الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
القول في تأويل قوله : الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: " الصابرين "، الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس.
ويعني بـ" الصادقين "، الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرارَ به وبرسوله وما جاء به من عنده، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه.
ويعني بـ" القانتين "، المطيعين له.
* * *
وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها، وبالأخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
وقد كان قتادة يقول في ذلك بما:-
6752 - حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين "،" الصادقين ": قوم صدَقت أفواههم واستقامت قُلوبهم وألسنتهم، وصَدقوا في السرّ والعلانية =" والصابرين "، قوم صبروا على طاعة الله، وصَبروا عن محارمه =" والقانتون "، هم المطيعون لله.
* * *
وأما " المنفقون "، فهم المؤتون زكوات أموالهم، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جل ثناؤه بإنفاقها فيها. (4)
* * *
وأما " الصابرين " و " الصادقين "، وسائر هذه الحروف، فمخفوض ردًا على قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا ، والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ خفض، ردًّا على قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ . (5)
* * *
القول في تأويل قوله : وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم.
فقال بعضهم: هم المصلون بالأسحار.
ذكر من قال ذلك:
6753 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " والمستغفرين بالأسحار "، هم أهل الصلاة.
6754 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة: " والمستغفرين بالأسحار "، قال: يصلون بالأسحار.
* * *
وقال آخرون: هم المستغفرون.
ذكر من قال ذلك:
6755 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حريث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحرٌ، فاغفر لي. فنظرت فإذا ابنُ مسعود. (6)
6756 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن قول الله عز وجل: " والمستغفرين بالأسحار "، قال: حدثني سليمان بن موسى قال، حدثنا نافع: أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاةً ثم يقول: يا نافع، أسحَرْنا؟ فيقول: لا. فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم! قعد يستغفر ويدعو حتى يُصْبح.
6757 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بعض البصريين، عن أنس بن مالك قال: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة.
6758 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو يعقوب الضبي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من صلَّى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة، كتب من المستغفرين بالأسحار.
* * *
وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصّبح في جماعة.
ذكر من قال ذلك:
6759 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال، (7) حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال، قلت لزيد بن أسلم: مَنْ" المستغفرين بالأسحار "، قال: هم الذين يشهدون الصّبح.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله: " والمستغفرين بالأسحار "، قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها.
* * *
=" بالأسحار " وهى جمع " سَحَر ".
* * *
وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء. وقد يحتمل أن يكون معناه: تعرّضهم لمغفرته بالعمل والصلاة، غيرَ أنّ أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء.
---------------------------
الهوامش :
(3) انظر تفسير"الصابرين" فيما سلف 2: 11 / ثم 3: 214 ، 349 = وتفسير"الصادقين" فيما سلف 3: 356 = وتفسير"القانتين" فيما سلف 2: 538 ، 539 / ثم 5: 228-237.
(4) انظر تفسير"الإنفاق" فيما سلف: 5: 555 ، 580.
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 199.
(6) الأثر: 6755-"حريث بن أبي مطر عمرو الفزاري ، أبو عمر الحناط" روى عن الشعبي والحكم بن عتيبة ، وروى عنه شريك ، وابن نمير ، ووكيع ، قال ابن معين: "لا شيء" ، وقال أبو حاتم"ضعيف الحديث". وقال البخاري: "فيه نظر ، ليس بالقوي عندهم". وعلق له البخاري في الأضاحي ، مترجم في التهذيب. وأما "إبراهيم بن حاطب" فلم أجد له ولا لأبيه"حاطب" ترجمة ، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو سقط ، وأن يكون"حاطب" هذا ، هو"حاطب بن أبي بلتعة" صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأثر بنصه هذا في تفسير ابن كثير 2: 113 ، ولم يقل فيه شيئًا.
(7) أخوه هو: "عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي القعنبي" ، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود.