يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)

( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضا ( أن تحبط أعمالكم ) لئلا تحبط حسناتكم . وقيل : مخافة أن تحبط حسناتكم ( وأنتم لا تشعرون ) .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية ، جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى ؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى ، قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنا من أهل النار ، فذكر ذلك سعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بل هو من أهل الجنة " .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي ، فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في ، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغلب ثابتا البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتى عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبره خبره فقال له : اذهب فادعه ، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوك ، فقال : اكسر الضبة فكسرها ، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، ولا أرفع صوتي أبدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله : ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في خطابه، أي: لا يرفع المخاطب له، صوته معه، فوق صوته، ولا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، ويخاطبه بأدب ولين، وتعظيم وتكريم، وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزوه في خطابهم، كما تميز عن غيره، في وجوب حقه على الأمة، ووجوب الإيمان به، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك، محذورًا، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر، كما أن الأدب معه، من أسباب [حصول الثواب و] قبول الأعمال.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)

قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .
فيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال : حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو بكر : يا رسول الله استعمله على قومه ، فقال عمر : لا تستعمله يا رسول الله ، فتكلما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ارتفعت أصواتهما ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . فقال عمر : ما أردت خلافك ، قال : فنزلت هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي قال : فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسمع كلامه حتى يستفهمه . قال : وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر . قال : هذا حديث غريب حسن . وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا ، لم يذكر فيه عن عبد الله بن الزبير .
قلت : هو البخاري ، قال : عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر ، فقال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . فقال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله - عز وجل - : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية . فقال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه . ولم يذكر ذلك عن أبيه ، يعني أبا بكر الصديق .
وذكر المهدوي عن علي - رضي الله عنه - : نزل قوله : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة ، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة ، فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجعفر ; لأن خالتها عنده . وقد تقدم هذا الحديث في ( آل عمران ) وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أعلم لك علمه ، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه ، فقال له : ما شأنك ؟ فقال : شر! كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله وهو من أهل النار . فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال كذا وكذا . فقال موسى : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة ، فقال : اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة ( لفظ البخاري ) وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد . وقيل : أبا عبد الرحمن . قتل له يوم الحرة ثلاثة من الولد : محمد ، ويحيى ، وعبد الله . وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك ، كان يقال له خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما يقال لحسان شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولما قدم وفد تميم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر ، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم ، وقام شاعرهم وهو الأقرع بن حابس فأنشد :
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا خالفونا عند ذكر المكارم وإنا رءوس الناس من كل معشر
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وإن لنا المرباع في كل غارة
تكون بنجد أو بأرض التهائم
فقام حسان فقال :
بني دارم لا تفخروا إن فخركم يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم
في أبيات لهما .
فقالوا : خطيبهم أخطب من خطيبنا ، وشاعرهم أشعر من شاعرنا ، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول وقال عطاء الخراساني : حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت : لما نزلت : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية ، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه ، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه يسأله ما خبره ، فقال : أنا رجل شديد الصوت ، أخاف أن يكون حبط عملي . فقال - عليه السلام - : ( لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير ) . قال : ثم أنزل الله : إن الله لا يحب كل مختال فخور فأغلق بابه وطفق يبكي ، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه فأخبره ، فقال : يا رسول الله ، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي . فقال : ( لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ) . قالت : فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا ، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة : ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا ، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة ، فمر به رجل من المسلمين فأخذها ، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له : أوصيك بوصية ، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه ، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس ، وعند خبائه فرس يستن في طوله ، وقد كفأ على الدرع برمة ، وفوق البرمة رحل ، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها ، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يعني أبا بكر - فقل له : إن علي من الدين كذا وكذا ، وفلان من رقيقي عتيق وفلان ، فأتى الرجل خالدا فأخبره ، فبعث إلى الدرع فأتي بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته . قال : ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت ، رحمه الله ، ذكره أبو عمر في الاستيعاب .
