أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا قال مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية ثم تلد غلاما ثم تلد جارية . وقال محمد بن الحنفية : هو أن تلد توأما ، غلاما وجارية ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا . قال القتبي : التزويج هاهنا هو الجمع بين البنين والبنات ، تقول العرب : زوجت إبلي إذا جمعت بين الكبار والصغار .
ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير أي لا يولد له ، يقال : رجل عقيم ، وامرأة عقيم . وعقمت المرأة تعقم عقما ، مثل حمد يحمد . وعقمت تعقم ، مثل عظم يعظم . وأصله القطع ، ومنه الملك العقيم ، أي : تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق خوفا على الملك . وريح عقيم ، أي : لا تلقح سحابا ولا شجرا . ويوم القيامة يوم عقيم ; لأنه لا يوم بعده . ويقال : نساء عقم وعقم ، قال الشاعر [ هو أبو هبل ] :
عقم النساء فما يلدن شبيهه إن النساء بمثله عقم
وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصا وإن عم حكمها . وهب للوط الإناث ليس معهن ذكر ، ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى ، ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث ، وجعل عيسى ويحيى عقيمين ، ونحوه عن ابن عباس وإسحاق بن بشر . قال إسحاق : نزلت في الأنبياء ، ثم عمت . يهب لمن يشاء إناثا يعني لوطا - عليه السلام - ، لم يولد له ذكر وإنما ولد له ابنتان . ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم - عليه السلام - لم يولد له أنثى بل ولد له ثمانية ذكور . أو يزوجهم ذكرانا وإناثا يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولد له أربعة بنين وأربع بنات . ويجعل من يشاء عقيما يعني يحيى بن زكريا عليهما السلام ، لم يذكر عيسى . ابن العربي : قال علماؤنا يهب لمن يشاء إناثا يعني لوطا كان له بنات ولم يكن له ابن . ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم ، كان له بنون ولم يكن له بنت . وقوله : أو يزوجهم ذكرانا وإناثا يعني آدم ، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ذكرا وأنثى . ويزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر ، حتى أحكم الله التحريم في شرع نوح صلى الله عليه وسلم . وكذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - كان له ذكور وإناث ؛ من الأولاد : القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وزينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة ، وكلهم من خديجة رضي الله عنها ، وإبراهيم وهو من مارية القبطية . وكذلك قسم الله الخلق من لدن آدم إلى زماننا هذا ، إلى أن تقوم الساعة ، على هذا التقدير المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة ، ليبقى النسل ، ويتمادى الخلق ، وينفذ الوعد ، ويحق الأمر ، وتعمر الدنيا ، وتأخذ الجنة وجهنم كل واحدة ما يملؤها ويبقى . ففي الحديث : إن النار لن تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتقول قط قط . وأما الجنة فيبقى منها فينشئ الله لها خلقا آخر .
الثانية : قال ابن العربي : إن الله تعالى لعموم قدرته وشديد قوته يخلق الخلق ابتداء من غير شيء ، وبعظيم لطفه وبالغ حكمته يخلق شيئا من شيء لا عن حاجة ، فإنه قدوس عن الحاجات سلام عن الآفات ، كما قال القدوس السلام ، فخلق آدم من الأرض وخلق حواء من آدم وخلق النشأة من بينهما منهما مرتبا على الوطء كائنا عن الحمل موجودا في الجنين بالوضع ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، أذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا . وكذلك في الصحيح أيضا : إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله .
قلت : وهذا معنى حديث عائشة لا لفظه خرجه مسلم من حديث عروة بن الزبير عنها أن امرأة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء ؟ فقال : ( نعم ) فقالت لها عائشة : تربت يداك وألت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دعيها وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك . إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه . قال علماؤنا : فعلى مقتضى هذا الحديث أن العلو يقتضي الشبه ، وقد جاء في حديث ثوبان خرجه مسلم أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لليهودي : ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله . . . الحديث . فجعل في هذا الحديث أيضا العلو يقتضي الذكورة والأنوثة ، فعلى مقتضى الحديثين يلزم اقتران الشبه للأعمام والذكورة إن علا مني الرجل ، وكذلك يلزم إن علا مني المرأة اقتران الشبه للأخوال والأنوثة ، لأنهما معلولا علة واحدة ، وليس الأمر كذلك بل الوجود بخلاف ذلك ، لأنا نجد الشبه للأخوال والذكورة والشبه للأعمام والأنوثة فتعين تأويل أحد الحديثين . والذي يتعين تأويله الذي في حديث ثوبان فيقال : إن ذلك العلو معناه سبق الماء إلى الرحم ، ووجه أن العلو لما كان معناه الغلبة من قولهم سابقني فلان فسبقته أي : غلبته ، ومنه قوله تعالى : وما نحن بمسبوقين أي : بمغلوبين ، قيل عليه علا . ويؤيد هذا التأويل قوله في الحديث : إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا .
وقد بنى القاضي أبو بكر بن العربي على هذه الأحاديث بناء فقال : إن للماءين أربعة أحوال : الأول : أن يخرج ماء الرجل أولا ، الثاني : أن يخرج ماء المرأة أولا ، الثالث : أن يخرج ماء الرجل أولا ويكون أكثر ، الرابع : أن يخرج ماء المرأة أولا ويكون أكثر . ويتم التقسيم بأن يخرج ماء الرجل أولا ثم يخرج ماء المرأة بعده ويكون أكثر أو بالعكس ، فإذا خرج ماء الرجل أولا وكان أكثر جاء الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه الولد أعمامه بحكم الكثرة . وإن خرج ماء المرأة أولا وكان أكثر جاء الولد أنثى بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم الغلبة . وإن خرج ماء الرجل أولا لكن لما خرج ماء المرأة بعده كان أكثر كان الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم غلبة ماء المرأة ، وإن سبق ماء المرأة لكن لما خرج ماء الرجل كان أعلى من ماء المرأة ، كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة وأشبه أعمامه بحكم غلبة ماء الرجل . قال : وبانتظام هذه الأقسام يستتب الكلام ويرتفع التعارض عن الأحاديث ، فسبحان الخالق العليم .
الثالثة : قال علماؤنا : كانت الخلقة مستمرة ذكرا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى فأتي به فريض العرب ومعمرها عامر بن الظرب فلم يدر ما يقول فيه وأرجأهم عنه ، فلما جن عليه الليل تنكر موضعه ، وأقض عليه مضجعه ، وجعل يتقلب ويتقلب ، وتجيء به الأفكار وتذهب ، إلى أن أنكرت خادمه حاله فقالت : ما بك ؟ قال لها : سهرت لأمر قصدت به فلم أدر ما أقول فيه ؟ فقالت ما هو ؟ قال لها : رجل له ذكر وفرج كيف يكون حاله في الميراث ؟ قالت له الأمة : ورثه من حيث يبول ، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم وانقلبوا بها راضين . وجاء الإسلام على ذلك فلم تنزل إلا في عهد علي - رضي الله عنه - فقضى فيها . وقد روى الفرضيون عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن مولود له قبل وذكر من أين يورث ؟ قال : من حيث يبول . وروي أنه أتي بخنثى من الأنصار فقال : ورثوه من أول ما يبول . وكذا روى محمد بن الحنفية عن علي ، ونحوه عن ابن عباس ، وبه قال ابن المسيب وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ، وحكاه المزني عن الشافعي . وقال قوم : لا دلالة في البول ، فإن خرج البول منهما جميعا قال أبو يوسف : يحكم بالأكثر . وأنكره أبو حنيفة وقال : أتكيله! ولم يجعل أصحاب الشافعي للكثرة حكما . وحكي عن علي والحسن أنهما قالا : تعد أضلاعه ، فإن المرأة تزيد على الرجل بضلع واحد . وقد مضى ما للعلماء في هذا في آية المواريث في ( النساء ) مجودا والحمد لله .
الرابعة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : وقد أنكر قوم من رءوس العوام وجود الخنثى ، لأن الله تعالى قسم الخلق إلى ذكر وأنثى . قلنا : هذا جهل باللغة ، وغباوة عن مقطع الفصاحة ، وقصور عن معرفة سعة القدرة . أما قدرة الله سبحانه فإنه واسع عليم ، وأما ظاهر القرآن فلا ينفي وجود الخنثى ; لأن الله تعالى قال : لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء فهذا عموم مدح فلا يجوز تخصيصه ; لأن القدرة تقتضيه . وأما قوله : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات ، وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول ، والوجود يشهد له والعيان يكذب منكره ، وقد كان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الإمام الشهيد من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية ، فربك أعلم به ، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله ، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله .