وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحلف بالله هؤلاء العادلون بالله جَهْد حَلِفهم, وذلك أوكدُ ما قدروا عليه من الأيمان وأصعبُها وأشدُّها (53) =(لئن جاءتهم آية)، يقول: قالوا: نقسم بالله لئن جاءتنا آية تصدِّق ما تقول، يا محمد، مثلُ الذي جاء مَنْ قبلنا من الأمم =(ليؤمنن بها)، يقول: قالوا: لنصدقن بمجيئها بك, وأنك لله رسولٌ مرسل, وأنّ ما جئتنا به حقُّ من عند الله .
وقيل: " ليؤمنن بها ", فأخرج الخبر عن " الآية "، والمعنى لمجيء الآية .
يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل إنما الآيات عند الله)، وهو القادر على إتيانكم بها دون كل أحد من خلقه =(وما يشعركم)، يقول: وما يدريكم (54) =(أنها إذا جاءت لا يؤمنون) ؟
* * *
وذكر أن الذين سألوه الآية من قومه، هم الذين آيس الله نبيَّه من إيمانهم من مشركي قومه .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
13744- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها)، إلى قوله: يَجْهَلُونَ ، سألت قريش محمدًا أن يأتيهم بآية, واستحلفهم: ليؤمننّ بها .
13745- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح: (لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها)، ثم ذكر مثله .
13746- حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي قال: كلّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا, (55) فقالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصًا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا, وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى, وتخبرنا أن ثَمُود كانت لهم ناقة، فأتنا بشيء من الآيات حتى نصدقك ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيَّ شيء تحبُّون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعَلُ لنا الصَّفَا ذهبًا. فقال لهم: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله، لئن فعلت لنتبعنّك أجمعين ! (56) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو, فجاءه جبريل عليه السلام فقال له: لك ما شئت، (57) إن شئتَ أصبح ذهبًا, ولئن أرسل آيةً فلم يصدقوا عند ذلك لنعذبنَّهم, وإن شئت فأنْدِحْهُم حتى يتوب تائبهم . (58) فقال: بل يتوب تائبهم . فأنـزل الله تعالى: (وأقسموا بالله) إلى قوله: يَجْهَلُونَ .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون).
فقال بعضهم: خوطب بقوله: (وما يشعركم) المشركون المقسمون بالله، لئن جاءتهم آية ليؤمنن= وانتهى الخبر عند قوله: (وما يشعركم)، ثم استُؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافًا مبتدأ .
* * *
* ذكر من قال ذلك:
13747- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (وما يشعركم)، قال: ما يدريكم . قال: ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون .
13748- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (وما يشعركم)، وما يدريكم=" أنها إذا جاءت "، قال: أوجب عليهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون .
13749- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، سمعت عبد الله بن زيد يقول: إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ , ثم يستأنف فيقول: إنها إذا جاءت لا يؤمنون .
13750- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: " إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ" ، وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت. ثم استقبل يخبر عنهم فقال: إذا جاءت لا يؤمنون .
* * *
وعلى هذا التأويل قراءةُ من قرأ ذلك بكسر ألف: " إنَّها "، على أن قوله: " إِنَّهَا إِذَا جَاءَتَ لا يُؤْمِنُون "، خبر مبتدأ منقطعٌ عن الأول.
* * *
وممن قرأ ذلك كذلك، بعضُ قرأة المكيين والبصريين .
* * *
وقال آخرون منهم: بل ذلك خطابٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قالوا: وذلك أنّ الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآيةٍ, المؤمنون به . قالوا: وإنما كان سببَ مسألتهم إيّاه ذلك، أن المشركين حَلَفوا أنّ الآية إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا رسول الله ربك ذلك ! فسأل, فأنـزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك: " قُلْ" للمؤمنين بك يا محمد=" إنما الآيات عند الله وما يشعركم "، أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله، أنهم لا يؤمنون به= ففتحوا " الألف " من " أنّ" .
* * *
ومن قرأ ذلك كذلك، عامة قرأة أهل المدينة والكوفة, وقالوا: أدخلت " لا " في قوله: (لا يؤمنون) صلة, (59) كما أدخلت في قوله: مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ ، [سورة الأعراف: 12]، وفي قوله: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، [سورة الأنبياء: 95]، وإنما المعنى: وحرام عليهم أن يرجعوا= وما منعك أن تسجُد .
* * *
وقد تأوَّل قوم قرؤوا، ذلك بفتح " الألف " من (أنها) بمعنى: لعلها. وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبيّ بن كعب .
* * *
وقد ذكر عن العرب سماعًا منها: " اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئًا ", بمعنى: لعلك تشتري. (60)
وقد قيل: إن قول عدي بن زيد العِبَاديّ:
أَعَــاذِلَ, مَــا يُـدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِـي
إلَـى سَاعَةٍ فِي الْيَومِ أَوْ فِي ضُحَى الغَدِ (61)
بمعنى: لعل منيَّتي; وقد أنشدوا في بيت دريد بن الصمة: (62)
ذَرِينِـي أُطَـوِّفْ فِـي البِـلادِ لأَنَّنِـي
أَرَى مَــا تَـرَيْنَ أَوْ بَخِـيلا مُخَـلَّدَا (63)
بمعنى: لعلني . والذي أنشدني أصحابُنا عن الفراء: " لعلَّني أَرَى ما ترَيْن " . وقد أنشد أيضًا بيتُ توبة بن الحميِّر:
لَعَلَّـك يَـا تَيْسًـا نـزا فـيِ مَرِيـرَةٍ
مُعَــذِّبُ لَيْـلَى أَنْ تَـرَانِي أَزُورُهَـا (64)
" لهَنَّك يا تيسًا ", بمعنى: " لأنّك " التي في معنى " لعلك "، وأنشد بيت أبي النجم العجليّ:
قُلْــتُ لِشَــيْبَانَ ادْنُ مِــنْ لِقَائِـهِ
أَنَّــا نُغَــدِّي القَـوْمَ مِـنْ شِـوَائِهِ (65)
بمعنى: (66) لعلنا نغدِّي القوم .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية, قولُ من قال: ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله= أعنى قوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) = وأن قوله: " أنها "، بمعنى: لعلَّها .
وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لاستفاضة القراءة في قرأة الأمصار بالياء من قوله: (لا يؤمنون) .
ولو كان قوله: (وما يشعركم) خطابًا للمشركين, لكانت القراءة في قوله: (لا يؤمنون)، بالتاء, وذلك، وإن كان قد قرأه بعض قرأة المكيين كذلك, فقراءةٌ خارجة عما عليه قرأة الأمصار, وكفى بخلاف جميعهم لها دليلا على ذهابها وشذوذها . (67)
* * *
وإنما معنى الكلام: وما يدريكم، أيها المؤمنون، لعل الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون، فيعاجلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك، ولا يؤخَّروا به .
----------------------
الهوامش :
(53) انظر (( أقسم )) و (( جهد أيمانهم )) فيما سلف 10 : 407 - 409 ، ولم يفسرهما .
(54) انظر تفسير (( أشعر )) فيما سلف 11 : 316 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك . وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 204 .
(55) في المطبوعة : (( قريش )) بالرفع ، والصواب من المخطوطة .
(56) في المطبوعة : (( أجمعون )) ، والصواب من المخطوطة .
(57) في المطبوعة أسقط (( له )) ، وهي في المخطوطة .
(58) في المطبوعة : (( فاتركهم حتى يتوب تائبهم )) ، وفي المخطوطة : (( ما نرحهم )) ، غير منقوطة ، ورجحت أن صواب ما أثبت ، وإن كنت لم أجد هذا الحرف في كتب اللغة ، وهو عندي من قولهم : (( ندحت الشيء ندحا )) ، إذ أوسعته وأفسحته ، ومنه قيل : (( إن لك في هذا الأمر ندحة )) ( بضم النون وفتحها وسكون الدال ) و(( مندوحة )) ، أي : سعة وفسحة . فقولهم : (( أندحهم )) ، أي : أفسح لهم ، واجعل لهم مندوحة في هذا الأمر حتى يتوب تائبهم . وهو حق المعنى إن شاء الله ، والقياس يعين عليه .
(59) (( الصلة )) . الزيادة ، والإلغاء ، انظر فهارس المصطلحات .
(60) انظر في هذا معاني القرآن للفراء 1 : 349 ، 350 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 204 .
(61) جمهرة أشعار العرب 103 ، اللسان ( أنن ) ، وغيرهما . من قصيدة له حكيمة ، يقول قبله : وعَاذِلَــةٍ هَبَّــتْ بِلَيْــلٍ تَلُـوُمُنِي
فَلَمَّـا غَلَتْ فِي الَّلوْمِ قُلْتُ لها : اقْصِدي
أعَـاذِلَ ، إن اللَّـوْمَ فـي غـير كُنْهِهِ
عَــلَيّ ثُنًـى ، مِـنْ غَيِّـكِ المُـتَرَدِّدِ
أعَـاذِلَ ، إنَّ الجـهْل مِـنْ لَـذَّةِ الفَتَى
وَإنَّ المَنَايَــا لِلرِّجَـــالِ بِمَرْصَــدِ
أعَـاذِلَ ، مَـا أَدْنَـى الرشادَ مِنَ الفَتَى
وأَبْعَـــدَهُ مِنْــهُ إِذَا لَــمْ يُسَــدَّدِ
أعَـاذِلَ ، مـن تُكْـتَبْ لَـهُ النَّارُ يَلْقَهَا
كِفِاحًـا ، وَمَـنْ يُكْـتَبْ لَهُ الفَوْزُ يُسْعَدِ
أَعَـاذِلَ ، قـد لاقيـتُ مـا يَزَغُ الفتى
وَطَـابَقْتُ فـي الحِجْــلَيْنِ مَشْيَ المُقيَّدِ
(62) في المطبوعة : (( وقد أنشدوني )) ، وأثبت ما في المخطوطة .
(63) هكذا جاء البيت في المخطوطة والمطبوعة ، وهو خطأ من أبي جعفر ، أو من الفراء ، بلا شك فإن الشطر الأخير من هذا الشعر ، هو من شعر حطائط بن يعفر ، وقد خرجته آنفًا 3 : 78 ، واستوفيت الكلام عنه هناك ، وأشرت إلى الموضع من اختلاف الشعر . وأما قوله : (( ذريتي أطوف واستوفيت الكلام عنه هناك ، وأشرت إلى هذا الموضع من اختلاف الشعر . وأما قوله : (( ذريني أطوف في البلاد لعلني )) ، فهو كثير في أشعارهم ، وأما شعر دريد بن الصمة الذي لاشك فيه ، فهو هذا :
ذَرِينِـي أُطَـوِّفْ فِـي البِـلادِ لَعَلَّنِـي
ألاَُقِــي بِـإثْرٍ ثُلـةً مـن مُحَـارِبٍ
ولعل أبا جعفر نسي ، فكتب ما كتب . وشعر دريد هذا مروي في الأصمعيات ص12 ( ص : 119 ، طبعة المعارف ) ، من قصيدة قالها بعد مقتل أخيه عبد الله ، ذكر فيها ما أصاب خضر محارب من القتل والاستئصال ، يقول قبله :
فَلَيْــتَ قُبُـورًا بالمَخَاضَـةِ أَخْـبَرَتْ
فَتُخْـبِرَ عَنَّـا الخُضْرَ ، خُضْرَ مُحَارِبِ
رَدَسْــنَاهُمُ بِــالخَيْلِ حَـتى تَمـلأََّتْ
عَـوَافِي الضِّبَـاعِ وَالذِّئَـابِ السَّوَاغِبِ
ذَرِينِـــي أُطَــوِّف...............
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(64) من قصيدة فيما جمعته من شعره ، وسيبويه 1 : 312 . يقول ذلك لزوج ليلى الأخيلية صاحبته ، يتوعده لمنعه من زيارتها ، وتعذيبه في سببه ، ويجعله كالتيس ينزو في حبله . وقوله (( في مريرة )) ، (( المريرة )) الحبل المفتول المحكم الفتل .
(65) المعاني الكبير لابن قتيبة : 393 ، الخزانة 3 : 591 ، وروايتها (( كما نغدي )) قال ابن قتيبه : ( قال أبو المجم وذكر ظليما ... (( شيبان )) ابنه ، قلت له : اركب في طلبه . (( كما )) بمعنى (( كيما )) ، يقول : كيما نصيده فنغدي القوم به مشويًا ) .
وكان البيت في المخطوطة غير منقوط ، وفي المطبوعة : (( قلت لسيبان )) ، وهو خطأ . وفيها وفي المخطوطة : (( من سرايه )) ، والصواب ما أثبت .
(66) في المطبوعة : (( يعني )) ، وأثبت ما في المخطوطة .
(67) قوله : (( ذهابها )) ، أي هلاكها وفسادها .