اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

{الله يستهزئ بهم}: أي يجازيهم جزاء استهزائهم.
سمي الجزاء باسمه لأنه في مقابلته، كما قال الله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [40-الشورى].
قال ابن عباس: "هو أن يفتح لهم باب من الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم، وردوا إلى النار".
وقيل: هو أن يضرب للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فإذا وصل المنافقون إليه حيل بينهم وبين المؤمنين، كما قال الله تعالى: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} [54-سبأ]، قال الله تعالى: {فضرب بينهم بسور له باب..} الآية [13-الحديد].
وقال الحسن: "معناه الله يُظْهِر المؤمنين على نفاقهم".
{ويمدهم}: يتركهم ويمهلهم.
والمد والإمداد واحد، وأصله الزيادة إلا أن المد أكثر ما يأتي في الشر، والإمداد في الخير، قال الله تعالى في المد: {ونمد له من العذاب مداً} [79-مريم]، وقال في الإمداد: {وأمددناكم بأموال وبنين} [6-الإسراء]، {وأمددناهم بفاكهة} [22-الطور].
{في طغيانهم}: أي في ضلالتهم. وأصله مجاوزة الحد، ومنه طغى الماء.
{يعمهون}: أي يترددون في الضلالة متحيرين.
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

قوله تعالى : الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون
قوله تعالى : الله يستهزئ بهم أي ينتقم منهم ويعاقبهم ، ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم ، فسمى العقوبة باسم الذنب . هذا قول الجمهور من العلماء ، والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم ، من ذلك قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلا أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى انتصاره جهلا ، والجهل لا يفتخر به ذو عقل ، وإنما قاله ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما . وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه ، وإن كان مخالفا له في معناه ، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة . وقال الله عز وجل : وجزاء سيئة سيئة مثلها . وقال : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والجزاء لا يكون سيئة . والقصاص لا يكون اعتداء ; لأنه حق وجب ، ومثله : ومكروا ومكر الله . و إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا . و إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم وليس منه سبحانه مكر ولا هزء ولا كيد . إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم ، وكذلك يخادعون الله وهو خادعهم . فيسخرون منهم سخر الله منهم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يمل حتى تملوا ولا يسأم حتى تسأموا . قيل : حتى بمعنى الواو أي وتملوا . وقيل : المعنى وأنتم تملون . وقيل : المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل . وقال قوم : إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزء وخدع ومكر ، حسب ما روي : ( إن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم ) . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا هم منافقو أهل الكتاب ، فذكرهم وذكر استهزاءهم ، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر - على ما تقدم قالوا : إنا معكم على دينكم إنما نحن مستهزئون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . الله يستهزئ بهم في الآخرة ، يفتح لهم باب جهنم من الجنة ، ثم يقال لهم : تعالوا ، فيقبلون يسبحون في النار ، والمؤمنون على الأرائك - وهي السرر - في الحجال ينظرون إليهم ، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم ، فيضحك المؤمنون منهم ، فذلك قول الله عز وجل : الله يستهزئ بهم أي في الآخرة ، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب ، فذلك قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون إلى أهل النار هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون . وقال قوم : الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم ، فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم ، ويستر عنهم من عذاب الآخرة ، فيظنون أنه راض عنهم ، وهو تعالى قد حتم عذابهم ، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع ، ودل على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج . ثم نزع بهذه الآية : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين . وقال بعض العلماء في قوله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون : كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة .
قوله تعالى : ويمدهم أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم ، كما قال : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وأصله الزيادة . قال يونس بن حبيب : يقال مد لهم في الشر ، وأمد في الخير ، قال الله تعالى : وأمددناكم بأموال وبنين . . وقال : وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون . وحكي عن الأخفش : مددت له إذا تركته ، وأمددته إذا أعطيته . وعن الفراء واللحياني : مددت ، فيما كانت زيادته من مثله ، يقال : مد النهر النهر ، وفي التنزيل : والبحر يمده من بعده سبعة أبحر . وأمددت ، فيما كانت زيادته من غيره ، كقولك : أمددت الجيش بمدد ، ومنه : يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة . وأمد الجرح ; لأن المدة من غيره ، أي صارت فيه مدة .
قوله تعالى : في طغيانهم : كفرهم وضلالهم . وأصل الطغيان مجاوزة الحد ، ومنه قوله تعالى : إنا لما طغى الماء أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخزان . وقوله في فرعون : إنه طغى أي أسرف في الدعوى حيث قال : أنا ربكم الأعلى .
والمعنى في الآية : يمدهم بطول العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم .
قوله تعالى : يعمهون يعمون . وقال مجاهد : أي يترددون متحيرين في الكفر . وحكى أهل اللغة : عمه الرجل يعمه عموها وعمها فهو عمه وعامه إذا حار ، ويقال رجل عامه وعمه : حائر متردد ، وجمعه عمه . وذهبت إبله العمهى إذا لم يدر أين ذهبت . والعمى في العين ، والعمه في القلب ، وفي التنزيل : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

قال تعالى: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذا جزاء لهم, على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة, حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا, فإذا مشي المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين, فما أعظم اليأس بعد الطمع، { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } الآية. قوله: { وَيَمُدُّهُمْ } أي: يزيدهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي: فجورهم وكفرهم، { يَعْمَهُونَ } أي: حائرون مترددون, وهذا من استهزائه تعالى بهم.
 
آيــات | Ayat

آيــــات - القرآن الكريم Holy Quran - مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود

هذه هي النسخة المخففة من المشروع - المخصصة للقراءة والطباعة - للاستفادة من كافة المميزات يرجى الانتقال للواجهة الرئيسية
This is the light version of the project - for plain reading and printing - please switch to Main interface to view full features