموا بها، ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى، فتنصروا وتهوّدوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها، فلم يرعوها حقّ رعايتها، لأنهم كانوا كفارا، ولكنهم قالوا: نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليًّا، فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها.
وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الأحرف، إلى الموضع الذي ذكرنا أن أهل التأويل فيه مختلفون في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) فهاتان من الله، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم، ولم تُكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله، فما رعوها حقّ رعايتها، ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء، واتخذوا الصوامع.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ) قال: لم تُكتب عليهم، ابتدعوها ابتغاء رضوان الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: ( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) قال: فلم؟ قال: ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تطوّعا، فما رَعوها حقّ رعايتها.
ذكر من قال: الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها كانوا غير الذين ابتدعوها. ولكنهم كانوا المريدي الاقتداء بهم.
حدثنا الحسين بن الحريث [أبو عمار المَرْوزِيّ] قال: ثنا الفضل بن موسى، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت ملوك بعد عيسى بدّلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل، فقيل لملكهم: ما نجد شيئا أشدّ علينا من شتم يشتُمناه هؤلاء، أنهم يقرءون وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ هؤلاء الآيات، مع ما يعيبوننا به في قراءتهم، فادعهم فليقرءوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا به، قال: فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل، إلا ما بدّلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك فدعونا؛ قال: فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا، فلا نردّ عليكم، وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش، فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دورا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، فلا نردّ عليكم، ولا نمرّ بكم، وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم؛ قال: ففعلوا ذلك، فأنـزل الله جلّ ثناؤه ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا )، الآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دورًا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم؛ قال: فلما بعث النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولم يبق منهم إلا قليل، انحطّ رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وجاء صاحب الدار من داره، وآمنوا به وصدّقوه، فقال الله جلّ ثناؤه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال: أجرين لإيمانهم بعيسى، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل، وإيمانهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وتصديقهم به. قال: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ : القرآن، واتباعهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقال لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا داود بن المحبر، قال: ثنا الصعق بن حزن، قال: ثنا عقيل الجعدّي، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن سويد ين غفلة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجا مِنْهُمْ ثَلاثُ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ: فِرْقَةٌ مِنَ الثَّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وََقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللهِ ودِين عيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ؛ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاة المُلُوكِ، فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانَيْ قَوْمَهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللهِ ودِينِ عيسى ابن مَرْيم صَلَواتُ اللهُ عَليْه، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ، وَنَشَرَتَهُمْ بالمَناشِير؛ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ، وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دينِ اللهِ ودِينِ عيسَى صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجبالِ، فَتَرَهَّبُوا فيها، فَهُوَ قَوْل اللهِ عَزَّ وَجَلَّ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) قال: ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله، ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) قال: ما رعاها الذين من بعدهم حقَّ رعايتها، ( فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ) قال: وهم الذين آمنوا بي، وصدّقوني. قال ( وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) قال: وفهم الذين جحدوني وكذّبوني.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا )، قال الآخرون: ممن تعبد من أهل الشرك، وفني من فني منهم، يقولون: نتعبَّد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، وهم في شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم.
* ذكر من قال: الذين لم يرعوها حق رعايتها: الذين ابتدعوها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) .... إلى قوله : ( حَقَّ رِعَايَتِهَا ) يقول: ما أطاعوني فيها، وتكلَّموا فيها بمعصية الله، وذلك أن الله عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فلما استخرج أهل الإيمان، ولم يبق منهم إلا قليل، وكثر أهل الشرك، وذهب الرسل وقهروا، اعتزلوا في الغيران، فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم، وتركوا أمر الله عزّ وجلّ ودينه، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانية وباليهودية، فلم يرعوها حقّ رعايتها، وثبتت طائفة على دين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، حين جاءهم بالبينات، وبعث الله عزّ وجلّ محمدا رسولا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهم كذلك، فذلك قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ... إلى وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ): كان الله عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قيل أن يبعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فلما استخرج أهل الإيمان، ولم يبق منهم إلا القليل، وكثر أهل الشرك، وانقطعت الرسل، اعتزلوا الناس، فصاروا في الغيران، فلم يزالوا كذلك حتى غيرت طائفة منهم، فتركوا دين الله وأمره، وعهده الذي عهده إليهم، وأخذوا بالبدع، فابتدعدوا النصرانية واليهودية، فقال الله عزّ وجلّ لهم: ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا )، وثبتت طائفة منهم على دين عيسى صلوات الله عليه، حتى بعث الله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فآمنوا به.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال ثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا بن أبي مريم، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: إن الله كتب عليكم صيام رمضان، ولم يكتب عليكم قيامه، وإنما القيام شيء ابتدعتموه، وإن قوما ابتدعوا بدعة لم يكتبها الله عليهم، ابتغوا بها رضوان الله، فلم يرعوها حق رعايتها،فعابهم الله بتركها، فقال: ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم؛ قال: فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها، فلو لم يكن منهم من كان كذلك، لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه: ( فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ )، إلا أن الذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكون كانوا على عهد الذين ابتدعوها، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها، فجائز في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم. والمراد منهم البعض الحاضر، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
وقوله: ( فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ) يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء، الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله، وإيمانهم به وبرسوله في الآخرة، وكثير منهم أهل معاص، وخرج عن طاعته، والإيمان به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد ( فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ) قال: الذين رعوا ذلك الحقّ.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features