الثانية : قوله تعالى : ولا تجهروا له بالقول أي لا تخاطبوه : يا محمد ، ويا أحمد . ولكن : يا نبي الله ، ويا رسول الله ، توقيرا له . وقيل : كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك . وقيل : لا تجهروا له أي : لا تجهروا عليه ، كما يقال : سقط لفيه ، أي : على فيه . كجهر بعضكم لبعض الكاف كاف التشبيه في محل النصب ، أي : لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض . وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها . أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون أي من أجل أن تحبط ، أي : تبطل ، هذا قول البصريين . وقال الكوفيون : أي : لئلا تحبط أعمالكم .
الثالثة : معنى الآية الأمر بتعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره ، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته ، أي : إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم ، وجهره باهرا لجهركم ، حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق . لا أن تغمروا صوته بلغطكم ، وتبهروا منطقه بصخبكم . وفي قراءة ابن مسعود ( لا ترفعوا بأصواتكم ) وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره - عليه السلام - . وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم ، إذ هم ورثة الأنبياء .
الرابعة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ميتا كحرمته حيا ، وكلامه المأثور بعد موته في الرقعة مثال كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قرئ كلامه ، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ، ولا يعرض عنه ، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به . وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا . وكلامه - صلى الله عليه وسلم - من الوحي ، وله من الحكمة مثل ما للقرآن ، إلا معان مستثناة ، بيانها في كتب الفقه .
الخامسة : وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة ; لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون . وإنما الغرض صوت هو في نفسه ، والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير . ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك ، ففي الحديث أنه قال - عليه السلام - للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين : ( اصرخ بالناس ) ، وكان العباس أجهر الناس صوتا . يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس : يا صاحباه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته ، وفيه يقول نابغة بني جعدة :
زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه .
السادسة : قال الزجاج : أن تحبط أعمالكم التقدير لأن تحبط ، أي : فتحبط أعمالكم ، فاللام المقدرة لام الصيرورة وليس قوله : أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع . كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله, لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام, وتغلظون له في الخطاب ( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) يقول: ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد, يا محمد, يا نبيّ الله, يا نبيّ الله, يا رسول الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) , قال لا تنادُوه نداء, ولكن قولا لينًا يا رسول الله.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) كانوا يجهرون له بالكلام, ويرفعون أصواتهم, فوعظهم الله, ونهاهم عن ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, كانوا يرفعون, ويجهرون عند النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, فوعظوا, ونهوا عن ذلك.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ )... الآية, هو كقوله : لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا نهاهم الله أن ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا وأمرهم أن يشرّفوه ويعظِّموه, ويدعوه إذا دعوه باسم النبوّة.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا زيد بن حباب, قال: ثنا أبو ثابت بن ثابت قيس بن الشماس, قال: ثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن شماس, عن أبيه, قال: لما نـزلت هذه الآية ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) قال: قعد ثابت في الطريق يبكي, قال: فمرّ به عاصم بن عديّ من بني العَجلان, فقال: ما يُبكيك يا ثابت؟ قال: لهذه الآية, أتخوّف أن تكون نـزلت فيّ, وأنا صيت رفيع الصوت قال: فمضى عاصم بن عديّ إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, قال: وغلبه البكاء, قال: فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أَبيّ ابن سلول, فقال لها: إذا دخلتُ بيت فرسي, فشدّي على الضبة بمسمار, فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله, أو يرضى عني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم; قال: وأتى عاصم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأخبره خبره, فقال: اذْهَبْ فادْعُهُ لي، فجاء عاصم إلى المكان, فلم يجده, فجاء إلى أهله, فوجده في بيت الفرس, فقال له: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يدعوك, فقال: اكسر الضَّبة, قال: فخرجا فأتيا نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما يُبكِيكَ يا ثابِتُ ؟ فقال: أنا صيت, وأتخوّف أن تكون هذه الآية نـزلت فيّ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أما تَرْضَى أنْ تَعيش حَمِيدًا, وَتُقْتَلَ شَهِيدًا, وَتَدْخُلَ الجَنَّةَ ؟ فقال: رضيت ببُشرى الله ورسوله, لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله, فأنـزل الله إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ... الآية.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا يعقوب, عن حفص, عن شمر بن عطية, قال: جاء ثابت بن قيس بن الشماس إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو محزون, فقال: يا ثابت ما الذي أرى بك ؟ فقال: آية قرأتها الليلة, فأخشى أن يكون قد حَبِط عملي ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) وكان في أُذنه صمم, فقال: يا نبيّ الله أخشى أن أكون قد رفعت صوتي, وجهرت لك بالقول, وأن أكون قد حبط عملي, وأنا لا أشعر: فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " امْشِ على الأرْضِ نَشِيطا فإنَّكَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن علية, قال: ثنا أيوب, عن عكرِمة, قال: لما نـزلت ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ )... الآية, قال ثابت بن قيس: فأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, وأجهر له بالقول, فأنا من أهل النار, فقعد في بيته, فتفقده رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, وسأل عنه, فقال رجل: إنه لجاري, ولئن شئت لأعلمنّ لك علمه, فقال: نعم, فأتاه فقال: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قد تفقدك, وسأل عنك, فقال: نـزلت هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ )... الآية وأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, وأجهر له بالقول, فأنا من أهل النار, فرجع إلى رسول الله فأخبره, فقال: بَلْ هُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ; فلما كان يوم اليمامة انهزم الناس, فقال: أفّ لهؤلاء وما يعبدون, وأفّ لهؤلاء وما يصنعون, يا معشر الأنصار خلوا لي بشيء لعلي أصلى بحرّها ساعة قال: ورجل قائم على ثلمة, فقَتل وقُتل.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزُّهريّ, أن ثابت بن قيس بن شماس, قال: لما نـزلت ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) قال: يا نبيّ الله, لقد خشيت أن أكون قد هلكت, نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك, وإني امرؤ جهير الصوت, ونهى الله المرء أن يحبّ أن يُحمد بما لم يفعل, فأجدني أحبّ أن أُحمد; ونهى الله عن الخُيَلاء وأجدني أحبّ الجمال; قال: فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا ثابت أما تَرْضَى أنْ تَعِيشَ حَمِيدًا, وَتُقْتَلَ شَهِيدًا, وَتَدْخُلَ الجَنَّةَ ؟ فعاش حميدا, وقُتل شهيدا يوم مُسَيلمة.
حدثني عليّ بن سهل, قال: ثنا مؤمل, قال: ثنا نافع بن عمر بن جميل الجمحي, قال: ثني ابن أَبي مليكة, عن الزبير, قال: " قدم وفد أراه قال تميم, على النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, منهم الأقرع بن حابس, فكلم أبو بكر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يستعمله على قومه, قال: فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله, قال: فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما عند النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, قال: فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي, قال: ما أردت خلافك. قال: ونـزل القرآن ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ )... إلى قوله وَأَجْرٌ عَظِيمٌ قال: فما حدّث عمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعد ذلك, فَيُسْمِعَ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, قال: وما ذكر ابن الزبير جدّه, يعني أبا بكر.
وقوله ( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ) يقول: أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لكم عليها, ولا جزاء برفعكم أصواتكم فوق صوت نبيكم, وجهركم له بالقول كجهر بعضكم لبعض.
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك, فقال بعض نحويي الكوفة: معناه: لا تحبط أعمالكم. قال: وفيه الجزم والرفع إذا وضعت " لا " مكان " أن ". قال: وهي في قراءة عبد الله ( فَتَحْبَطْ أَعْمَالُكُمْ ) وهو دليل على جواز الجزم, وقال بعض نحويي البصرة: قال: أن تحبط أعمالكم: أي مخافة أن تحبط أعمالكم وقد يقال: أسند الحائط أن يميل.
وقوله ( وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) يقول: وأنتم لا تعلمون ولا تدرون.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features